تصف الفنانة التشكيلية اللبنانية، ماجدة نصر الدين، مشاركتها في «مهرجان سكة للفنون 2024»، بالإمارات، حيث تقيم، بالفريدة. هذا حضورها الأول في حدث متنوّع قصده الجمهور للاستمتاع بتجربة إبداعية شاملة، وليس فقط لرؤية الأعمال الفنية. تُشارك «الشرق الأوسط» حكاية إيصال الأفكار باستخدام مواد بسيطة تُحاكي تيمة الاستدامة. فكيس الشاي المُستَعمل، الذي نتخلّص منه عادة من دون تفكير، يصبح «كانفاسها» الخاص. والقهوة التي نحتسيها تتحوّل تحدّياً شخصياً للتلوين بها.
يستوقفها «الدور الكبير للمتلقّي في إكمال العمل الفني، من خلال إسقاطاته وتأويلاته حول ما يراه. فاختلاف وجهات النظر يُغني العمل ليصبح أعمق». وترى في ارتباط الإبداع بقضايا البيئة والاستدامة مسألة «مُهمّة ومُلهمة» تمنح العمل الفني «ثقلاً إضافياً - إيجابياً، إنْ كان يحمل سمات النجاح من الأساس». تقول: «هذا لن تفعله المواد المُعاد تدويرها وحدها، إذ ثمة مقاييس للعمل الناجح تنبغي مراعاتها. فليس كل استخدام للمواد المُعاد تدويرها هو عمل فني بالضرورة».
نسألها كيف تصبح المادة المُهمَلة، أو المنبوذة، أو المتروكة لشأنها، مثل بقايا القهوة، أو كيش الشاي المُرسل عادةً إلى حتفه، أداةً للتشكيل؟ وكيف بدأ هذا الاهتمام وما أشعله فيها؟ تجيب أنها ابنة الطبيعة الخلّابة، المحيطة بالألوان من كل جانب: «اعتدتُ منذ طفولتي المجيء بورق العنب وأوراق الشجر المختلفة بألوانها البهيّة، وصناعة لوحات جميلة منها. منحتني المجلّات الملوّنة فرحاً خاصاً. لم أدرك حينها أنّ هذا يندرج تحت مُسمَّى الاستدامة. أنجزتُ بشكل فطري بعيداً عن كلّ نظريات الفنّ. أذكر الآن كلام أمي: (أنتِ تخيطين الجمال بمواد يكاد لا يلحظها أحد)».
تذكُر يوم زار عامل كهرباء منزلها في الشارقة للجباية. راح ينظر بطريقة غريبة إلى أشياء تفترش الأرض: البرتقال المُستَخدم، ونواة التمر... تساءل عما تفعله تلك «القمامة»؟ لم يعلم أنّ ماجدة نصر الدين تستخدمها لزخرفة جرار الفخار، وفي دروس الطباعة الفنية التي كانت تعطيها للسيدات في «جمعية الإمارات للفنون التشكيلية». فنُّها يرى كل ما حولنا، خصوصاً الأشياء المُهمَلة، احتمالاً لإبداع جديد.
ولكن كيف بدأت قصّتها مع القهوة؟ تعود أيضاً للطفولة: «كنت ألوّن ببقايا فناجين القهوة (التِفِل)، وأصنع وجوهاً وأشكالاً غريبة لا تُشبه شيئاً. لم تغب القهوة يوماً عن لوحاتي، خصوصاً حين أستخدم الألوان المائية. عام 2020، بدأتُ بإعطاء دروس رسم عبر (يوتيوب) بهذه المادة. كانت أيام حَجْر، والقهوة متوافرة في كل بيت».
أخافها هاجس أن يقضي الوباء على حياة البشر بلا رجعة، فتذكُر: «حينها، تحدّيتُ الأسئلة المرعبة في رأسي، وأعدتُ تدوير الأقنعة الواقية من الفيروس التي ارتديتُها. حوّلتُها أعمالاً فنية عُرضت في أكثر من غاليري. أما أكياس الشاي، فلطالما استخدمتُها في تشكيل لوحاتي. المرة الأولى كانت عام 2019 في معرض عن طائر البوم بمقهى (عشّ البومة) في دبي. بعدها توالت أشكال الاستخدامات، لتُجسّد فكرة الوجوه التي قدّمتُها هذا العام في (سكة)، وفي معرض (جمعية الإمارات للفنون التشكيلية). إنجازها شاق، لرقّة الورق ودقّة العمل عليها. أحبُّ تحدّي نفسي بأشياء يصعب تنفيذها».
ترسم ماجدة نصر الدين الوجوه، وهي غالباً قلِقة، مُبهَمة، غامضة، وربما مصابة بالتشويه والمقتلة. أهذه مراياها الداخلية، أم انعكاس الواقع بعبثيته وحروبه على فنّها؟ وجوهها انعكاسٌ لما يحمله العالم من ظلم وقهر. ذاك الحزن الذي يلاقينا على أكثر من منعطف. تقول: «نحن كائنات هشة رغم اتّسامنا بالقوة والصمود. رحلتي مع الوجوه بدأت من خربشة وجه مشرذم أسميته (كأنّي أنت). أرسمُ تلك الوجوه بما يمليه عليَّ قلبي وحبري. وهذا لا علاقة له بقيمة اللوحة أو عدمها. ثمة وجوه حزينة لا تملك معنى أو قيمةً، والعكس صحيح. وثمة وجوه تضجّ بالفرح تملك كل القيمة الإبداعية. تفرض الذاكرة والواقع الراهن ببشاعته وفظاعته، التماهي والمحاكاة، وهما مِن مهمّات الفنّ على كل حال».
لكنه رغم حزن الوجوه وتشرذمها وقلقها، ثمة مجال لتحمل في طيّاتها كثيراً من الأمل والتحدّي بتجاوز الصعاب. المتعمّق في الملامح، يرى دائماً الاحتمال الآخر.
وترسم أيضاً للأطفال. تقول إنهم أجمل ما في الحياة، فترسم لهم بقلبها الذي لا يزال يحبو. برأيها، «هذا لا يبتعد كثيراً عن الرسم بالأبيض والأسود». فالمسألتان تمنحانها الشعور بالطيران من الفرح، وأنها «الطفلة التي تستكشف اللون الأسود للمرة الأولى». ينبع هذا الفرح رغم السواد في اللوحة لإتاحته إحساس «التحليق في عوالم مغايرة تقود إلى عالم جديد من الدهشة».
بعد زيارتها لبنان عام 2021، رسمت وجوهاً مأكولة بالحزن، وأرسلتها إلى الشاعرة اللبنانية وكاتبة قصص الأطفال لوركا سبيتي، لإنجاز مشروع إبداعي مشترك يجمع الشعر بالرسم. وُلد كتاب «ذهان 4:48» على هذا الشكل: «أرسمُ لوحة، فتكتب (لوركا) قصيدة؛ وتكتب قصيدةً فأرسمُ لوحة». وعن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت، أنجزت الصديقتان أيضاً كتاب «أنا أحلم» للأطفال. شكّلت الرسوم مرآة لأوجاع الشاعرة، والكلمات صدى لدواخل الرسامة. التقيتا على ضفاف كتاب.
عوالم ماجدة نصر الدين مزيجٌ من وعي ولا وعي، فكيف تستعيد العلاقة بالعالم حين يتلاشى كل شيء ويصبح طلاسم غير مفهومة؟ بالفنّ يحدُث التوازن، فتجيب: «حين أرسم، أراني وسط أسئلة لا تنتهي. بين الحبر واللون، أبحثُ عن وطن. أجمل ما في الأمر، ورغم مراكمة التجارب، هو شعوري أنني طفلة تتهجّأ اللون من جديد». إذن، الإقامة في اللوحة سعادة وليست تحايلاً على التعاسة؟ تجزم: «ليس أجمل من اللوحة يتّخذها الفنان وطناً لتصبح ملجأه حين تضيق الأوطان. أؤمن أنْ (على هذه الأرض ما يستحق الحياة). بالفنّ وشغفي بالإبداع، تحايلتُ على شعوري بالخذلان وحزني وغضبي وقهري مرات كثيرة. وهذه نعمة لا يُستهان بها».