«استوديو بعلبك» وأشياء أخرى في متناول الجميع

معرض بمناسبة إطلاق منصّة تقيمه «أمم للتوثيق والأبحاث»

ملصق المعرض (أمم)
ملصق المعرض (أمم)
TT

«استوديو بعلبك» وأشياء أخرى في متناول الجميع

ملصق المعرض (أمم)
ملصق المعرض (أمم)

ليست المرّة الأولى التي تُخرج فيها مؤسّسة «أمم للتوثيق والأبحاث» في بيروت كنوزها الأرشيفية وتعرضها لعموم الناس، فهذه مهمّتها وأحد أهدافها. وهي بين الحين والآخر، تنظّم المعارض ليتسنّى للجمهور العريض المعني بهذا التراث أن يعاين عن قرب بعضاً مما ينام في الأدراج، وعلى الأرفف، وفي صناديق المحفوظات.

لبنان من دول المنطقة التي عاشت تقاطعات ثقافية غنية وصاخبة حدّ الصدام، مما يجعل هذه المحفوظات، لا سيما بينها السينمائية والصوتية والصحافية والكتب، مهمّة لكثيرين، لأنها تشكّل جزءاً من ضميرهم وماضيهم.

وفي يوم الأرشيف العالمي، 6 يونيو (حزيران)، افتتحت مؤسّسة «أمم» في «الهنغار» معرضاً جديداً اطّلع خلاله روّادها على جزء إضافي من أرشيف «استوديو بعلبك»، حيث انتصبت 3 شاشات تمرّ عليها مقتطفات من أفلام كان قد أنتجها هذا الاستوديو الشهير الذي تأسّس في خمسينات القرن الماضي، لكن نهايته كانت بائسة، وتمكّنت «أمم» من إنقاذ ما بقي منه. والجمهور مدعو لاكتشاف جانب من هذا التاريخ الفنّي. وكانت «أمم» قد عرضت مجموعة أولى من هذا الأرشيف قبل سنوات.

وتعرض المؤسّسة أيضاً بهذه المناسبة، من أرشيفها الصوتي، مجموعة حلقات من برنامج الإعلامي اللبناني شريف الأخوي الإذاعية بعد رقمنتها. وهو المذيع الذي لم يكن صوته يغيب عن اللبنانيين أيام الحرب الأهلية، يدلّهم إلى الطرق الآمنة التي بمقدورهم أن يسلكوها، وأرشيفه هو أيضاً تسجيلات حيّة لقصص الحرب، ومكالمات المهجّرين، وحكايات المتألّمين من جور المسلّحين والمعارك خلال تلك الحقبة.

كما يكتشف الزائر أغلفة كتب قديمة، ومجلات لم تعد تصدُر، وصوراً مثيرة للفضول، ورسائل ووثائق مكتوبة، ودوريات، وتسجيلات، وغيرها.

آلة سينمائية بقيت من «استوديو بعلبك» (أمم)

ويتزامن المعرض مع إطلاق «أمم» نسخة جديدة من فهرس أرشيفها «أمم بيبليو»، وإغناء منصّتها الإنترنتية بمزيد من المحفوظات التي صارت منشورة ومتاحة للجميع.

وسعت المؤسّسة منذ نشأتها عام 2005 إلى وضعِ محفوظاتها الأرشيفيّة التي تشمل دوريّات ومنشورات ووثائق مكتوبة ومواد سمعيّة وبصرية، وصوراً يتعلّق معظمها بلبنان وتاريخه الحديث، تحت تصرُّف الراغبين في استخدامها. والمنصّة توفّر موادها بنسختيها العربية للمحتوى العربي، والإنجليزية للمحتويات باللغات الأخرى؛ ومعظمها إنجليزي.

وأُهديت منصة «أمم بيبليو» إلى مؤسِّس «أمم للتوثيق والأبحاث»، ومديرها المُشارك، لقمان سليم، الذي اغتيل في جنوب لبنان في 3 فبراير (شباط) 2021، والذي يثابر فريق «أمم» على الحفاظ على إرثه حياً، وإنجاز ما باشر به واستكماله. وتشرح «أمم» باستمرار أنها على قناعة بأهمية الأرشيف ودوره المحوريّ في إنتاج معارف متنوِّرة وفي إثراء النقاش العام، لذلك عملت على إنشاء منصّة تُتيح لزوّارها الوصول إلى الفهارس الورقيّة والمواد المرقمنة.

جزء من المعروضات التي يراها الزوّار يعود إلى واحد من أكبر المشروعات الإنتاجية السينمائية التي عرفها العالم العربي القرن الماضي، وكاد أرشيفه يذهب إلى القمامة. إنه «استوديو بعلبك» الذي أسَّسه في الخمسينات رجلا الأعمال الفلسطينيان بديع بولس ويوسف بيدس، وحقَّق هذا الأخير نجاحاً كبيراً جداً في لبنان من خلال مصرفه «بنك إنترا» الذي انهار عام 1966، وسط ملابسات غامضة لا تزال تثير فضول الباحثين إلى اليوم.

رخصة تسمح لعائلة لبنانية بالتجول في الناقورة لاستقبال أقربائهم القادمين من فلسطين (أمم)

عملت الشركة الفنية على إنتاج الأفلام الطويلة والقصيرة، والبرامج التلفزيونية، والبرامج الإذاعية، والإعلانات التجارية والتسجيلات الموسيقية. وكان طبيعياً أن تحلّق شركة تملك إمكانات مادية كبيرة في بلد تحوّل إلى ملتقى للفنانين والمثقّفين العرب وجسر ثقافي، يجتذب أكبر الأسماء. هكذا أصبح «استوديو بعلبك» مقصد الفنانين العرب، وفيه سُجِّلت أعمال فنية عدّة لفيروز، وفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وصباح، وغيرهم من نجوم سوريا، والعراق، والكويت، والمملكة العربية السعودية. وتوافد إليه من كلّ حدب وصوب مخرجون ومنتجون ومعدّون لأفلام تجارية ووثائقية وروائية، ناهيك بمطربين وفنّاني الدوبلاج؛ سعياً إلى التسجيل والاستفادة من معدّاته ومختبراته. لكن الحرب قصمت ظهر هذا المشروع الطَموح الساعي إلى أن يحوّل لبنان هوليوود المنطقة. وبقي موظّفوه يعملون بصعوبة رغم المعارك، وبعضهم انتقل إلى عنوان آخر، وإنما انطفأ مع الوقت. الدولة اللبنانية بعد الحرب لم تتمكّن من التدخُّل بشكل ناجع لإنقاذ أرشيف هذه الشركة الثمين، رغم النداءات المتكرّرة، مع أنه يعني العرب أجمعين. ومطلع عام 2010، هُدم مبنى «استوديو بعلبك»، وكادت تُطوى صفحته كلياً من دون أن يبقى منه شيء.

لكن، لحسن الحظ، أنقذت «أمم» ما تبقّى من شرائط الأفلام والمواد المكتوبة والصوتية والمطبوعات. وهي مواد قد تضرَّرت بفعل الزمن والحرب الأهلية، فحُرق ما حُرق، ونُهب ما نُهب، ممّا يجعل تقييم مقدار ما فُقد مستحيلاً. وحفظت المواد منذ ذلك الوقت ويجري تصنيفها ورقمنتها؛ وتتضمّن ملفات إدارية للمؤسّسة تعود إلى ستينات القرن الماضي وسبعيناته. كذلك ثمة أفلام بالأبيض والأسود وشرائط إعلانات، ونشرات أخبار، وأفلام طويلة، ووثائقيات عن لبنان قبل الحرب، وحفلات زفاف، وشرائط لمسيرات احتجاجية. خلطة كبيرة من المواد المصوَّرة التي لا يمكن استعادتها من جديد، وهي تخضع بفضل تمويلات أجنبية ومساعدة خارجية للترميم والرقمنة بشكل تدريجي. هذا عدا الفواتير والمعاملات المالية والمراسلات، والعقود، ومستندات تُظهر الطريقة التي كانت تتعامل بها هذه الشركة مع الفنانين وتدير من خلالها أعمالها.

يُقام المعرض لتحريض الجمهور العريض على الاستفادة من المواد الموضوعة على المنصة، التي لا يزال عددها قليلاً نسبياً، لكنه سيزداد باستمرار. المنصة تعيدنا إلى أفلام ووثائق من محفوظات «استوديو بعلبك»، ويمكن للزائر فتح الموقع والاستمتاع بمشاهدة مقاطع لأفلام فنية وسياسية لا يُتاح له أن يراها في أي مكان آخر. وهي حقاً كنز للباحثين المعنيين؛ من بينها شريط «الأحداث اللبنانية» الذي يُرينا بالصورة أخباراً تعود إلى الستينات، وسط كثير من الملصقات الخاصة بالأفلام. وضمن مجموعة شريف الأخوي، يمكن لمَن يزور المنصّة أن يطّلع على الحلقة التي تغطّي وفاة الراحل كمال جنبلاط وجنازته، وحلقة أخرى يتحدّث فيها عام 1975 مفتي الجمهورية حينها الشيخ حسن خالد بمناسبة تقارب مناسبات عيد الميلاد ورأس السنة مع عيد الأضحى في التاريخ، وهي السنة التي انفجرت فيها الحرب الأهلية اللبنانية.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق أحد الأعمال في المعرض الاستعادي لعبد الهادي الوشاحي (الشرق الأوسط)

«فانتازيا الوشاحي»... معرض استعادي لـ«سلطان النحت الطائر»

جاء العرض البصري لـ«فانتازيا الوشاحي» بشكل يُتيح الاقتراب من عالم النحّات الراحل، إذ تُجاور أعماله الجوائز الدولية والمحلّية التي حصل عليها على مدى مشواره.

منى أبو النصر (القاهرة )
يوميات الشرق زائرات يشاهدن بعض لوحات المعرض (الشرق الأوسط)

«سبيل الغاب» يناجي الصحراء في أبوظبي

يتقاطر محبو الفن التشكيلي، زرافاتٍ وفرادى، إلى «مَجمع 421 للفنون» في أبوظبي لمشاهدة لوحات وأعمال 19 فناناً من جنوب آسيا، وجنوب غربي آسيا، وأفريقيا.

مالك القعقور (أبوظبي)
يوميات الشرق الرئيس الفرنسي والمصوّر عمار عبد ربه

المصوّر السوري عمار عبد ربه يشارك في «نظرات على الإليزيه»

المصور السوري الفرنسي عمار عبد ربه مساهم منتظم مع «الشرق الأوسط»، يشتهر بقدرته على التقاط لحظات قوية بوضوح مدهش، وامتدت مسيرته المهنية لأكثر من 3 عقود.

«الشرق الأوسط» (باريس)

عيّنات توثّق التاريخ البركاني للجانب البعيد من القمر

رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
TT

عيّنات توثّق التاريخ البركاني للجانب البعيد من القمر

رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)

أعلن فريق من العلماء الصينيين عن تحليل ودراسة عينات قمرية، جُمعت بواسطة مهمة «تشانغ إيه - 6»، وهي أول عينات تحلَّل من الجانب البعيد للقمر.

وأوضح الباحثون في المرصد الفلكي الوطني التابع للأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، أن هذا يُعدّ إنجازاً كبيراً في مجال علوم استكشاف القمر والقدرات التقنية، وقد نُشرت الدراسة، الجمعة، في دورية «National Science Review».

تاريخياً، جُمعت عينات القمر من خلال مهمات عديدة، بما في ذلك 6 مهمات لبرنامج «أبولو» الأميركي، و3 مهمات سوفيتية من مركبة «لونا»، ومهمة «تشانغ إيه - 5» الصينية، وبلغ إجمالي العينات التي جُمعت نحو 382.9812 كيلوجراماً، وقد وفّرت هذه العينات معلومات قيّمة حول تاريخ تكوين القمر وتطوّره.

وتُعدّ العينات القمرية العائدة أساسية لبحوث علم الكواكب؛ إذ توفر بيانات مختبرية رئيسية لربط الملاحظات الاستشعارية المدارية في الواقع الميداني على السطح.

وساهمت هذه العيّنات في تطوير فرضيات، مثل نشأة القمر نتيجة تصادُم كبير مع الأرض البدائية، ومحيط الصهّارة القمرية، والقصف الشديد المتأخّر. وحتى الآن جُمعت هذه العينات من الجانب القريب للقمر، ولم يُكتشَف الجانب البعيد إلا حديثاً.

ولا يمكن لعينات الجانب القريب وحدها، دون جمع عينات كافية من سطح القمر بأكمله، خصوصاً من الجانب البعيد، أن تعكس التنوع الجيولوجي الكامل للقمر، وهذا القصور يعوق فهمنا لنشأة القمر وتطوّره.

وتمكّن علماء الفضاء في الصين من الحصول على عينات الجانب البعيد اللازمة عندما جمعت مهمة «تشانغ إيه - 6» نحو 1935.3 غراماً من العينات القمرية من حوض القطب الجنوبي - آيتكين، في 25 يونيو (حزيران) 2024.

وجُمعت العينات من سطح القمر باستخدام تقنيات الحفر والتجريف، وحلَّل الفريق الخصائص الفيزيائية والمعدنية والبتروغرافية والجيوكيميائية للعينات.

وأظهرت التحليلات أن العينات التي جُمِعت تعكس مزيجاً من المواد «البازلتية المحلية»، والمواد «غير القمرية» الغريبة، وفق نتائج الدراسة.

وتتكوّن شظايا الصخور في عينات «تشانغ إيه - 6» بشكل أساسي من البازلت، والصخور البركانية، والركام، أما المعادن الأساسية للتربة القمرية فهي الفلسبار، والبيروكسين، والإلمينيت، مع وجود ضئيل للأوليفين.

وتتكوّن التربة القمرية في عينات «تشانغ إيه - 6» بشكل رئيسي من خليط من البازلت المحلي والمواد المقذوفة غير البازلتية.

ووفق الباحثين، تُوثق البازلتات المحلية في العينات التاريخَ البركاني للجانب البعيد للقمر، في حين قد توفر الشظايا غير البازلتية رؤى مهمة عن القشرة المرتفعة القمرية، وذوبان تصادُم حوض القطب الجنوبي - آيتكين، وربما الوشاح العميق للقمر، مما يجعل هذه العينات ذات أهمية كبيرة للأبحاث العلمية.

ويعتقد العلماء أن حوض القطب الجنوبي - آيتكين تَشكَّل قبل 4.2 إلى 4.3 مليار سنة خلال فترة ما قبل النكتارية، نسبةً إلى بحر نكتار، أو بحر الرحيق الواقع في الجزء الجنوبي الغربي من الجانب القريب للقمر.