مارون الحكيم «ينير وجه الأرض» بلوحات ومنحوتات تمنح العزاء

التشكيلي اللبناني لـ«الشرق الأوسط»: اللون ابن الشمس

التشكيلي اللبناني مارون الحكيم في معرضه «منير وجه الأرض» (حسابه الشخصي)
التشكيلي اللبناني مارون الحكيم في معرضه «منير وجه الأرض» (حسابه الشخصي)
TT

مارون الحكيم «ينير وجه الأرض» بلوحات ومنحوتات تمنح العزاء

التشكيلي اللبناني مارون الحكيم في معرضه «منير وجه الأرض» (حسابه الشخصي)
التشكيلي اللبناني مارون الحكيم في معرضه «منير وجه الأرض» (حسابه الشخصي)

يهجس التشكيلي اللبناني مارون الحكيم بالطبيعة والموضوع الإنساني المُحرِّك. حياته مزيج من أفراح وآلام؛ يُسيِّر الإحساسُ ريشته. يعمل على منحيَي الضوء والعتمة، وحين يعرض، يفضّل فرز الأعمال وفق المفهوم الواحد؛ كما في معرضه «مارون وجه الأرض»، المستمر حتى 9 مارس (آذار) المقبل في غاليري «إسكايب» بالأشرفية البيروتية، وفيه يشاء إعلاء مقام الأمل. أراد مَنْحه لنفسه والآخرين، مُعانداً السواد العميم. تُمثّل أعماله نور الطبيعة تماهياً مع الرجاء الإنساني بواقع أفضل. اختزال آخر للقلق البشري ومشهدية الأرق اليومي «عرضي»، فالفسحة الأعظم للضوء واللون، معجزتَي الحياة.

اللوحات بجانب المنحوتات تعبير عن الأنين الصامت (مارون الحكيم)

يظهر رابط بين عظمة الطبيعة ومكنوناته الداخلية، حيث الحسرات والأسى، فتُعبّر اللوحات الـ43، ومعها 12 تمثالاً برونزياً، عما يئنّ بصمت. يقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ تنفيذ العمل الفني ليس مسألة بسيطة، لاتصاله بالوحي والإلهام القادرَيْن على إتاحة إنجاز أشكال الحياة: «أترك نفسي على سجيّتي، وأسلّمها لإحساسي المباشر بالعمل، وهو آني وليد اللحظة. عواطفي وتفكيري يتحكّمان برسمي ونحتي. العملية معقّدة، ولا أدري بأي وقت يحدُث ذلك. ولكن متى باشرتُ، يصبح الموضوع ذريعة، ويتكثّف التركيز على المعايير الجمالية الخالصة، والأُسس الفنية المرتكِزة على قواعد ونظم، والمُستنِدة على التجارب والبحث والخبرة الطويلة».

العمل الفني عند مارون حكيم ليس موضوعاً فحسب. هو أوركسترا، وتفاعلات بين الإحساس والمادة المُخوَّلة التعبير، والمطلوب دائماً تطويرها. عمرٌ في الرسم والنحت، هذه خلاصته: «التشكيل بعناصره ومبادئه وأسسه أهم من الموضوع. في النهاية، تسقط المواضيع إن لم تُشكّلها يد خبيرة تسحر الألوان وتمنحها الشكل الآخر».

الطبيعة هاجس فني لقدرتها على توليد النور (مارون الحكيم)

تسيطر الطبيعة بإشراقها وألوانها واختزالها إرادة البقاء، فإذا بوجوه تخترق هذه السكينة بمزاجها المضطرب وأشكالها الشائكة. يتطلّع مارون الحكيم إلى الجسد الإنساني، مُتضمّناً الوجه - كاشفَ المشاعر - ويقول إنه خزان حركاته وتعابيره وألغازه النفسية. الوجوه في معرضه قلقة، حزينة، مسكونة بالتمويه واللاوضوح. ملامحها ضبابية بمثابة أقنعة حائرة أمام تيه الاتجاه والمصير. بالكاد تظهر، كأنها تجتهد لتأكيد حضور الإنسان ومواصلة عناده الحياة ومكابرته على المآسي.

يمتلك مارون الحكيم في معرضه متّسعاً من الضوء لخوض ركام العتمة وهلاك الضياع، فيتيح تدفّق الأفكار والمشاعر بأساليب وتقنيات مُستحدثة. هل نعدُّ هذا المعرض خلاصاً شخصياً لذاكرته ووعيه وتأملاته؟ يجيب أنّ فنّه بالفعل خلاصة شخصيته، ووعيه، وذاكرته، وتأمّلاته، وحياته اليومية، ومتابعته للأحداث ومصير شعوب المنطقة ومعاناة إنسانها وألمه. برأيه، «لا يمكن للفنان العيش خارج الزمن. حينها، لن يكون حقيقياً. الفنان ابن يومه، وشعبه، وذاكرته، وتاريخه، وثقافته. أهجسُ بالتعبير الحضاري الراقي، لكنني أواصل السعي خارج الاستسهال، فأبتكر دائماً مناحيَ جديدة تتعلّق بطريقة وضعي للخطوط والألوان، وكثافتها، وتدرّجاتها، وحركتها. هذا المهم في العمل الفني. الموضوع يحمل بصماتنا وآلامنا وأفراحنا، لكن تنفيذه ينبغي أن يحمل خبرة الفنان وتطوّره وأحلامه، فيُبرز شخصيته وخصوصيته الفريدة».

مارون الحكيم مع صاحبة الغاليري سناء جابر وزوجته سمر الحكيم في الخلف (صور الفنان)

رأت الناقدة الفرنسية والمُحاضرة في الفنون فرنسواز بارب غال أنّ رسوم مارون الحكيم ومنحوتاته «تُضمّد جراح الأرض». كيف تشفي الريشة الندوب، ويُهدّئ اللون قسوة العنف والانشقاقات؟ يستبق الإجابة بالإشارة إلى سروره لإدراكها المُبتغى من أعماله، وإحساسها أنّ فنه يمنح العزاء وينشد الرجاء، بعدما التفتت إلى هذه البقعة الجغرافية الرازحة تحت أشكال المعاناة والحروب وعذابات الشعوب وتشرّد الإنسان. ثم يستوقفه اللون: «هو الشفاء ودواء أنفسنا وحياتنا. الألوان في المستشفيات مثلاً، وفي البيوت، تُهدّئ روعنا. يستطيع اللون التعبير عن الحزن بانفلاش أشكاله الداكنة، وعن البهجة بطغيان الشكل الزاهي. اللون في العمل الفني له دور تشكيلي وحضاري، أعمق أحياناً من الرموز. في جميع حالاته، يبقى سيد حياتنا. اللون ابن النور، والحياة، والشمس، لذا لا تراه عيوننا إلا في الضوء. أركّز على الإشراق منقِذاً ومسعِفاً للإنسان للنجاة من قلقه وضياعه».

فن يشكّل عزاء وينشد الرجاء (مارون الحكيم)

أمضى عمراً ينحت بالمواد الصلبة كالرخام والصخر والخشب والحديد، وفي معرضه هذا، تطرّق إلى مادة البرونز بتقنياتها المختلفة عن النحت التقليدي. يشرح أنها تُنحَت على مراحل، فيصنع المنحوتة بالطين أو الحجر أو الجفصين أو الخشب، ثم يقولبها كما هي الحال مع الشمع، ومنها تتشكل قوالب داخلية وخارجية، توضع في الفرن ليذوب الشمع ثم ينسكب المعدن الذائب على درجة 1500. هنا، ينظّف مارون الحكيم التمثال، ويُلمّعه، ويمنحه لونه الأخضر أو البني. يقول: «شئتُ عرض التماثيل مع اللوحات لتناسُق الموضوع بين أعمال النحت والرسم على مستوى الوجوه. البرونز مادة صلبة لا تُكسَر. بإمكان الفنان سَكْب أكثر من تمثال بشكل واحد، مما يوسّع انتشاره ويُسهِّل عمليه التسويق بسعر أقل. أنا في سنّ بتُّ فيها أتيح لنفسي إصدار مجموعة قوامها الشكل الواحد لوضعها في المتناول العام».

الوجوه المُتّسمة بالقلق وآهات الحياة (مارون الحكيم)

لعلّه حين يتأمّل لوحاته المستريحة على جدران المعرض بجوار المنحوتات، يفكّر في نُبل الفن وقدرته على مَنْح الألق لمبدعين خلّدوا أسماءهم عبر العصور بأعمالهم الحضارية والمتجاوِزة للزمن. هذا الجمال يزيح العتمة ليبعث الحلم والضوء والحياة الجديدة.


مقالات ذات صلة

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

يوميات الشرق ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

مع انطلاق فعاليات الدورة الـ17 من «ملتقى الأقصر الدولي للتصوير» في مصر، الاثنين، بدأ الفنانون المشاركون في التفاعل مع فضاء مدينة الأقصر.

منى أبو النصر (القاهرة )
يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)
انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)
TT

انطلاق «بيروت للأفلام الفنية» تحت عنوان «أوقفوا الحرب»

انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)
انطلاق مهرجان بيروت للأفلام الفنية (المهرجان)

تُثابر أليس مغبغب منظمة مهرجان «بيروت للأفلام الفنية» (باف) على تجاوز أي مصاعب تواجهها لتنظيم هذا الحدث السنوي، فترفض الاستسلام أمام أوضاع مضطربة ونشوب حرب في لبنان. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «علينا الانتصاب دائماً ومواجهة كل من يرغب في تشويه لبنان الثقافة. نعلو فوق جراحنا ونسير بثباتٍ للحفاظ على نبض وطن عُرف بمنارة الشرق. كان علينا أن نتحرّك وننفض عنّا غبار الحرب. ندرك أن مهمتنا صعبة، ولكننا لن نستسلم ما دمنا نتنفس».

الصورة وأهميتها في معرض العراقي لطيف الآني (المهرجان)

انطلقت في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي فعاليات مهرجان «بيروت للأفلام الفنية»، ويحمل في نسخته العاشرة عنوان «أوقفوا الحرب»، وتستمر لغاية 6 ديسمبر (كانون الأول). يعرض المهرجان 25 فيلماً، ويقيم معرض صور فوتوغرافية. ويأتي هذا الحدث بالتوازي مع الذكرى الـ50 للحرب الأهلية اللبنانية، وتجري عروضه في المكتبة الشرقية في بيروت.

وتتابع مغبغب: «رغبنا في لعب دورنا على أكمل وجه. صحيح أن كل شيء حولنا يتكسّر ويُدمّر بفعل حرب قاسية، بيد أننا قررنا المواجهة والمقاومة على طريقتنا».

تقع أهمية النسخة الـ10 بتعزيزها لدور الصورة الفوتوغرافية. ويحمل افتتاحه إشارة واضحة لها. فأُطلق في 25 نوفمبر معرض هادي زكاك عن صالات السينما في مدينة طرابلس، يحمل عنوان «سينما طرابلس والذاكرة الجماعية»، وذلك في المكتبة الشرقية في العاصمة بيروت. ويسلّط المعرض الضوء على هذه المدينة الثقافية بأسلوبه. كما عرض المهرجان في اليوم نفسه الوثائقي «أسرار مملكة بيبلوس» لفيليب عرقتنجي. وقد نال عنه مؤخراً جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ24 لمهرجان السينما الأثرية (FICAB) في مدينة بيداسوا الإسبانية.

يُختتم المهرجان بالفيلم اللبناني «وعاد مارون بغدادي إلى بيروت»

وفي السابعة مساءً، اختُتم أول أيام الافتتاح بعرض المهرجان لفيلم هادي زكاك «سيلّما»، ويوثّق فيه سيرة صالات السينما في طرابلس، يومَ كانت السينما نجمة شعبيّة في المدينة الشماليّة.

وكما بداية المهرجان كذلك ختامه يحمل النفحة اللبنانية، فيعرض في 6 ديسمبر (كانون الأول) فيلم فيروز سرحال «وعاد مارون بغدادي إلى بيروت»، وذلك في الذكرى الـ30 لرحيله. في الفيلم زيارة أماكن عدّة شهدت على حياة بغدادي وأعماله، والتقاء بالمقربين منه لتمضية يوم كامل معهم في بيروت، حيث يسترجعون مسيرة بغدادي المهنية في ذكريات وصور.

وتشير مغبغب، في سياق حديثها، إلى أن المهرجان ولّد حالة سينمائية استقطبت على مدى نسخاته العشر صنّاع أفلام عرب وأجانب. وتضيف: «تكثر حالياً الإنتاجات الوثائقية السينمائية. في الماضي كانت تقتصر على إنتاجات تلفزيونية، توسّعت اليوم وصار مهرجان (باف) خير عنوان لعرضها».

فيلم فؤاد خوري يُوثّق الحرب اللبنانية (المهرجان)

ومن النشاطات التي تصبّ في تعزيز الصورة الفوتوغرافية أيضاً، معرضٌ للعراقي لطيف الآني، يحكي قصة العراق منذ 50 سنة ماضية، ينقل معالمه ويومياته كما لم نعرفها من قبل. وتعلّق مغبغب: «أهمية الصورة الفوتوغرافية تأتي من حفاظها على الذاكرة. ولذلك سنشاهد أيضاً فيلم فؤاد خوري عن ذاكرة الحرب اللبنانية».

ويغوص فيلم خوري في مسار هذا الفنان الذي أخذ دور موثّق الحرب، والشاهد على النّزاعات في الشرق الأوسط.

مغبغب التي تأمل بأن تجول بالمهرجان في مناطق لبنانية بينها بعلبك وصور، تقول: «الناس متعطشة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الموضوعات الفنية. إنها تشكّل لهم متنفساً ليتخلصوا من همومهم ولو لبرهة. وهذه الأفلام الواقعية والموثقة بكاميرات مخرجين كُثر، تجذبهم بموضوعاتها الاجتماعية والجمالية».

تقول أليس مغبغب إن عملها في المهرجان كشف لها عدد أصدقاء لبنان من دول أجنبية وعربية. ولذلك نتابع عروضاً لأفلام أجنبية من بينها مشاركة من إنجلترا بعد غياب عن المهرجان لـ4 سنوات. وسيُعرض بالمناسبة «الرجل المقاوم» و«شكسبيرز ماكبث» ثاني أيام المهرجان في 26 نوفمبر.

ويُخصّص «بيروت للأفلام الفنية» أيام عرضٍ خاصة ببلدان أجنبية، من بينها الإيطالي والبلجيكي والسويسري والبرازيلي والإسباني والألماني.

«أسرار مملكة بيبلوس» لفيليب عرقتنجي (المهرجان)

ويبرز فيلما «لاماتوري» و«أخضر على رمادي» للإيطاليين ماريا موتي وإميليا أمباسز في المهرجان. وفي ذكرى مئوية الفن السوريالي تشارك إسبانيا من خلال المخرجَين بالوما زاباتا وكانتين ديبيو، فيُعرض «لا سينغالا» و«دالي»، ويُعدّ هذا الأخير من أهم الأفلام الوثائقية عن الفنان الإسباني الراحل والشهير.

وفي 5 ديسمبر (كانون الأول) سيُعرض فيلم خاص بالمكتبة الشرقية مستضيفة المهرجان. وتوضح مغبغب: «عنوانه (المكتبة الشرقية إن حكت) من إخراج بهيج حجيج، ويتناول عرَاقة هذه المكتبة وما تحويه من كنوز ثقافية».

ومن الأفلام الأجنبية الأخرى المعروضة «إيما بوفاري» وهو من إنتاج ألماني، ويتضمن عرض باليه للألماني كريستيان سبوك مصمم الرقص الشهير، وهو يقود فرقة «ستانس باليه» المعروفة في برلين.

وفي فيلم «جاكوميتي» للسويسرية سوزانا فانزون تتساءل هل يمكن لمكانٍ ما أن يكون مصدر موهبة عائلة بأسرها. وتحت عنوان «من الخيط إلى الحبكة» يتناول مخرجه البلجيكي جوليان ديفو، فنّ النّسيج وما تبقّى منه حتى اليوم، فينقلنا إلى مصانع بروكسل وغوبلان مروراً بغوادا لاخارا في المكسيك.