السرطان لا يعرف طريقاً نحو الإرادات الصلبة

حكاية المواجهة تُخبرها رياضية لبنانية لـ«الشرق الأوسط»

ترفض تيريز أبو ديوان أن يُقال «يا حرام» (حسابها الشخصي)
ترفض تيريز أبو ديوان أن يُقال «يا حرام» (حسابها الشخصي)
TT

السرطان لا يعرف طريقاً نحو الإرادات الصلبة

ترفض تيريز أبو ديوان أن يُقال «يا حرام» (حسابها الشخصي)
ترفض تيريز أبو ديوان أن يُقال «يا حرام» (حسابها الشخصي)

هذه القصة ليخجل المرء من انهياره أمام الهبّة الأولى. ليست الشابة اللبنانية تيريز أبو ديوان شخصية تحت الضوء، لكن شجاعتها تُروى. ثمة حكايات يعيشها «عاديون» تُلهم وتؤثّر. ضحكتها هي الحكاية، وإن تدخَّل المرض. لم تلتفت إلى إيقاع الحياة ليقينها أنّ الله يُدبّره، قبل أن يطرأ تبدُّل الحال وتتأكد من ذلك.

مرَّ أكتوبر (تشرين الأول)، شهر سرطان الثدي، كما لم يمرَّ شهرٌ آخر. تسير تيريز أبو ديوان، المُترجِمة المتخصّصة بالأدب الفرنسي، في الحياة، بقناعة مفادها أنّ شيئاً لا يحدُث قبل أوانه. «حتى المرض، حلو بوقته»، تقول لـ«الشرق الأوسط». إلى أن بدأ الجسد يُصدر إشارات إنذار. فالشابة رياضيّة، تجد في التمارين والرقص مساحة تنفُّس. راح القلب يتخبّط كأنه يفرُّ، بلا جدوى، من سجنه. في النادي الرياضي، ملاذها اليومي لساعتين على الأقل، لمست التغيُّرات الأولى. تساءلت إن كان ما يطرأ مجرّد نقص في المكمّلات الغذائية أو اضطراب أصاب الرئتين. لم يخطر في بالها ما يستحقّ القلق.

ما هوَّن هو استعدادها لحَمْل ما تخشى أن يحمله أحبّتها (صور تيريز أبو ديوان)

تأزّم الخفقان والإحساس بالإرهاق المفاجئ. تيريز أبو ديوان رياضيّة ماهرة، تقارع أوزان الحديد، وتتمرّن بلا توقُّف. مؤلماً كان خذلان البدن. وقاسٍ أن يشعر الرياضي بقواه الخائرة. وُلدت على الفور هذه المناجاة: «يا رب، لستُ جاهزةً بعد لمغادرة الأرض. لديّ ما أُنجزه».

ما هوَّن هو استعدادها لحَمْل ما تخشى أن يحمله أحبّتها. فالشابة ابنة جنازتين متتاليتين في عائلة خطف الموت الأب والأخ فيها، لتبقى وحيدةً بجوار أمّ متقدّمة في السنّ بعد سفر الأخ المتبقّي نحو الغربة. «أريد المرض هديةً لي، فلا تحمله أمي أو أخي». تُصوّره على شكل «هدية»، فالهدايا تُبهج. وبهجتها في طرد احتمال أن تفقد مَن تحبّ.

صلابة الإرادة وحب الحياة (صور تيريز أبو ديوان)

لم يُخفها اتصالٌ تذكُر توقيته: «السابعة مساء وأنا في النادي». على الخطّ، طبيب الأورام السرطانية، يُخبرها أن ترحِّب بمرحلة العلاج، والبداية بجراحة. شعرت بعبور الصدمة فيها. شيءٌ يسمّونه «النقزة»، مدّته ثوانٍ، لكنه مسألة مزعجة. فضَّلت التكتُّم، تفادياً لمشهدية الوجوه الباكية. احتفظت لنفسها بالتشخيص: «سرطان الثدي في بداياته ولا تزال ممكنة السيطرة عليه». تقبّلت المنعطف ووثقت بالمسيرة.

كان 5 ديسمبر (كانون الأول) موعد الجراحة. الاستحقاق الأصعب: «أن أُخبر والدتي عشية التحضيرات لعيد الميلاد. سألتُها تقبُّل ما سأقوله، وأطلعتُها على ورم الثدي المُتطلِّب استئصالاً. رجوتها ألا تبكي فلا أحتمل انهمار دموع الأمهات. تماسكتْ وشكرت الله على امتحانه».

قرّرت ألا تغادرها الضحكة في يومها المُنتَظر. بنفسها، قادت سيارتها إلى المستشفى في بيروت، وصمّمت على جذب مواقف تُهوِّن. الضحكة في مواجهة الاحتمالات الأخرى. الـ«إنرجي» لقهر الخوف. رفضت تيريز أبو ديوان أن يُقال «يا حرام». عضّت على الوجع لتُسكِت أنينه فلا يبلغ المتربّصين بشؤون الآخرين. نوعُها يضحك مهما توغّل الخراب في النفس. تُخبّئ ما يُشعل الشماتة أو الشفقة أو البكائيات وراء ابتسامة جبّارة.

مع مدرّبها الراقص أسادور أورجيان (صور تيريز أبو ديوان)

طلب الطبيب 6 جلسات كيميائية، فابتسمت أيضاً. لم تدرك تماماً ما يعنيه هذا المسار، لكنها استعدّت: «علينا أولاً تحصين الداخل. هو الوحيد الذي ينبغي ألا يمرض». حلَّ التقيؤ قاسياً، والتعب مُنهِكاً، أسوةً بحالات الدوار والإحساس بفقدان الوعي. قالت للطبيب: «أشاء التوقُّف عن هذا كلّه»، فطمأنها إلى أنّ الأصعب مرَّ. اليوم تؤكد أنها ما كانت لتتوقّف قط. «هذه رحلة ولا مهرب من مساراتها».

تُجهّز غرفة العلاج الكيميائي بما يجعلها تستكين: «أتوق للسلام، فأُحضر شموعاً وأصلّي». تساقط قليل من شَعرها فقط، فتيريز أبو ديوان تستعدّ لتحمُّل أوجاع قلنسوة الحديد البالغة حرارتها نحو 6 درجات تحت الصفر، الموضوعة على رأسها، لتُجنّبه مزيداً من التساقُط. تحضُر إلى العلاج متبرّجةً، مُعطَّرة، مرتديةً أجمل ثيابها. تقول إنها لا تخشى الصلع، لكنها ترفض نظرات الشفقة: «تؤلمني أكثر من المرض».

ترى العلاج الكيميائي «معركة روحية بين الإنسان وذاته، ولقاء بينه وبين الله». تتحضّر قبل موعد الجلسات لتتشبّع بالسلام النفسي. تزور أديرة وتضيء شموعاً، وتواصل المناجاة. «عليَّ تقبُّل ما أمرُّ به. أحبّ تعدُّد مراحلي». في الغرفة، تضيء الشموع على نية شفاء جميع المرضى. ترفض بقاء الأحبّة إلى جانبها في يوم العلاج المُرهِق، وتفضّل رفع الصلاة لها من المنازل أو الأشغال. وذات نهار، سألت والدتها المغادَرة. لمحت عذاباً في عينيها ودموعاً على خدّيها، فاستأذنتها في الانصراف لقسوة المشهد. «في تلك اللحظات أعود إلى ذاتي. إلى علاقتي بالله. إلى أخطائي. العلاج الكيميائي امتحان ضمير. لا يهمّ إنْ تألّم الجسد. على الإنسان أن يُشارك في آلام العالم. المعركة هنا نفسية. قدرُ الأجساد التألُّم، لكن على النفس الصمود. لا أخفي بكائي أحياناً، لكن بصمت. أذرف بعض الدموع ثم أختار الضحكة. الوجع يُبكي، وثمة آلام تفوق القدرة على تحمُّلها. هنا تتدخّل الإرادة الصلبة».

تجد في الرياضة مساحة تنفُّس (صور تيريز أبو ديوان)

كما تهوى تجربة آلة جديدة يضيفها النادي إلى مجموعة آلاته، ترى تجربة المرض: «من الجيّد أن تتنوّع التجارب، وأن تشمل سرطان الثدي أيضاً! فإن لم نختبر الألم، فلن ندرك قيمة الحياة». تواصل تمارينها كلما استطاعت، وتُعزّي النفس بشُكر الله على أنها اختيرت لهذا الامتحان بدلاً من والدتها أو أخيها. تُبسّط المرض لتُهوِّنه على آخرين قد يصيبهم: «لا أخجل من مشاركة قصتي. السرطان دوّار، ولا نجاة من احتمال أن يصيب أياً منا. علينا التحكّم بمخاوفنا».

بعض الأشياء يمكن السيطرة عليها، وبعضها خارج سُلطة الإنسان، لا ينفع معه الخوف. ترى أنّ مسائل مثل الكرامة تفوق أهميةً أمراض الجسد، وعلى العقل التصدّي لعجزه وإمكان أن ينطفئ: «الحياة أقوى من الموت، والمرض لا يحدُث إلا حين يصيب الداخل».


مقالات ذات صلة

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

صحتك صورة توضيحية تُظهر ورماً في المخ (أرشيفية)

الأول من نوعه... نموذج ذكاء اصطناعي يمكنه اكتشاف سرطان الدماغ

يفترض الباحثون أن شبكة الذكاء الاصطناعي التي تم تدريبها على اكتشاف الحيوانات المتخفية يمكن إعادة توظيفها بشكل فعال للكشف عن أورام المخ من صور الرنين المغناطيسي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فطر "الزر الأبيض" قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا (رويترز)

نوع من الفطر يبطئ نمو سرطان البروستاتا... تعرف عليه

أكدت دراسة جديدة أنَّ فطر «الزر الأبيض» قد يبطئ تطور سرطان البروستاتا عن طريق إعاقة نمو الورم، ودعم الخلايا المناعية المقاومة للسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك حقن فيتامين سي عبر الوريد تتيح تحقيق مستويات مرتفعة لا يمكن الوصول إليها عبر الأقراص الفموية (جامعة أيوا)

فيتامين سي يحسن نتائج علاج سرطان البنكرياس

كشفت دراسة سريرية أميركية عن نتائج وُصفت بـ«الواعدة» لعلاج سرطان البنكرياس المتقدم باستخدام فيتامين سي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
TT

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب في جميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

وأظهرت الدراسة، التي قادها فريق من جامعة كوينزلاند في أستراليا، ونُشرت نتائجها، الجمعة، في دورية «The Lancet Psychiatry»، أن كثيرين من المصابين بالاكتئاب لا يتلقون العناية اللازمة، ما يزيد من معاناتهم ويؤثر سلباً على جودة حياتهم.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 300 مليون شخص الاكتئاب، مما يجعله السبب الرئيسي للإعاقة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن 5 في المائة من البالغين يعانون هذا المرض. وضمّت الدراسة فريقاً من الباحثين من منظمة الصحة العالمية وجامعتيْ واشنطن وهارفارد بالولايات المتحدة، وشملت تحليل بيانات من 204 دول؛ لتقييم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية النفسية.

وأظهرت النتائج أن 9 في المائة فقط من المصابين بالاكتئاب الشديد تلقّوا العلاج الكافي على مستوى العالم. كما وجدت الدراسة فجوة صغيرة بين الجنسين، حيث كان النساء أكثر حصولاً على العلاج بنسبة 10.2 في المائة، مقارنة بــ7.2 في المائة للرجال. ويُعرَّف العلاج الكافي بأنه تناول الدواء لمدة شهر على الأقل، إلى جانب 4 زيارات للطبيب، أو 8 جلسات مع متخصص.

كما أظهرت الدراسة أن نسبة العلاج الكافي في 90 دولة كانت أقل من 5 في المائة، مع تسجيل أدنى المعدلات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا بنسبة 2 في المائة.

وفي أستراليا، أظهرت النتائج أن 70 في المائة من المصابين بالاكتئاب الشديد لم يتلقوا الحد الأدنى من العلاج، حيث حصل 30 في المائة فقط على العلاج الكافي خلال عام 2021.

وأشار الباحثون إلى أن كثيرين من المرضى يحتاجون إلى علاج يفوق الحد الأدنى لتخفيف معاناتهم، مؤكدين أن العلاجات الفعّالة متوفرة، ومع تقديم العلاج المناسب يمكن تحقيق الشفاء التام. وشدد الفريق على أهمية هذه النتائج لدعم خطة العمل الشاملة للصحة النفسية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية (2013-2030)، التي تهدف إلى زيادة تغطية خدمات الصحة النفسية بنسبة 50 في المائة على الأقل، بحلول عام 2030. ونوه الباحثون بأن تحديد المناطق والفئات السكانية ذات معدلات علاج أقل، يمكن أن يساعد في وضع أولويات التدخل وتخصيص الموارد بشكل أفضل.

يشار إلى أن الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم، حيث يؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، ويرتبط بشكل مباشر بمشاعر الحزن العميق، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، مما يؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والعلاقات الاجتماعية.