هوية الأغنية اللبنانية خاصة أم تابعة لتراث بلاد الشام؟

خليل أبو عبيد أمضى سنوات يُعالج الإشكالية الجدلية

وديع الصافي وفيلمون وهبي كانا الألمع في الجيل الذي وُلدت معه إرهاصات الأغنية اللبنانية الخاصة
وديع الصافي وفيلمون وهبي كانا الألمع في الجيل الذي وُلدت معه إرهاصات الأغنية اللبنانية الخاصة
TT

هوية الأغنية اللبنانية خاصة أم تابعة لتراث بلاد الشام؟

وديع الصافي وفيلمون وهبي كانا الألمع في الجيل الذي وُلدت معه إرهاصات الأغنية اللبنانية الخاصة
وديع الصافي وفيلمون وهبي كانا الألمع في الجيل الذي وُلدت معه إرهاصات الأغنية اللبنانية الخاصة

3 سنوات تطلَّب التصدّي لتعميم بدا غير منصف، جرَّد الأغنية اللبنانية من هويتها الفريدة. فبعضٌ روَّج لمقولة إنه «ليس ثمة موسيقى لبنانية في الأصل؛ بل تراث مشترك لبلاد الشام»، مُنطلقاً من أنّ «القرى الزراعية في سوريا وفلسطين ولبنان، جميعها، تُغنّي (الميجانا) وترقص (الدلعونا)».

لـ3 سنوات، عمل الفنان والملحّن خليل أبو عبيد على إثبات العكس. ومن خلال أطروحة دكتوراه، واجه الأسئلة وسعى إلى إجابات.

شغله الموضوع وقرَّر الإبحار. أيامٌ بلياليها، بحث عن إحاطة كاملة لإشكالية جدلية. رسالة الدكتوراه وسيلة لهذا العبور من الاستفهام إلى المعرفة الدقيقة. وضع المادة قيد البحث بإطارها التاريخي، مُقسَّمة على 5 مراحل زمنية، وتساءل: ما الأغنية اللبنانية؟ وما هويتها؟ هل قوامها مدارس أشخاص، منهم الرحابنة ووديع الصافي؟ أم لها هوية خاصة بذاتها؟

يُشارك «الشرق الأوسط» رحلة الوصول إلى نتيجة. ففي الحقبة الأولى الممتدّة بين الأعوام 1900 و1938، لمعت أسماء بمقام سامي الصيداوي وعمر الزعنّي، عملت على ولادة أغنية لبنانية مميّزة، وإنما منبثقة من التراث الفلكلوري. يقول أبو عبيد إنّ انتهاء المرحلة عند عام 1938 مردُّه ظهور الإذاعة اللبنانية في ذلك العام، أو ما عُرف بـ«راديو الشرق». ثم أتى جيل طوَّر التراث ومعه وُلدت إرهاصات الأغنية اللبنانية الخاصة؛ من ألمعياته: وديع الصافي وفيلمون وهبي.

شهدت مرحلة الأعوام من 1957 إلى 1975 عزّ مهرجانات لبنان، وانفتاح التوزيع الموسيقي على الغرب، فشكّلا الحقبة الذهبية للأغنية اللبنانية. كرَّس ذلك تبلوُر هويتها المستقلَّة عن زميلتها المصرية، بأثر من مناخ الانتداب الفرنسي، والإرساليات، واحتضان بيروت فرقاً موسيقية وافدة من أوروبا. إلى أن اشتعل الاقتتال الداخلي عام 1975 وعمَّ التدهور. مثل مرايا لا تنجو من مشهدية الوجوه المشوَّهة وهي تُعاينها، عكَسَ الخراب فوضاه على الأغنية. يضيف أبو عبيد: «تحوّلت أغنيات مهرجانات مثل بعلبك، الوجدانية والوطنية والتاريخية، إلى السياسة والثورة. في تلك الحقبة، كفَّت الأغنية اللبنانية عن محاكاة الطبيعة والموضوع المُوسَّع، وقلَّصت موضوعها، فطغى الجوُّ الثوري، ومن روَّاده: زياد الرحباني، ومارسيل خليفة، وخالد الهبر».

خلال المناقشة أمام اللجنة (صور خليل أبو عبيد)

​استوقفته الرقمنة في المرحلة الزمنية الخامسة الممتدَّة من منتصف التسعينات إلى اليوم. الكومبيوتر استُبدل بالعزف الحيّ، وبرز أثر الغرب الكبير على الأغنية اللبنانية. شكّل التماهي مع الغناء الغربي وأساليبه خطراً على التراث؛ وبدخول أنماط مثل «البوب» و«الهيب هوب» ومواقع التواصل، درَجَ تنميط الأغنية اللبنانية بما يتماشى مع المناخ العالمي. فتلك التيارات فرَّغتها من سياقات التميُّز الأصيل. يتوصَّل أبو عبيد إلى هذه الخلاصة بعد دراسة مفصَّلة للمراحل الخمس منذ تبلوُر الأغنية اللبنانية إلى لحاقها بالرواج المتشابِه.

أفرد الصفحات لفصل عنوانه: كيفية تأثُّر الأغنية اللبنانية بالموسيقى السريانية، والبيزنطية، والتجويد، والكلاسيكية الغربية، والألوان الغربية المعاصرة. كل صنف من هذه الجماليات، حلَّله وقرأ في خفاياه باحثون موسيقيون، وعلماء موسيقى، ونقَّاد، وموزِّعون، وشعراء أغنية؛ وظَّف أبو عبيد آراءهم ضمن استبيانات علمية، توصَّلت إلى شبه الإجماع هذا: «96.8 في المائة من المجتمع الموسيقي يؤكد وجود هوية فريدة خاصة للأغنية اللبنانية التي تطوَّرت استجابة لأحداث تاريخية وسياسية واجتماعية شهدها لبنان».

لـ3 سنوات سعى الفنان خلف إجابات (صور خليل أبو عبيد)

اتَّخذ البحث في كل مرحلة زمنية 3 أغنيات نماذجَ للدراسة، للإجابة على إشكالية تتعلَّق بتطوُّر الموسيقى اللبنانية من «أغنية فلكلورية إلى تكرار للأغنية المصرية التي غزت لبنان منذ الثلاثينات حتى الخمسينات، على أثر انتشار الإذاعة المصرية والسينما»، وصولاً إلى تشكُّلها بذاتها. توصَّلت الأطروحة إلى أنَّ «هوية الأغنية اللبنانية الخاصة تتكثَّف بجمعها السرياني، والبيزنطي، والتجويد، والكلاسيكي الغربي، والألوان الغربية المعاصرة، وصهرها في وحدة بنيوية».

لتأكيد ما خلُص إليه، بيَّن البحث أنَّ الأغنية العربية عموماً «ليست وليدة هذا المزيج الآسر من التراثات الثقافية المتعدِّدة»، ويُشدِّد مُعدُّه على أنَّ الخلاصة ما تجلَّت إلا «بالدلائل والمراجعات التاريخية، والدراسات المقارنة، والتحليل الموسيقي».

ينسب للأغنية اللبنانية أيضاً أنها «الأكثر انتشاراً في المنطقة». مردُّ القول إن حضورها ساطع في معظم الأعراس العربية، وتُشكِّل المساحة الكبرى ضمن مختارات الغناء والدبكة. يصل به بحثه إلى تأكيد أنَّ «الأغنية اللبنانية سبَّاقة في الانتشار عربياً، وإنْ طغى المناخ المصري وتمدَّد». وبلسان مصريين، كان لافتاً الاعتراف بانتشارها «بما يفوق أي انتشار آخر، لصُنعها مزاجاً خاصاً، ولمرورها بعصر ذهبي كرَّسته المهرجانات العريقة». يُكمل بأنه أورد كتابات ونصوصاً رسمية تنقل عن مصريين قولهم إنَّ «المهرجانات اللبنانية والثورة الغنائية ألهما مصر في هذا المجال، لمكانة لبنان ضمن هذا المستوى الفني المرموق».

يعلم خليل أبو عبيد حساسية الموضوع، فالتاريخ دائماً حمَّال أوجه، والحقيقة أحياناً متعدِّدة. وضع أمام لجنة «جامعة الروح القدس- الكسليك» بحثاً جريئاً عنوانه «الأغنية اللبنانية تاريخ وهوية؛ من بداية القرن العشرين إلى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين»، وهو يدرك أنه مشرَع على حدَّة النقاش، ومنفتح على الآراء المتضاربة. يقول: «لستُ أتكلَّم عن آلة العود مثلاً وتاريخها، ولا عن مدرسة فنية. إنني أمام سؤال الهوية». نال «مشرِّف جداً» على الجهود.


مقالات ذات صلة

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

يوميات الشرق بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

فنان الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق موسيقى الشهر: عودة متعثّرة لشيرين... وأحلام تنفي الانفصال بالصور والغناء

موسيقى الشهر: عودة متعثّرة لشيرين... وأحلام تنفي الانفصال بالصور والغناء

بدل أن يصل صدى أغنيات شيرين الجديدة إلى جمهورها العربي، طغى عليها ضجيج المشكلات التي واكبت عودتها. ماذا أيضاً في الجديد الموسيقي لهذا الشهر؟

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق سمير روحانا خلال حفل بعلبك (المصدر منصة إكس)

شربل روحانا والثلاثي جبران مع محمود درويش يعزفون على «أوتار بعلبك»

الجمهور جاء متعطشاً للفرح وللقاء كبار عازفي العود في العالم العربي، شربل روحانا وفرقته، والثلاثي جبران والعازفين المرافقين.

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق لقطات من أغنية محمد رمضان «مش فاضي» (يوتيوب)

محمد رمضان يُجدِّد الجدل حول «الإيحاءات الخادشة» في الأغنيات

أعاد الفنان المصري محمد رمضان الجدل حول «الإيحاءات الخادشة» في الأغنيات بعد طرحه أغنية «مش فاضي» عبر قناته في «يوتيوب» ومنصّات إلكترونية خلال الأيام الماضية.

أحمد عدلي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ أعضاء فرقة «آبا» السويدية الموسيقية يصلون لحضور عرض في لندن ببريطانيا في 26 مايو 2022 (رويترز)

فرقة «آبا» تطلب من ترمب التوقف عن استخدام موسيقاها في التجمعات الانتخابية

طلب أعضاء فرقة «آبا» السويدية، أمس (الخميس)، من المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترمب، التوقف عن استخدام موسيقاهم في التجمعات الانتخابية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

شاهد... لحظة سقوط مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب على المسرح قبل وفاته

مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب (صفحته على «فيسبوك»)
مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب (صفحته على «فيسبوك»)
TT

شاهد... لحظة سقوط مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب على المسرح قبل وفاته

مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب (صفحته على «فيسبوك»)
مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب (صفحته على «فيسبوك»)

توفي مغني الراب الأميركي فاتمان سكوب، على ما أفاد مدير أعماله، السبت، بعدما كان الفنان البالغ (53 عاماً) سقط على خشبة المسرح خلال حفلة موسيقية في اليوم السابق.

وكان فاتمان سكوب الذي اشتُهر بأغنيتيه «بي فيثفول» (Be Faithful) و«إت تيكس سكوب» (It Takes Scoop)، هوى خلال إحيائه حفلة في مدينة هامدن بولاية كونيتيكت (شمال شرقي الولايات المتحدة)، فنُقِل إلى المستشفى، لكنّ الأطباء لم يتمكنوا من إنعاشه، وفق ما أوضحت وسائل إعلام أميركية.

وأظهر مقطع فيديو، عرضه موقع «تي إم زي» المختص بأخبار المشاهير، مسعفين يُجرون عملية إنعاش لقلب الفنان عندما كان لا يزال على المسرح، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

ونعاه مدير أعماله، بيرتش مايكل في منشور على شبكة «فيسبوك»، جاء فيه: «بقلب حزين، أعلن وفاة آيزك فريمان الثالث، المعروف مهنياً باسم فاتمان سكوب».

وأضاف في منشوره الذي أرفق به صورة لمغني الراب: «لقد علمتني أن أكون الرجل الذي أنا عليه اليوم. أحبك يا سكوب، شكراً جزيلاً لك على كل ما أعطيتني».

ووجهت نجمة الهيب هوب ميسي إليوت تحية إلى فاتمان سكوب، فكتبت عبر منصة «إكس»، أن ما تمتع به من «صوت وطاقة» أسهم طوال أكثر من عقدين في «كثير من الأغنيات التي أسعدت الناس وجعلتهم يرقصون». وأضافت: «تأثيرك ضخم ولن يُنسى أبداً».

وفي عام 2018، كان فاتمان سكوب موضع جدل في أستراليا، عندما نشر رئيس الوزراء آنذاك سكوت موريسون مقطع فيديو لأغنية «بي فيثفول» على «إكس».

وما لبث موريسون المحافظ والمنتمي إلى المذهب المسيحي الإنجيلي أن حذف منشوره بعد تلقيه انتقادات بسبب كلمات مغني الراب التي عُدّت غير مناسبة لقواعد البرلمان الأسترالي.