حين تُسأل الفنانة التشكيلية اللبنانية زينة نادر متى بدأت الرسم، تجيب: «قبل أن أولد!»، فالرسم «سبق» ولادتها، وتحوّل إلى حاجة، أسوةً بالطعام والماء. «خلقُ الفنّ» تعدُّه نعمة كبرى يمنح قدرة على صناعة الجمال. وفي معارضها تتأمّل الوجوه رغبةً في أن تلمحها «سعيدة» بما تُعاين، يصبح تحقُّق الفرح بأهمية اقتناء لوحة، ولا يعود البيع هو وحده الغاية، بل إيصال المشاعر.
والدها فنان ومهندس معماري، وأخوها أيضاً، تُشارك «الشرق الأوسط» حكاية نشأتها في عائلة فنية مهَّدت لها الطريق: «رافق ذلك تهذيب الذوق بالموسيقى الكلاسيكية والأوبرا. كبرتُ وصورة والدي في مرسمه تُرافقني، وصوت أمي المُشجِّع يرنّ في أذني، تلقّيتُ دروساً مسرحية وسينمائية، وصقلتُ رسمي العفوي بتقنيات نهلتُها من الفنان الراحل حيدر حموي، عملتُ معه ساعات يومياً، منه تعلّمتُ التقنية، لكنني عثرتُ على أسلوبي».
بدأت ترسم لتلهو، وأرادت بالألوان تمضية الوقت، وجدت في ذلك متعة تُشاركها مع أولادها، فترسم لتبادل البهجة، وقبل الاحتراف، حين لم يكن هدفاً، مرَّرَت ريشتها على كل ما في المُتناوَل؛ الزجاج، والمناشف، وشراشف الطاولات، والثياب، ورسمت لأصدقائها في الأعياد والمناسبات، إلى أن كانت الخطوة التالية، حيث شاركت بمعارض جماعية في لبنان، وبدأت لوحاتُها تُباع، حدوث البيع فرض التعمُّق بالتقنيات، والانتقال من العرض الجماعي إلى الفردي، كان ذلك قبل 20 عاماً، اليوم تعرض في لبنان وأميركا وإيطاليا... ولوحاتها تحضُر في لندن ودبي وشيكاغو.
تحوَّل رسم زينة نادر من الانطباعي إلى التشخيصي، قبل أن تجد في التجريدي مساحة للنضج الإبداعي. عام 2022 احتفلت بمعرضها المائة بمدينة برشلونة، وتعود للتوّ من واشنطن بعد معرض تصفه بـ«الناجح جداً، وقمّة فنّي التجريدي في الوقت الراهن».
في التجريد مشاعر و«استفزاز» لجَعْل المتلقّي يتساءل. تقول إنّ هذا الصنف من الفنّ المعاصر مطلوب في الولايات المتحدة وأوروبا، وقد نقلها إلى «موجة أخرى، ووسَّع الحلم»، لنقف عند تلك المشاعر، بأيّ تجلّيات تتمدّد فيها وبأي شكل تتخزّن؟ تجيب: «حين أرسم يحدُث انفصالي عما حولي، أنسى الزمن والواقع، أكون في عالمي، على غيمتي، مُحاطة بالفرح، ومنه أغرفُ من روحي ولادة اللوحة، من هذا الفرح أعطي فرحاً آخر، فيلمسه مُتأمّل اللوحة».
قد يعتريها إحساسٌ تمنحه للوحة، فيأتي الرائي ليُسقط إحساساً مغايراً؛ إحساسه هو، أو يرى «الشيء المختلف»، هنا متعة التجريد المُصاحِب لشطحات التخيُّل، تناسُق خيالات الرسّامة مع المتلقّي لا يعود مهماً عند هذه المرتبة، الأهم أنّ التواصل تمَّ لمجرّد لَمْس الأحاسيس الداخلية.
لكل معرض موضوعه، وفكرة «الحواس» تتصدَّر معظم المواضيع، تتجاوز كونها خمساً عند زينة نادر، لتلتحق بها «الحاسة السادسة» في سيمفونية تأليف اللون وصوغ المادة: «بالألوان أشعر كل شيء؛ نظري، وسمعي، وشمّي، ولمسي، ومذاقي، تُحرّكها الألوان منذ طفولتي؛ لذا أعبِّر بها بوضوح، في أحد معارضي تناولتُ ثنائية الحاسة - اللون، وجميع معارضي مأخوذة تقريباً بها».
وبالموسيقى مزجَت اللون في معرض سمّته «ميوزيكالتي»، سألها العازف اللبناني طوني كرم رَسْم ما يُحاكي 16 معزوفة أدّاها لأساطرة، منهم باخ وشوبان، قلَبا المعادلة، باتت اللوحات تُسمع والموسيقى تُرى، وفي معرض بيروتي آخر، تناولت لوحاتها نظرتها السينماتوغرافية للفنّ التشكيلي. تقول: «حين أُحضّر لمعرض أعيش الحالة، أتخيّل الزوّار الآتين وكيف يعاينون اللوحات وفق خلفياتهم، أكون كلّي للوحة وحيّز عرضها».
تعمل حالياً على فكرة التجريد المينيمالي، تكثُر ألوان لوحاتها في فضاء مُبسَّط تقلّ طبقاته، ويخلو تقريباً من الهيكلية، تشاء من ذلك إعلاء الاستراحة والصمت، ففي اللوحة نقيضُ الوقت المتآكل؛ إذ تدلُّ على الاستعادة، والتعويض، والقيمة، ومن ذروة «التجريد الكامل»، تخترق المشهدَ بيوتٌ صغيرة وبعض الأشجار. فزينة نادر لم يغادرها البيت اللبناني وقرميده الأحمر، ولمحت معالِم جذورها في شوارع واشنطن حيث عرَضَت، واصفةً المدينة بالهادئة التي تبعث على السلام.
وتُبحر مَراكب وسط ما يتراءى «مشحة لون»، أي الألوان غير المفهومة وسط السياق القابل للتأويل، تقول إنّ اللون الزاهي يُشكّل انعكاساً لشخصيتها، منطلقةً من يقينها بأنّ الفنّ «فرصة رائعة وأمان»، بالإضافة إلى «فرح الألوان»، تُحمِّل بعض اللوحات «روح المغامرة» المتجسِّدة خصوصاً بالسفر والاكتشاف. ولكن ما يُلهمها؟ «كل ما حولي؛ المنظر الطبيعي، والغروب، والموسيقى، والغيوم، والحديث مع الآخرين، المهم أن تنمو في داخلنا روح مستعدَّة للتلقُّف، ومنفتحة على الأخذ والعطاء».
وتهتمّ أيضاً بالكتابة، فالقلم والريشة يُحدِثان التعبير المتوازي، تكتب لتُعرّف عن الفنّ والفنانين بعد زيارة معارضهم، وتروي تجاربها في كتبها: «الفنّ ليس عنّي فقط، وليس لي، إنه تَشارُك وإعلانٌ للحقيقة».