برانكوزي «أبو النحت الحديث» في معرض شامل بمركز بومبيدو الباريسي

الفنان الروماني أهدى فرنسا محتويات مشغله الذي يراه الزائر طبق الأصل

وجوه بملامح مبسّطة (موقع مركز بومبيدو)
وجوه بملامح مبسّطة (موقع مركز بومبيدو)
TT

برانكوزي «أبو النحت الحديث» في معرض شامل بمركز بومبيدو الباريسي

وجوه بملامح مبسّطة (موقع مركز بومبيدو)
وجوه بملامح مبسّطة (موقع مركز بومبيدو)

بعض المَعارض يجعلك تتوقّف أمام كل عمل، وتدقّق في تفاصيله. لكن المعرض الذي يستضيفه مركز جورج بومبيدو في باريس حالياً وحتى بداية يوليو (تموز) المقبل، يضعك أمام نوع مختلف من الفنّ، حيث تجد البساطة في أبدع تجلّياتها العبقرية؛ أي السهل الممتنع في النحت. خطوط واضحة، نظيفة، واستدارات ملساء، وفكرة تأخذ من الطبيعة ما قلَّ ودلَّ. هذا معرض استعاديّ شامل للفنان الروماني قسطنطين برانكوزي، أو برانكوشي كما يُلفَظ اسمه بلغته، يضمّ 120 منحوتة، وما مجموعه 400 عمل، ما بين تخطيط وصور فوتوغرافية وأفلام ومقتنيات تعود لمن يحمل لقب «أبو النحت الحديث».

الديك 1935 (موقع مركز بومبيدو)

من جماليات مركز بومبيدو، تلك الجدران الزجاجية التي تتيح للمتجوّل في صالات العرض أن يطلّ، من الأعلى، على المباني القديمة لحيّ الهال؛ قلب المدينة التاريخي. هنا كان يقع سوق الخضراوات واللحوم والأسماك الرئيسي في العاصمة، أو ما يُسمَّى «معدة باريس». ثم مُسِح السوق ونُقل إلى الضاحية الجنوبية، ليترك المكان لحدائق خضراء ولمبنى تجاري حداثيّ. ومن خلال الجدران الشفّافة للمعرض، تجتمع أمام الناظر منحوتات أعادت تعريف معنى النحت وجردّت الأشكال من تفاصيلها وزخارفها من جهة، وعمارة متقشّفة من جهة أخرى، تعود لقرنين من الزمن، وتفتقر لبذخ المباني التي خطَّط لها المهندس هوسمان في أحياء المال والمصارف والمتاجر الكبرى.

الأميرة إكس 1916 (موقع مركز بومبيدو)

من مفاجآت المعرض أيضاً أنّ الزائر يجد فيه صالة تعيد تأثيث الفضاء الشاعريّ لمشغل برانكوزي كما كان عليه في الواقع، أوائل القرن الماضي. كتلٌ من طين، ورخام، وقماش، وقوالب، وسلالم، وأزاميل، ومساند خشبية لا ينقصها سوى فنان موهوب ذي لحية كثّة، يرتدي صدرية بيضاء ويتحرّك بينها. كانت ورشته هي مكان عيشه وقراءاته ولقاءاته وتأملاته. وفيها نجد قوالب عدد من أشهر أعماله الرخامية والبرونزية.

من أعماله عام 1926 (موقع مركز بومبيدو)

وُلد برانكوزي عام 1876 في رومانيا عندما كانت إمارة تتبع الامبراطورية العثمانية قبل سنتين من استقلالها، وتوفي في باريس عام 1957 بعدما أقام فيها طويلاً ونال الجنسية الفرنسية. وكان والداه فلاحين مقتدرين مالياً، يعيشان من إدارة مزارع دير بلدة تسمانا، أحد أشهر رموز الكنيسة الأرثوذكسية. ولاحقاً، تحوّل البيت الريفي حيث وُلد إلى متحف تذكاري للفنان. درس في صباه بمدرسة الفنون والصنائع في كرايوفا، ثم في الجامعة الوطنية للفن في بوخارست، قبل أن ينطلق مشياً لوداع والدته واستكمال تأهيله في باريس عام 1903. كانت فيينا واحدة من محطاته حيث عمل في تزيين الأثاث، وزار المتاحف، وتعرّف إلى التماثيل الفرعونية التي تركت بصمتها على منحوتاته. لكن إصابته بمرض في الرئة ودخوله المستشفى، أجبراه على وقف السير على قدميه وركوب القطار لبلوغ العاصمة الفرنسية. فيها دخل المدرسة الشهيرة للفنون الجميلة وأقام مشغله في شارع رونسان المسدود الذي يجمع عدداً من ورشات الرسامين، ويقع في الدائرة الـ15، وبقي يعمل فيه حتى وفاته. لاحقاً، أزيل الشارع، وأضيف إلى مبنى مستشفى «نيكر» الشهير للأطفال.

ثلاثة ديكة (موقع مركز بومبيدو)

أراد برانكوزي التدرُّب في مشغل النحات رودان، لكنه لم يبقَ معه سوى شهر واحد. وقال قولته الشهيرة: «لا شيء ينمو في ظلّ شجرة كبيرة». ولعله كان على حقّ، فبعد فترة وجيزة من مفارقة معلّمه، أنجز عمله الأشهر «القبلة». كان متديّناً يرتاد الكنائس ويتأمّل التماثيل، ويعيد إنتاج منحوتات تكتفي باللب فحسب. ومن أعمال تلك المرحلة، منحوتتا «الصلاة» و«رأس طفلة». وكانت منحوتته «الملهمة الغافية» أقرب إلى تكوين البيضة البرونزية الكبيرة منها إلى «البورتريه» التقليدي. وهو الشكل الذي تكرّر لديه لاحقاً.

حمامتان (موقع مركز بومبيدو)

وفي عام 1916، أنجز منحوتة «الأميرة إكس» التي عُرضت في نيويورك من دون أن تثير اعتراضاً، لكنه واجه انتقادات عندما عرضها في صالون المستقلّين بباريس، إذ رأى ماتيس أنها تشبه عضواً تناسلياً. اضطر القائمون على الصالون إلى سحبها قبل مرور الوزير الذي افتتح المعرض، فعلّق النحات على الأمر بالقول: «المنحوتة هي تحليل للمرأة أو الأنثى الخالدة كما وصفها الفيلسوف غوته، مختصرةً إلى خلاصتها. وطوال 5 سنوات، اشتغلتُ على تقويل المادة ما لا يمكن التعبير عنه. وأعتقدُ أنني نجحت في نهاية المطاف في تجاوزها».

منحوتة «الملهمة الغافية» 1910 (موقع مركز بومبيدو)

في الثلاثينات، طلبت رابطة المرأة في رومانيا من برانكوزي عملاً لتخليد ذكرى ضحايا الحرب العالمية الأولى، فاقترح ثلاثية تجمع ما بين «عمود بلا نهاية»، و«بوابة القبلة»، و«طاولة الصمت»؛ ولا تزال المنحوتة معروضة ضمن تقاطع طرق في «تيرغوجيو».

جانب من المعرض الاستعادي (موقع مركز بومبيدو)

مِن النقاد مَن يرى أن برانكوزي تفوّق على رودان في جماليات أشكاله وأصبح من أكثر الفنانين تأثيراً على جيل تالٍ من النحاتين. دفع بالتجريد، أي تخليص الكتل من الزوائد، نحو درجة لم يبلغها فنان قبله في تقاليد الحداثة، ومهَّد الطريق نحو النحت السوريالي والتبسيطي الذي انتشر في ستينات القرن الماضي. بل أنه أدرك الأثر الذي سيكون لفنّ الفوتوغراف على الفنون البصرية، لهذا التقط منذ فترة مبكرة مئات الصور لمنحوتاته، مؤمناً بأنّ الكلمات، أي الوصف، تعجز عن التعبير عن العمل التشكيلي.

حتى النهاية، بقي برانكوزي وفياً لباريس. وقد فارق الحياة في مشغله بشارع رونسان، ودُفن في مقبرة مونبارناس القريبة، بعدما أوصى بإهداء الدولة الفرنسية جميع محتويات مشغله من مواد وأرشيفات وصور. وهو المشغل الذي أُعيد تأليفه، طبق الأصل، في المعرض الحالي بمركز بومبيدو.


مقالات ذات صلة

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)
يوميات الشرق إحدى لوحات معرض «يا عم يا جمّال» (الشرق الأوسط)

«يا عم يا جمّال»... معرض قاهري يحاكي الأغاني والأمثال الشعبية

يحاكي الفنان التشكيلي المصري إبراهيم البريدي الأمثال والحكايات والأغاني والمواويل الشعبية المرتبطة بالجمل في التراث المصري والعربي.

حمدي عابدين (القاهرة )
يوميات الشرق ملالا مع لوحاتها (دليل باريس للمعارض)

جدارية بعرض 60 متراً تعكس تحولات البشرية نحو العولمة

في أكبر صالات «قصر طوكيو» في باريس، تعرض حالياً وحتى 5 يناير (كانون الثاني) المقبل، جدارية استثنائية للفنانة ملالا أندريالافيدرازانا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».