«كورال الفيحاء»... حيث يتساوى بائع المثلّجات بالقاضي

تجربة غنائية فريدة انطلقت من طرابلس ووصلت إلى العالميّة

TT

«كورال الفيحاء»... حيث يتساوى بائع المثلّجات بالقاضي

إلى جانب التراث العربي تؤدّي الكورال الأغاني الأرمنية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية... وغيرها (الشرق الأوسط)
إلى جانب التراث العربي تؤدّي الكورال الأغاني الأرمنية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية... وغيرها (الشرق الأوسط)

لا تفسد الاختلافات قضيّة «كورال الفيحاء». أعضاء الجوقة؛ الذين فاق عددهم المائة، آتون من كل أطراف لبنان وأطيافه، لكن عندما تلتئم حناجرهم يصير الصوت واحداً. قضية الكورال التي أبصرت النور في طرابلس منذ 21 عاماً، هي التناغم.

يحترفون نمط الـ«A Cappella (أكابيللا)»؛ أي الغناء الجماعي بمختلف الطبقات الصوتية من دون مرافقة موسيقية، فتخرج الأغاني من صدورهم على قدرٍ عالٍ من السحر. يقودهم المايسترو باركيف تسلاكيان إلى وحدة الصوت، وإلى ثانية قضايا الكورال؛ إحياء التراث الغنائي الشرقي. بثقةٍ يؤكد تسلاكيان لـ«الشرق الأوسط» أن «(الفيحاء) وضعت الموسيقى العربية على الخريطة الموسيقية العالمية بشكل مميّز».

ليس الصوت الجميل شرطاً للانضمام ولا الخلفيّة الثقافية أو الاجتماعية. يخبر تسلاكيان، وهو مؤسس الكورال وقائدها: «لدينا أشخاص يبيعون المثلّجات ولدينا قضاة. يقفون جنباً إلى جنب ويغنّون، وقد يتفوّق بائع البوظة على القاضي غناءً».

«كورال الفيحاء» تجربة غنائية فريدة انطلقت من طرابلس اللبنانية قبل 21 عاماً (الشرق الأوسط)

سمفونيّة أصوات

لا يعطي المايسترو أعضاءَ فريقه دروساً في الغناء الجماعيّ فحسب؛ بل أيضاً دروساً في الحياة. غالباً ما يفتتح جلسات التدريب والتحضيرات للحفلات بخواطر تحفّزهم على الصبر والمثابرة. «ضاقت مساحات الأمل في لبنان، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية. من بين أعضاء الكورال مَن يوفّر النقود لتغطية أجرة المواصلات، كي يتمكّن من حضور التمارين الإلزاميّة 3 مرات أسبوعياً». لا تسدّد الجوقة لمغنّيها مالاً؛ لكنها توسّع الآفاق أمامهم؛ من الالتقاء بالآخر واكتشافه وكسر الحواجز الوهميّة معه، إلى التثقيف الموسيقي، وليس انتهاءً بفرصة السفر وإسماع أصواتهم للعالم.

جالت «كورال الفيحاء» على عشرات العواصم، وصلت إلى كندا والصين، حملت معها التراث العربي الذي أبكى الحضور الأجنبي وإن لم يفهم الكلام، وفق ما يؤكد تسلاكيان. تنطلق رائعة الدكتور عبد الرب إدريس «ليلة» في توليفة فريدة، يليها نشيد الأخوين رحباني «بحبك يا لبنان»، ثم يحضر عبد الحليم حافظ وتصدح «التوبة»، بأصواتٍ لا تتشابه في شيء، إلا إنها تخرج سمفونيّة.

المايسترو باركيف تسلاكيان مؤسس وقائد «كورال الفيحاء»... (الشرق الأوسط)

«موسيقانا هي الأغنى»

ضمن محطّاتها العالمية، نالت الكورال جوائز وتصدّرت المراتب الأولى في مسابقات الجوقات. «الجوائز جميلة؛ لكنها ليست الهدف ولا الإنجاز الحقيقيين»، يقول المايسترو تسلاكيان... «ما يعنينا أكثر من التقدير هو تعلّم تراث الآخر واكتشاف نمط حياته، والأهمّ أن نُسمعَ الغرب موسيقانا العربية وأن ننشر تراثنا». في نظره؛ هو الذي تعمّقَ في هويّات موسيقية متنوّعة، فإنّ «الموسيقى العربية هي الأغنى على الإطلاق، وتستحق انتشاراً عالمياً».

وبما أنّ الانتشار هدف، فإنّ «كورال الفيحاء» وسّعت أنشطتها محلياً من خلال افتتاح فرعَين في كل من بيروت والشوف، إلى جانب طرابلس. كما امتدّ المشروع الفريد من نوعه في العالم العربي إلى خارج لبنان، وذلك من خلال المساعدة في تأسيس جوقة مشابهة في القاهرة، على أن تتكرّر التجربة في المغرب قريباً. وللمملكة العربية السعودية حصّتها، حيث أسّس أحد أعضاء «الفيحاء» السابقين «كورال نجد».

يفتخر تسلاكيان بهذه الشبكة الممتدّة عربياً من جوقات الـ«A Cappella» والتي تساندها «كورال الفيحاء» تدريباً وإشرافاً ومحتوىً، من دون أن تديرَها بشكل مباشر.

أصوات ملائكية وأزيز رصاص

يوم انطلقت «كورال الفيحاء» قبل عقدَين من عاصمة الشمال اللبناني، أحدثت صدمةً على مستوى الوطن الأم والعالم العربي. شكّل خروج هذا الإبداع من طرابلس المرهَقة فقراً وحرماناً، حدثاً استثنائياً. أن ترتفع تلك الأصوات الملائكيّة من المدينة نفسها التي ارتبط اسمُها بأزيز الرصاص ودويّ القذائف، لم يكن أمراً عابراً. يروي تسلاكيان كيف أنّ الكورال جمعت أبناء منطقتَي جبل محسن وباب التبّانة المتنازعتَين منذ الأزل.

يخبر كذلك قصة «بدّى يونس»؛ ذاك الطفل الفلسطيني النازح من مخيّم نهر البارد خلال الحرب هناك إلى مخيّم البدّاوي. «رغب بدّى في الانضمام إلى الكورال؛ لكننا اشترطنا عليه أن يدخل المدرسة إذا أراد ذلك. فعلَ لإرضائنا؛ لأنه كان يكره الدراسة، أما اليوم فصار بدّى مهندساً معمارياً حائزاً على شهادة الماستر».

هذه هي الحكايات التي تغتني وتتغنّى بها «كورال الفيحاء». تغوص التجربة أعمق من النغمات المتناسقة والتمارين الصارمة واحتراف الغناء بلغاتٍ متعدّدة. تُلهمُ أعضاءها صناعة حكايات نجاح خاصة بهم، وبالتوازي تفتح لهم المجال لبناء نجاحاتٍ مشتركة فتتوطّد الروابط بينهم.

يحترف أعضاء الكورال نمط الـ«A Capella»... أي الغناء الجماعي من دون مرافقة موسيقية (الشرق الأوسط)

المايسترو «المهجّر»

لم تبدّل «كورال الفيحاء» حياة المنضمّين إليها فحسب؛ بل تركت أثراً استثنائياً في نفس مؤسسها. يتنهّد تسلاكيان مبتسماً ويقول: «الكورال غيّرت لي حياتي. صرت سعيداً جداً بسببها. أنا الآتي من عائلة أرمنية مهجّرة من بلادها، لم أستطع حتى الوصول إلى الصف الثامن، لكنّ الكورال أوصلتني إلى أماكن ما كنت أحلم بالوصول إليها».

صحيح أنه عاشقٌ للتراث الغنائي العربي وهو جعل من جوقته سفيرةً له، إلّا إن تسلاكيان متمسّك بجذوره الأرمنية. لذلك، فهو يطعّم دائماً برامج الحفلات بأغنيات من التراث الأرمني. وإلى جانب العربي والأرمني، ثمة مساحة لأعمال فرنسية وإنجليزية وإسبانية وإيطالية معروفة، «وذلك من باب الإثبات أننا العرب مثقّفون ومنفتحون على الآخر».

إلى جانب التراث العربي تؤدّي الكورال الأغاني الأرمنية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية... وغيرها (الشرق الأوسط)

في كل مرة تعلن فيها الكورال عن موعد عرض، يلبّي الجمهور النداء بالمئات. لا الأزمات الأمنية ولا تلك الاقتصادية أثّرت على النشاط أو على خطط التطوّر... «من بين الإنجازات التي نفتخر بها أننا بتنا ندرّس قيادة الجوقات، وهو اختصاص غير موجود في العالم العربي»؛ يقول تسلاكيان. هو ممتنّ كذلك لشريك النجاح؛ الموسيقي إدوار طوريكيان الذي يتولّى إعادة توزيع كل الأغاني التي تقدّمها الكورال.

يؤمن «المايسترو» بقوّة الجماعة، وما استطاعت جوقته أن تنجزه خلال السنوات الـ21 الماضية ليس سوى دليل على ذلك؛ «فرادى ربما تكون أصوات معظمهم أقلّ من عادية، أما عندما يجتمعون حول الإيمان والعمل والنغم، يصير الصوت خارقاً».


مقالات ذات صلة

الفنان العالمي أنتوني هوبكنز يخاطب العالم بالموسيقى من الرياض

يوميات الشرق الفنان العالمي أنتوني هوبكنز استهلّ الحفل بالحديث عن مسيرته الفنية (هيئة الترفيه)

الفنان العالمي أنتوني هوبكنز يخاطب العالم بالموسيقى من الرياض

في حفل استثنائي، ضمن فعاليات «موسم الرياض» بعنوان «الحياة حلم»، وجَّه الفنان العالمي أنتوني هوبكنز رسائل موسيقية إنسانية عميقة عكست فلسفته في الحياة والفن.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الوتر السادس يصف نخول تعاونه مع اليسا بهدية من السماء (جان نخول)

جان نخول: تعاوني مع إليسا هدية من السماء

يعرفه اللبنانيون إعلامياً، يبهرهم بين فينة وأخرى، بموهبة جديدة يتمتع بها. يعمل في الكواليس بعيداً عن الأضواء، يأخذ جان نخول وقته في إبراز مواهبه.

فيفيان حداد (بيروت)
الوتر السادس هلال خلال تكريمه بإحدى الجوائز نهاية العام الماضي (حسابه على {فيسبوك})

حمادة هلال لـ«الشرق الأوسط»: عدوية لم يحظَ بالتكريم الملائم

يواصل الفنان المصري حمادة هلال تصوير الجزء الخامس من مسلسله «المداح» تمهيداً لعرضه في موسم دراما رمضان 2025، ووصف هلال ألحان المهرجانات بـ«المبهجة»

مصطفى ياسين (القاهرة)
يوميات الشرق هانكوك مُمسكاً بالعود على الطريقة السعودية ومتحدّثاً لجمهور حفل الرياض (الشرق الأوسط)

أسطورة الجاز هانكوك ومُلهمة الملايين سيغل: السعودية مستقبلٌ واعد للموسيقى

لبَّى هيربي هانكوك الدعوة لتعزيز التبادل الثقافي بين المملكة وأميركا، تأكيداً على قدرة الموسيقى في مدّ جسور التواصل بين الشعوب.

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
يوميات الشرق مشاهير تُرعبُهم الجماهير... «المهاتما» هرب من المحكمة وفنانة فقدت الوعي على المسرح

مشاهير تُرعبُهم الجماهير... «المهاتما» هرب من المحكمة وفنانة فقدت الوعي على المسرح

لا يقتصر قلق الأداء أمام الجمهور على الأشخاص العاديين، بل هو حالة نفسية معقّدة يعاني منها كبار النجوم. ماذا يقول علم النفس عنها وما أساليب السيطرة عليها؟

كريستين حبيب (بيروت)

جوائز «جوي أووردز»... ليلة استثنائية في الرياض

مسؤولون وفنانون في حفل جوائز "جوي أووردز" بالرياض مساء السبت (هيئة الترفيه السعودية)
مسؤولون وفنانون في حفل جوائز "جوي أووردز" بالرياض مساء السبت (هيئة الترفيه السعودية)
TT

جوائز «جوي أووردز»... ليلة استثنائية في الرياض

مسؤولون وفنانون في حفل جوائز "جوي أووردز" بالرياض مساء السبت (هيئة الترفيه السعودية)
مسؤولون وفنانون في حفل جوائز "جوي أووردز" بالرياض مساء السبت (هيئة الترفيه السعودية)

عاشت العاصمة السعودية الرياض ليلة استثنائية، السبت، خلال حفل توزيع جوائز النسخة الخامسة من جوائز «جوي أووردز» (Joy Awards) لعام 2025، ضمن فعاليات «موسم الرياض».

وانطلقت الأمسية بعرضٍ من المغنية كريستينا أغيليرا، وقدَّم تامر حسني ونيللي كريم عرضاً غنائياً مسرحياً، تبعه عرض للموسيقي العالمي هانز زيمر، وآخر لوائل كفوري والكندي مايكل بوبليه، ثم عرض للأميركي جوناثان موفيت، و«ميدلي» للمطرب التركي تاركان.

‏وقدم وزير الإعلام السعودي، سلمان الدوسري، «جائزة صُنّاع الترفيه الفخرية» لكوكبة من ألمع وأهم نجوم الخليج والوطن العربي‏‫، من بينهم مريم الصالح، وإبراهيم الصلال، وسعد خضر، وعبد الرحمن الخطيب، وعبد الرحمن العقل، وعلي إبراهيم، وغانم السليطي، ومحمد الطويان.

ومن الفنانين العالميين الذين حضروا الفعالية مغني الأوبرا بوتشيلي، والممثل مورغان فريمان، والموسيقي هانز زيمر، والفنان ياسر العظمة، والممثل ماثيو ماكونهي، والمخرج جاي ريتشي، والممثل الهندي هريثيك روشان، والمصمم اللبناني زهير مراد.