كيف أصبح انتقاد رموز ثقافية عربية عملاً محفوفاً بالمخاطر؟

بعضهم تحول إلى «عُقد تاريخية» في مجال الإبداع

طه حسين (أرشيفية)
طه حسين (أرشيفية)
TT

كيف أصبح انتقاد رموز ثقافية عربية عملاً محفوفاً بالمخاطر؟

طه حسين (أرشيفية)
طه حسين (أرشيفية)

من وقت لآخر تنفجر معارك أدبية وثقافية تطول شظاياها رموزاً في الماضي والحاضر، هذه المعارك تعكس مواقف متباينة ودرجات متفاوتة من تقديس هذه الرموز أو تعرضها للنقد والمراجعة.

تتباين الآراء وتنقسم بين من يبجّل هذه الرموز ويقدّسها، وبين آخرين يرون أنها أسماء؛ لها ما لها، وعليها ما عليها، ويمكن إخضاعها للنقد، وأن بعض المُحدّثين تجاوزوا الرموز في إنجازاتهم الأدبية أو الثقافية.

يوسف زيدان في إحدى جلسات مركز «تكوين» (حسابه على فيسبوك)

وقبل أيام، تفجّرت معركة حول طه حسين، إذ اتُّهم كل من الأديب المصري يوسف زيدان، والباحث السوري فراس السواح، بـ«الإساءة» إلى عميد «الأدب العربي»، خلال إحدى جلسات منتدى «تكوين الفكر العربي»، حين طرح زيدان سؤالاً على السواح قائلاً: «فراس السواح أهم أم طه حسين؟» ليردّ الأخير: «أنا وأنت أهم من طه حسين». ورغم نفي الاثنين «تعمد الإساءة» وتأكيد «نية المزاح»، فإنهما تعرّضا لهجوم واسع من مثقفين ومتابعين عرب عبر مواقع السوشيال ميديا المختلفة.

معركة مركز «تكوين الفكر العربي» ليست الأولى من نوعها في المنطقة العربية، فقد سبقتها أزمات عدّة؛ من بينها أزمة الشاعر العراقي حميد قاسم الذي تعرّض لموجة هجوم واسعة حين انتقد، على صفحته بموقع «فيسبوك»، شاعر العراق الكبير ورمزها الأشهر محمد مهدي الجواهري، قائلاً: «لا أحبه ولا أكرهه، هو شاعر متوسط القيمة، ولستُ في وارد التنافس معه».

وأضاف قاسم، في عام 2019: «واجهت، بسبب رأيي هذا، كثيراً من العداء والكراهية والعنت والازدراء، وحتى الإقصاء»، مضيفاً: «لا الجواهري ولا غيره يستحق هذا التقديس الوثني الساذَج المتعصب».

وفي 2018، تعرّض الباحث المصري إسلام بحيري لموجة من الانتقادات حين وصف عباس العقاد بأنه «مفكر رجعي»، وأن «كتبه في الإسلاميات كانت أول مِعولٍ يُضرَب به التيار الإصلاحي في الثقافة العربية».

إسلام بحيري ويوسف زيدان (حساب زيدان على فيسبوك)

وثارت ضجة مماثلة، في عام 2019، بشأن نجيب محفوظ، بعدما نُسبت تصريحات للروائي المصري أحمد مراد وصف فيها روايات الأديب المصري، الحائز على جائزة نوبل، نجيب محفوظ، بأنها «لا تُناسب العصر».

وفي شهر يونيو (حزيران) من عام 2022، تفجرت أزمة حول أم كلثوم والشاعر أحمد رامي، حين اتُّهم الشاعر ناصر دويدار بـ«الإساءة إليهما»، بعد وصفه أم كلثوم بعبارات وُصفت بأنها «صادمة» و«مسيئة»، خلال ندوة أقيمت في «اتحاد كتاب مصر»، وأصدرت جمعية المؤلفين والملحّنين والناشرين المصريين بياناً وقتها ترفض فيه إهانة أم كلثوم ورامي، وأعلنت تقدمها ببلاغ للنائب العام ضد دويدار.

وينقسم المثقفون بشأن التعاطي مع الرموز الثقافية والأدبية على اتجاهات عدة، لكن الأبرز بينها اثنان؛ أولهما يرى أن المُنجز الثقافي لبعض الرموز والشخصيات قد يعصمها من النقد أو الإساءة. ومثلما يرفض الناقد والأكاديمي اليمني د. فارس البيل تقديس منجزات الرموز الثقافية وتبجيلها بشكل مُبالغ فيه، يرفض أيضاً تحقيرها أو التعامل معها باستخفاف، مشيراً، في تصريحات، لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه ينبغي استبدال الاحترام والتقدير بالتقديس، مؤكداً أن «كل رمز ثقافي له مُنجزه الضخم الذي يحتوي على كثير من الإيجابيات، وقليل من السلبيات أو (الإخفاقات)».

وحضّ الدكتور شوكت المصري، الأستاذ بأكاديمية الفنون، على قراءة مُنجزات الرموز العربية، واستعراض مؤلفاتها بعين واعية فاحصة، وتطبيق ما يَصلح منها للحاضر والمستقبل، لافتاً إلى أن «تجاهل الإرث الثقافي لهؤلاء الرموز يُعدّ هو الإهانة الحقيقية لهم، حتى لو دبّجنا في محبتهم الخُطب العصماء والأغاني»، مشدداً على رفضه التام لإهانتهم.

في الجانب الآخر يرى كُتّاب ومثقفون أنه يحق لهم نقد مُنجزات هؤلاء الرموز بوصفهم شخصيات أدبية تخضع لحق النقد، من بينهم الشاعر والروائي البلجيكي من أصل سوري هوشنك أوسي، الذي يقول، لـ«الشرق الأوسط»، إن «تقديس القامات الثقافية وعدّها رموزاً فوق النقد سلوك وثني يُحوّل الثقافة إلى معبد، والقامات الثقافية إلى أوثان وأصنام»، مشيراً إلى أنه «في سنة 2019 خلال (ملتقى الرواية العربية) بالقاهرة، وجّه انتقادات عدة إلى ما سمّاه «الوثنيّة الثقافيّة»، و«السلفيّة النقديّة» التي تحصر الإبداع في أدباء العالم العربي الراحلين، وترمي بالجديد في سلّة القمامة»، على حد تعبيره.

هوشنك أوسي (الشرق الأوسط)

ويُبدي أوسي استغرابه من الهجوم على كل من حاول إعادة النظر في تجربة إبداعيّة أدبيّة أو موسيقيّة مهمة وكبيرة، ورفع القداسة عنها، حيث تجري مجابهته وتصغيره أو تحقيره أو تخوينه، وأنه يسعى إلى الشهرة عبر النّيل من رموز الأمّة والوطن، «رغم أن الإبداع والفنون عموماً بمثابة موقف نقدي من الحياة والموت، الحاضر والتّاريخ، وطبيعي أن يكون الجديد مواجهاً للقديم ومتجاوزاً له، وليس عبداً أسيراً، وخادماً ذليلاً عنده».

وفي حين يؤكد الباحث والكاتب إيهاب الملاح، مؤلف كتاب «طه حسين - تجديد ذكرى عميد الأدب العربي»، وجود عقدة تاريخية تُطارد الأجيال الجديدة، فإنه يرى أن «هذا الطرح يخفي وراءه فشل المبدعين الجدد في تجاوز تراث الرواد والرموز في جميع المجالات، ومن ثم يلجأون إلى الحجة الجاهزة؛ وهو أنه لا أحد يلتفت إلى ما يقدمونه، زاعمين أن التركيز على أعمال الرواد عالمياً أو عربياً يغمطهم حقهم».

الكاتب والباحث إيهاب الملاح (حسابه على فيسبوك)

ويعزو الأكاديمي والناقد التونسي د. محمد زروق سبب الجدل القديم الجديد المرتبط بـ«العُقد التاريخية» إلى طبيعة الفكر العربيّ الذي يرى أنّ النموذج الأوفى والأمثل حاصل دوماً في ماضي الزمان، وأنّ اللاحق هو ابتعاد عن أصلٍ أصيل، وكأننا نردّد مع الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين (1889 - 1951) مقولته: «سحقاً لمن سبقونا فقد قالوا ما قُلنا».

ويخلص زروق إلى أن «التاريخ حوّل هؤلاء إلى آباء ورموز ومرجعيّات جديرة بالاحترام، لكن يجب ألا ندور في مدارهم، بل الواجب أن نبتعد عنهم، وأن نخرق ما أسّسوه، وننقد بشدّة ما شيّدوه، ونأتي بما لم يأتوه».

سمير درويش (الشرق الأوسط)

وهو ما يشدّد عليه سمير درويش، الشاعر والناقد المصري، قائلاً، لـ«الشرق الأوسط»: «لبّ العادات والتقاليد العربية يقوم على توقير الكبير، بسبب سنِّه فقط، فثمة اعتقاد لدينا بأن التقدّم في العمر يقترن بالحكمة، كما أننا مجتمعات أبوية تسلّطية لا يُسمح فيها بالنقاش»، وفق تعبيره.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

​جمال سليمان: الدراما قادرة على تطييب جراح السوريين

لقطة من لقاء سليمان بـ«نقابة الصحفيين المصرية» (نقابة الصحفيين المصرية)
لقطة من لقاء سليمان بـ«نقابة الصحفيين المصرية» (نقابة الصحفيين المصرية)
TT

​جمال سليمان: الدراما قادرة على تطييب جراح السوريين

لقطة من لقاء سليمان بـ«نقابة الصحفيين المصرية» (نقابة الصحفيين المصرية)
لقطة من لقاء سليمان بـ«نقابة الصحفيين المصرية» (نقابة الصحفيين المصرية)

قال الفنان السوري جمال سليمان إن الدراما السورية لعبت دوراً كبيراً في فضح نظام بشار الأسد، وإنها قادرة على تطييب جراح السوريين، مؤكداً ترقبه تصوير مسلسل «الخروج إلى البئر» الذي يتناول جرائم التعذيب في سجن «صيدنايا»، مشدداً على أنه من حق السوريين بكل أطيافهم المشاركة في مستقبل البلاد دون إقصاء لأي فصيل منهم، ودون انفراد فصيل واحد بالحكم.

وأضاف خلال لقاء له بـ«نقابة الصحفيين المصرية» مساء السبت أن الشعب السوري بأطيافه كافة أسهم في إسقاط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وليس بواسطة فصيل واحد، وأن المرأة التي قُتل زوجها، والتي عاشت في الخيام على سبيل المثال لعبت دوراً في ذلك، مؤكداً أن ما يحسم قراره تجاه ترشحه لرئاسة سوريا وجود دستور جديد للبلاد، وأجواء آمنة تحقق انتخابات نزيهة، لافتاً إلى أن «سوريا كانت محكومة بالقوى الأمنية الجبرية خلال حكم حافظ الأسد».

جمال سليمان له نشاطات سياسية سابقة (حساب سليمان على فيسبوك)

وكان جمال سليمان قد أثار تفاعلاً وجدلاً كبيراً بالإعلان عن نيته الترشح لرئاسة سوريا، ورداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول تمسكه بالترشح للرئاسة، وعن ردود الأفعال التي تلقاها منذ إعلانه تلك الخطوة قال إنه «إذا حدث انتقال سياسي للسلطة، وأصبح لدينا دستور جديد، وبيئة آمنة تضمن انتخابات نزيهة، قد أكون مرشحاً رئاسياً، لكن يظل لكل حدث حديث»، مضيفاً أنه تلقى دعوات من شباب سوريين وشيوخ قبائل اتصلوا به يشجعونه على الترشح، فيما أبدى آخرون اعتراضهم عليه بحجة أنه من العلويين.

وأعرب عن حزنه لهذا الوصف «لست علوياً، كان والدي من العلويين، ووالدتي من الطائفة السنية، لكنني عشت حياتي كلها من دون انتماء طائفي، وإذا ترشحت فسوف أكون مواطناً منتخباً أؤدي خدمات للناس؛ وفقاً للدستور الذي أقسمت عليه».

وتحدّث سليمان عن الوضع في سوريا خلال حكمي حافظ وبشار الأسد قائلاً إن «سوريا في عهد حافظ الأسد كانت محكومة بالقوى الأمنية الجبرية، وكانت أجهزة الأمن تحصي على الناس أنفاسهم، لكن في الوقت نفسه كان هناك نوع من الحكمة السياسية التي خلقت قدراً من التوازن داخل المجتمع السوري، كما كان حافظ الأسد لديه براعة في إدارة الملفات الخارجية، غير أنه أراد تولي ابنه الحكم، وكان يُدرك أن سوريا كبيرة عليه، وأنه ليست لديه من الكفاءة التي تمكنه من ذلك، لكنّ السوريين لم يكن أمامهم سوى بشار»؛ على حد وصفه.

سليمان لم يحدّد بعد موعد عودته إلى سوريا (حساب سليمان على فيسبوك)

وحول اتهامه بـ«الانتساب لنظام بشار في البداية»، لفت إلى أنه «تعرّف عليه قبل أن يكون رئيساً»، مضيفاً: «كنا صرحاء معه في حديثنا عن الواقع السوري عقب توليه الرئاسة، وأبدى قدراً كبيراً من التفاهم مع وعد بالإصلاح السياسي والاقتصادي والأمني، لكنه تنكر لكل الوعود بما فيها القضاء على الفساد الذي ينخر في سوريا، وبدلاً من أن يحاربه أصبح هو على رأس الفساد وبشكل مباشر»؛ وفق تعبيره.

ويرى سليمان أن بشار هرب تاركاً وراءه دولة منهكة، ورغم وجود سلطة «إسلاموية» حالياً في دمشق، «فإننا بوصفنا معارضة نريد دولة مدنية ديمقراطية، فسوريا دولة تنطوي على تنوع كبير حتى داخل الطائفة الدينية الواحدة، وليس مقبولاً إقصاء أحد، ولا بد من حوار وطني يجمع كل الأطراف على قاعدة المصالح السورية، وأن نتفق على تشكيل جمعية تأسيسية تقوم على كتابة دستور جديد للبلاد يُراعي هذا التنوع، ويؤكد بشكل أساسي على وحدة سوريا، وأن أي مستقبل لسوريا لن يصنعه سوى كل السوريين مجتمعين».

الفنان السوري جمال سليمان يسعى إلى تقليل الخلاف بين الفنانين السوريين (نقابة الصحفيين المصرية)

وأشاد بما تقوم به السلطة الحالية في سوريا من توفير الخدمات، قائلاً إنها «تبذل جهداً كبيراً لتقديم ما استطاعت من خدمات، لكن الواقع صعب والاحتياجات هائلة تفوق قدرة أي سلطة على تلبيتها، لكننا نأمل في رفع العقوبات عن سوريا؛ لأن السوريين يستحقون حياة أفضل».

وكان الوسط الفني السوري قد شهد انقساماً تجاه الرئيس السابق خلال حكمه، وحول تصوره لرأب الصدع بين الفنانين السوريين، رأى سليمان أنه «أمر ضروري»، مشيراً إلى أنه يعمل على ذلك بشكل متواضع، لكنه كان عاتباً خلال السنوات الماضية على كثير من زملائه الذين صوروا بشار الأسد بأنه من أفضل ما يكون، معلناً مسامحته لهم: «لكي نعود ونبني صرح الدراما السورية من جديد»، فيما وجّه تحية لكل الفنانين الذين اعتذروا عن انتمائهم للنظام السابق، ما عَدّه يُعبر عن شجاعة.

وعن دور الدراما في طرح قضايا سوريا، قال سليمان إنها «لعبت دوراً كبيراً في فضح هذا النظام قبل سقوطه من خلال أعمال اجتماعية وكوميدية وتاريخية، من بينها مسلسل (الفصول الأربعة)»، مشدداً على أنها قادرة على تطييب جراح السوريين.