كان إيلي ناصر طفلاً حين استماله الصوت وأوقعه في أَسْره، راح يجمع الألعاب بطريقة تُحدِث تلك الذبذبات المنتشرة في الهواء والآتية إلى المسامع. أكثَرَ شراء مكبّرات الصوت والتساؤل عن العالم المقيم داخلها. في بلده لبنان، لم يحظَ اختصاص هندسة الصوت برواج جامعي، لذا غيَّر الوجهة، لم يطُل الوقت قبل العودة إلى حيث الشغف.
لا تلفح الأضواء دائماً العاملين في هندسة الصوت، فيمكثون غالباً في الخلفية. إيلي ناصر يسعى نحو الإنصاف، ويقول، لـ«الشرق الأوسط»، إنّ أهميته لا تقل شأناً عن مكانة الصورة، طارد حبّه الأول ليرافق خطواته.
في استديو الموزِّع الموسيقي جان ماري رياشي، تلقّى خبرات وترك لمسات على ألبومات كبار؛ بينهم ماجدة الرومي وكاظم الساهر. عالم التلفزيون شرَّع أبواباً عريضة، فاختاره برنامج «إكس فاكتور» (تلفزيون دبي) للعناية بجودة الصوت، ومرَّ عبر وثائقي «إتس أوكِ» لإليسا، مضيفاً النقاء إلى الموسيقى وإلى كلامها المُعمَّد بتجارب الحياة.
الجديد الذي يقدّمه لهذا العالم الشاسع هو تكنولوجيا تُسمّى «دولبي أتموس». يشرح: «تتيح الانغماس الثلاثي البُعد في الصوت. لا يعود مسموعاً من جهة واحدة، بل من أعلى وأسفل، وما يحيط بالمرء من الجهات. التجربة الانغماسية جرّاء هذه التكنولوجيا هي الاتجاه الحديث لتشكيل الصوت وتنقيته وعلاجه، إنها المُعتمدَة حالياً في العالم، وطموح التوّاقين إلى التميز».
غادر إلى دبي حين انفجر مرفأ وطنه وهشّم الأحلامَ بالأمان والمستقبل، وهناك وجد متّسعاً لممارسة الشغف. يقول: «طوّرتُ أدواتي لتنفيذ هذه التكنولوجيا، خضتُ ورشات عمل ودروساً (أونلاين)، كوّنتُ معرفة أشمل، ونِلتُ شهاداتي. ما لم أستطع تحصيله بالتخصص الجامعي، واظبتُ عليه بالجهد الفردي. أحمل رغبة في إنصاف مهندسي الصوت والإضاءة على لمساتهم. لا يستقيم عملٌ بلا صوت سليم، مهما تجمّلت الصورة وتضخّمت الميزانية. مفاضلة ما نراه على ما نسمعه، لم تعد جائزة مع ثورة هذه التكنولوجيا».
في واحدة من أضخم صالات السينما بدبي، أُبهر المشاهدون بفيلم «خطأ 500» للبناني منير السيروان. الصوت المشغول بمهارات إيلي ناصر، حملهم إلى ما يتجاوز الحيّز المكاني والفضاء المتاح. أبحر بهم إلى دواخل الأشياء، وزجّهم في الصّلب. يُخبر بالقصة: «وضعني المُخرج أمام موسيقى عمله، فأجبته بأنها رائعة، ولكن ماذا لو انتقلنا إلى ما هو أروع؟ حدّثته عن التكنولوجيا ثلاثية البُعد، فأُعجب بالفكرة، لم يُخفِ في البداية قلقه؛ فالخطوة جديدة. وبذلك يكون فيلمه هو الأول عربياً على مستوى الأفلام القصيرة المُعتمِدة هذه التكنولوجيا في تنفيذ الصوت وجعْله تجربة».
الإنجازات تبدأ بفرصة، وناصر اقتنص فرصه منذ كان شاباً بإمكانات مادية قليلة، فصمَّم على التعلم بإرادة الحفر في الصخر. حين انتقل وفريق عمل الفيلم إلى استديو مجهَّز بمكبرات صوت تُظهر الفارق الواضح بين الصفاء والنشاز، اطمأنّ الجميع إلى النتيجة. بالنسبة له «لا بدّ أن يشعر الجمهور بما شعرتُ به. الموسيقى تصل بشكل أعمق حين يملأ النقاء الصوت ويرفعه إلى ذروة جماله. أُدخل المُشاهد إلى صميم الفيلم، فلا يكتفي بما تتيحه الشاشة».
الإلمام بكل جديد، يضعه أمام آخِر الابتكارات التكنولوجية. «لا أكفُّ عن البحث والاطلاع. أسعى وراء كل ما يجعل هندسة الصوت تُواكب المعايير العالمية»، يقول مَن يتطلّع إلى المستقبل ويراه من خلال «دولبي أتموس»؛ ويُرفق رؤيته بدليل، حين يتحدّث عن اتجاه شركات سيارات عملاقة لتبنّي هذه التقنية، فتُسمَع الموسيقى فيها بالبُعد الثلاثي، وتمنح راكبها متعة الإصغاء: «(نتفليكس) أيضاً على هذه الطريق»، يضيف بسعادة السبّاقين إلى الاكتشاف والإحاطة التامة بالتجربة الانغماسية.
حين يختلي بنفسه في الاستديو، ويسعى إلى توليد أفكار خلّاقة، يطفو شعور يقول إنه لا يوصف، يبدو خليطاً من الحماسة والشغف والرغبة في العطاء الفريد، الموهبة تُسابق أي شيء آخر قد يعوق أو يُحبِط، للإبقاء على التميز، فيشعر ممتلكها بضرورة أن يمتلئ الآخرون بالإحساس الذي يملؤه. في حالة إيلي ناصر، إنه إحساس الصوت، «فيغمرني وأشاء غَمْر الجميع به».
يقوم فيلم «خطأ 500» على الرقص التعبيري، فمُخرجه هو أيضاً بطله، والموضوع يحوم حول الصدمات النفسية، معزَّزاً بموسيقى صاخبة تثير استفهامات. مدَّه إيلي ناصر بالبُعد الثلاثي، فجسّد بالصوت صراع الشرّ داخل النفس والتوق إلى الضوء. تهدر الموسيقى بينما الراقص في وضعية انتقالية من الشقاء إلى الراحة، فيُمسك مهندس الصوت بالنغمات وسياقها، ويُبقي على مداراة المشهدية البصرية بما يُحدِث التواؤم بين ما تراه العين وتتلقّاه الأذن. يقول: «تمعّنتُ في طبقات الموسيقى، وأدركتُها، ولمّا أصبحتْ بعضي، قدّمتها للجمهور. عليَّ أن أشعر بما تُحدثه في السياق والصورة لإتقان توظيفها. هنا الموضوع يتعلّق بالتروما، وعلى الصوت أن يصيب القلوب مثل سهم».
في الرحلة من العذابات إلى السكينة، تنعم الموسيقى بهدوء لإتاحة تسلُّل النور. كأنّ ما امتلأ، آنَ له أن يُرخي أحماله. يلتقط إيلي ناصر أنفاسه بصعود الجنريك، ويتطلّع في الوجوه، يلمح انغماسها في التجربة وإدراكها قيمة الصوت ربما للمرة الأولى.