كيف أنقذ أنتوني هوبكنز سيغموند فرويد؟

فيلم يستعيد الأيام الأخيرة لعالم النفس وجلستَه المتخيّلة مع سي إس لويس

الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز بدور عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد (أ.ب)
الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز بدور عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد (أ.ب)
TT

كيف أنقذ أنتوني هوبكنز سيغموند فرويد؟

الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز بدور عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد (أ.ب)
الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز بدور عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد (أ.ب)

لم يمسك أنتوني هوبكنز بخيط شخصيّة، إلّا وحاك الدور كأمهر الخيّاطين. في سنته السادسة بعد الثمانين، يتقمّص الممثّل البريطاني العالميّ شخصيّة مؤسس تحليل النفس البشريّة سيغموند فرويد، في فيلم «Freud’s Last Session» (جلسة فرويد الأخيرة).

طوى أب السيكولوجيا ثمانينَه هو الآخر، وإنه يُمضي الأسابيع الأخيرة من حياته في لندن عام 1939، بعد أن اضطرّته ضراوة الحرب العالميّة الثانية إلى مغادرة بلده النمسا. أما الجلسة الأخيرة تلك التي يشير إليها عنوان الفيلم، فهي ليست مع مريض، بل مع زائرٍ خارج عن المألوف هو الكاتب البريطاني سي إس لويس.

لا وثائق تاريخيّة تجزم بأنّ هذا اللقاء حصل فعلاً، وقد أطلق الكاتب مارك سان جيرمان اسماً مستعاراً على لويس هو «جاك»، لإضفاء مزيدٍ من الغموض إلى الحوار المتخيّل. على مدى ساعة و40 دقيقة، وهي مدّة الفيلم، يتجادل فرويد ولويس في الإيمان والدين. وجهات نظرهما على طرفَي نقيض، فالدكتور سيغموند معروف بإلحاده، أما مؤلّف «سجلّات نارنيا» فقد فتح قلبه للإيمان بعد سنوات من عدمِه.

حبكة الفيلم مبنيّة على حوار متخيّل بين فرويد والكاتب البريطاني سي إس لويس (أ.ب)

لكنّ الحبكة السينمائية لا تُخصّص بكاملها للسجال بين الرجلَين، إذ تتعدّد فيها المشاهد الموازية. يأتي بعضها على شكل استرجاع زمنيّ (flashback) يروي أجزاء من طفولة فرويد ولويس وماضيهما. ومن بين الحكايات التي تُقاطع الحوار الفلسفيّ والنفسيّ الشائك، تلك التي يتعرّف فيها المشاهدون إلى شخصيّة محوريّة في حياة فرويد، لم يُلقَ عليها الضوء كثيراً في السابق؛ ابنته آنا فرويد التي ورثت عنه علم النفس ووجّهته صوب الأطفال.

على إيقاع صفّارات الإنذار وانهمار قنابل هتلر فوق لندن، تسير جلسة فرويد مع لويس. ولولا الإنذار الجويّ المدوّي في الدقيقة 23 من الفيلم، لما خرجا من خلوتهما في مكتب فرويد المعتم المهيب. كسائر أهل المنطقة، يلجآن إلى إحدى الكنائس حيث يكتشف فرويد ذعر ضيفِه من أصوات الحرب، فيما يتعرّف لويس في المقابل على ثقافة مُضيفه الدينيّة رغم عدم إيمانه.

تحتلّ الجزء الأكبر من الفيلم مشاهد على هيئة استرجاع زمنيّ (سوني بيكتشرز)

ليس دويّ الحرب وحدَه ما يرسم إيقاع الفيلم، بل نوبات السعال وضيق النفس والنزيف التي تنتاب فرويد؛ فهو يعاني من سرطان الفم في مراحله الأخيرة. يراهن لويس على الضعف البشريّ في لحظات النهاية، لعلّه يقنع العالِم النفسيّ بصوابيّة الإيمان. لكن رغم المرض والوهن، فإنّ فرويد صعب الإقناع. صحيحٌ أنّ سخرية لويس منه في أحد كتبُه، هي التي استفزّته ودفعته إلى استضافة الكاتب في بيته ومنازلته فكرياً وفلسفياً، إلّا أنه لا يبدو ضعيفاً أمامه ولا يحاول استرضاءه.

يقدّم أنتوني هوبكنز أداءً مبهراً، وهو يوازن ما بين هشاشة فرويد الجسديّة وصلابة عقلِه. ينقذ الشخصية من شركِ فيلمٍ قاتمٍ ومعقّد يغرق في السرديّات الموازية، وغالباً ما يتوه عن لبّ الحوار الأساسيّ. بكامل عصبه ومن دون أن يستعين بلكنةٍ نمساويّة، لا ينقص هوبكنز شيءٌ من الإقناع. أقلّ ما يقال عنه، إنه يخطف الضوء من شريكه في الفيلم، الممثل البريطاني ماثيو غود الذي أدّى دور لويس.

الممثل البريطاني ماثيو غود بشخصيّة سي إس لويس (سوني بيكتشرز)

وكأنّ هوبكنز استغنى عن تعليمات المخرج ماثيو براون، فانغمس منفرداً ومن دون مجهود في شخصية فرويد إلى حدّ التَماهي، مستأثراً بالفيلم من البداية حتى النهاية. ربّما انتظر هذا الدور منذ زمنٍ بعيد، فالشبَه واضح وتجربة هوبكنز السينمائية تُثبت أنه من هواة الغوص في الدراما النفسيّة.

ليست لعبة تبادل طابة الكلام بين الشخصيّتَين متكافئة، وسط اكتفاء لويس بالصمت والمراقبة في معظم المشاهد. مَن يتوقّع جلسة تحليل نفسيّ من الفيلم واختراقاً لدماغ فرويد، لن يُشفى غليلُه بالكامل مع أنّ الرجلَين يتبادلان الاستلقاء على أريكة فرويد الشهيرة. لكنّ ذلك لا يكفي لاقتحام غياهب النفس، ويجب الاكتفاء بالتالي بفقرات الاسترجاع الزمنيّ التي تكشف بعضاً من ماضي الرجلَين.

لعبة تبادل الكرة ليست متكافئة بين هوبكنز وغود (سوني بيكتشرز)

كبر فرويد تحت سلطة والدٍ يهوديّ صارمٍ حرمَه حنان مربّيته، فور اكتشافه أنها تلقّنه الديانة المسيحيّة. كان طفلاً مغامراً يجذبه كل ما هو غامض. أما طفولة لويس فشابَها الخوف، وقد انسحب الأمر على تجربته كجنديّ متطوّع في الحرب العالمية الأولى حيث خسر أقرب أصدقائه، وخرج مع ندوبٍ نفسيّةٍ كثيرة.

في سياق الاسترجاع الزمني، يكتشف المُشاهد في لحظة مؤثّرة، الوقع الأليم الذي خلّفته على فرويد وفاة ابنته صوفي وحفيده خلال جائحة الإنفلونزا الإسبانية. ثم يعود المُشاهد معه إلى فيينا عشيّة مغادرته مسقط رأسه إلى لندن عام 1938، بعد أن تعرّضت ابنته آنا للتوقيف لساعات بدلاً عن أبيها، من قبل جهاز «غيستابو» الأمني الألماني.

يواكب الفيلم أيام فرويد الأخيرة ومعاناته المؤلمة مع سرطان الفم (أ.ب)

تأخذ العلاقة الملتبسة بين آنا وسيغموند فرويد حيّزاً لا بأس به من الحبكة، وهي من بين أكثر ثيمات الفيلم قرباً للوضوح. أحد زملائها في الجامعة حيث تدرّس علم النفس، يشخّص تعلّقها بوالدها كحالةٍ مرَضيّة. وما تَصاعُدُ الأحداث وتفانيها له ولعلاجه، سوى تأكيد على تلك النظريّة. أما ما يتوّج العلاقة فجلسة تحليل نفسي خارجة عن المألوف تجمع الابنة بأبيها.

في وقتٍ تغيب الزوجة عن المشهد ولا يذكرها فرويد سوى تلميحاً، تملأ صور آنا البيت. تترك طلّابها وسط الدرس وتهرع من الجامعة إلى البيت تحت القصف، كلّما استدعاها والدها طالباً المورفين للتخفيف من آلامه. يتحكّم بها وبمشاعرها وهي تتردّد كثيراً قبل أن تواجهه بحقيقة علاقتها بصديقتها دوروثي برلينغهام.

آنا ابنة فرويد شخصية محوريّة في الفيلم (سوني بيكتشرز)

يقول فرويد في إحدى عباراته المأثورة ضمن الفيلم: «لديّ كلمتان أهديهما للبشر: انضجوا». كان من الممكن تطبيق ذلك على العمل السينمائي، وإنضاج بعض مواضيعه التي بقيت حبيسة عيادة الدكتور سيغموند المعتمة.


مقالات ذات صلة

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

يوميات الشرق بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

في خطوة عدّها الاتحاد الأوروبي «علامة فارقة في الشراكة الثقافية مع ليبيا»، يواصل مهرجان للأفلام الأوروبية عرض الأعمال المشاركة في العاصمة طرابلس حتى الخميس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

تقع أهمية النسخة الـ10 من المهرجان بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق فيلم «فخر السويدي» تناول قضية التعليم بطريقة فنية (الشركة المنتجة)

فهد المطيري لـ«الشرق الأوسط»: «فخر السويدي» لا يشبه «مدرسة المشاغبين»

أكد الفنان السعودي فهد المطيري أن فيلمه الجديد «فخر السويدي» لا يشبه المسرحية المصرية الشهيرة «مدرسة المشاغبين» التي قدمت في سبعينات القرن الماضي.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق تجسّد لبنى في «خريف القلب» شخصية السيدة الثرية فرح التي تقع في ورطة تغيّر حياتها

لبنى عبد العزيز: شخصية «فرح» تنحاز لسيدات كُثر في مجتمعنا السعودي

من النادر أن يتعاطف الجمهور مع أدوار المرأة الشريرة والمتسلطة، بيد أن الممثلة السعودية لبنى عبد العزيز استطاعت كسب هذه الجولة

إيمان الخطاف (الدمام)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
TT

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

بعيداً عن التكلس السياسي الذي تعانيه ليبيا، انطلق في العاصمة طرابلس مهرجان للفيلم الأوروبي تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي إلى البلاد، بالتعاون مع الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، في خطوة تستهدف توسيع الشراكة الثقافية وكسر حاجز الانقسام، من خلال تجميع الليبيين بالثقافة والفن.

وتشارك في النسخة الأولى من المهرجان، التي انطلق الأحد، 5 سفارات أوروبية عاملة في ليبيا، بأعمال يتم عرضها للجمهور مجاناً لمدة 5 أيام، تنتهي الخميس المقبل. وعبّر سفير بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، نيكولا أورلاندو، عن سعادته لافتتاح أول مهرجان سينمائي ليبي - أوروبي في طرابلس، إلى جانب الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، وسفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا ومالطا وإسبانيا. وعدّ هذا الحدث «علامة فارقة في الشراكة الثقافية بين ليبيا والاتحاد».

ويعرض مساء اليوم (الاثنين) فيلم «راعي البقر من الحجر الجيري» المقدم من سفارة مالطا، بقاعة الهيئة العامة للسينما والمسرح في شارع الزاوية بطرابلس، التي دعت الجمهور للاستمتاع بمشاهدته.

البوستر الترويجي لفيلم «فتاة عادت» الإيطالي (إدارة المرجان)

وبجانب الفيلم المالطي، فإن العروض المفتوحة للجمهور تتضمن، وفق ما أعلنت إدارة المهرجان، ورئيس بعثة الاتحاد، «طفلة عادت» من إيطاليا، و«قصر الحمراء على المحك»، إسباني، ويعرض الثلاثاء، ثم «كليو» (ألمانيا) الذي يعرض للجمهور الأربعاء، على أن يختتم المهرجان بفيلم «عاصفة» الفرنسي.

ولوحظ أن الدول المشاركة في المهرجان حرصت على تروّج الأعمال المشاركة، من هذا المنطلق دعا المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في ليبيا الجمهور الليبي لحضور الفيلم الفرنسي الذي أخرجه كريستيان دوغواي، وقالا في رسالة للجمهور الليبي: «نحن في انتظاركم لتشاركونا هذه اللحظة السينمائية الاستثنائية».

جانب من افتتاح مهرجان الفيلم الأوروبي في طرابلس (البعثة الأوروبية إلى ليبيا)

وكان رئيس هيئة السينما والمسرح والفنون، عبد الباسط بوقندة، عدّ مبادرة الاتحاد لإقامة المهرجان «خطوة إيجابية في مسار الشراكة بين ليبيا، متمثلة في هيئة السينما والمسرح والفنون، والاتحاد الأوروبي والدول الخمس المشاركة».

وأضاف بوقندة، في كلمة الافتتاح، الذي بدأ الأحد بعرض الأفلام، أن المناسبة «تفتح آفاقاً واسعة في مجالات السينما كواحدة من أهم أنواع التواصل بين الشعوب ومرآة عاكسة لكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية التي تسهم بفاعلية في توعية الناس، وتدفع بهم تجاه الارتقاء والإحساس بالمسؤولية».

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي (السفارة الفرنسية لدى ليبيا)

وخلال مراسم الافتتاح، عُرض فيلم «شظية» الليبي الذي أنتج في الثمانينات، من تأليف الأديب الليبي المعروف إبراهيم الكوني، ويحكي قصة معاناة الليبيين مع الألغام التي زرعت في صحراء ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وراح ضحيتها كثير من المواطنين في مدن ومناطق مختلفة من البلاد.

وبجانب العروض السينمائية في ليبيا، تُجمّع الفنون في ليبيا عادةً من فرقت بينهم السياسة، ويحشد المسرح على خشبته ممثلين من أنحاء البلاد، كانت قد باعدت بينهم الآيديولوجيات في زمن ما، يحكون جميعاً أوجاعهم عبر نصوص ولوحات إبداعية، ويفتحون نوافذ جديدة للتلاقي والحوار بعيداً عن النزاع والانقسام السياسي.

وسبق أن تعطلت الحركة الفنية المسرحية في ليبيا، مُتأثرة بالفوضى الأمنية التي شهدتها ليبيا عقب اندلاع ثورة «17 فبراير» التي أسقطت نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. لكن مع الاستقرار النسبي الذي تشهده ليبيا يظل الرهان على الفن في اختبار الانقسام السياسي، الذي ضرب البلاد، لتوحيد الليبيين.