سهير وسوسن، امرأتان يجمعهما القدر بقدر ما يفرقهما. كل واحدة منهما لها قصة، وتتشابهان بمهارتهما في الهزء من الواقع الأليم الذي يعترضهما. الممثلة سوسن شوربا تلعب الدورين معاً، وتقف وحدها على المسرح، ما يزيد على الساعة، متنقلة بين الشخصيتين التي تحمل إحداهما اسمها وتجربتها المريرة مع المرض (سوسن)، بينما تبدو الشخصية الرئيسية (سهير) وكأنها تتوازى مع سوسن وتتقاطع معها في وقت واحد. «مورفين» المسرحية التي افتتحت مساء الخميس الماضي على خشبة «مسرح مونو»، يصح القول إنها مونولوج في قالب كوميديا سوداء، بفضل الروح الساخرة التي تسم النص، والأداء التهكمي للممثلة، حتى اللحظة الأخيرة، دون أن تقع في الخفة والابتذال.
تدخل المرأة بفستانها الأسود وقبعتها، تجرّ بيدها محمل المصل الذي يستخدم في المستشفيات، كأنه عصا نفرتيتي، وهي تسير كملكة شامخة خذلها الدهر.
تأخذ سوسن على عاتقها رواية قصتها، ولكن أيضاً قصة خالتها سهير، تارة تنوب عنها بالقصّ، وتارة أخرى تتقمص شخصيتها. سهير فلسطينية، تختلط على لسانها اللهجات، لكثرة تسفارها وترحالها، ترى كل شيء من زاويتها الخاصة، خيانة زوجها، هجره لها، خروجها من البيت، ضياع ثروتها. لها طريقتها في تفسير كل ما يصادفها من عقبات، وأسلوبها السوريالي في التفسير، وسيلتها لتجاوز محن الدهر، وكأنها تتزحلق عليها دون أن تتعثر بها.
كل الرجال الذين أحبتهم ووثقت بمن فيهم زوجها إياد «كلهم نهبوني، سرقوني» تصرخ. تروي لنا حكايتها مع عبد المجيد الذي يريد أن يصبح مطرباً رغم صوته الذي حتى بالرشوة لا يحتمل أن يسمعه أحد. يتسلقها كدرج ممهد لغاياته، وما يسعى إليه من مجد الشهرة. يستغل حاجتها للعطف ويسلبها ما تبقى لها من مال، ليعود حين يحقق مبتغاه، إلى حياته الزوجية وأولاده الثلاثة. هي واحدة من قصص الرجال الكثر الذين تعدد أسماءهم، و«كلهم نهبوني وسرقوني».
لافت أن تكيل سهير الاتهامات للرجال أن تصفهم بأقذع النعوت، حين نعرف أن كاتب النص ومخرجه رجل. واحدة من ألعاب يحيى جابر المسرحية، أن يكتب بلسان نساء لا يتوقفن عن كشف مثالب الرجال.
في ليلتين متتاليتين، افتتح جابر مسرحيتين نسائيتين حتى النخاع. يوم الأربعاء 8 من الشهر الحالي افتتح «من كفرشيما للمدفون» لعبتها ناتالي نعوم المرأة التي تتعرض للخيانة وتخشى اتخاذ أي قرار حاسم يريحها خوفاً من الوحدة. ويوم الخميس 9 «مورفين» مع سهير التي أنهكتها وصولية الرجال، لكن الإباء يمنعها من الاعتراف بالهزيمة. زوجها لم يتركها لكنها هي التي دبرت له مساعدة، لأنه بحاجة لمعونة، وهو لم يبتعد عنها، ولكنه في بعد جغرافي مدروس. وهي لم تصبح فقيرة، إذ لا تزال تعتبر سائق التاكسي العمومي هو سائقها الخاص. بين الوهم والحقيقة، والسباحة في عالم النكران المريح، بتهكمية لا تتوقف، يمكنك أن تجمّل الحياة، وأن ترى المصاعب بالعين التي تختارها، وتصنع واقعك وتقولبه، لا هو الذي يفرض مآسيه عليك.
في غمرة حكايات سهير، التي تحكيها سوسن، تتذكر فجأة قصتها هي. تعود إلى اللحظة التي أصيبت فيها بالسرطان. هي أيضاً لها قدرة عبثية كما خالتها، أن ترى ما تريد حتى حين تصاب بالسرطان في المرة الأولى وكذلك الثانية. لعل اللحظة الأقوى في المسرحية، حين تقرر الممثلة أن تخلع بروكة الشعر المستعار التي تلبسها، لنرى رأساً حليقاً بلا شعر ووجهاً متجهماً لا تعبير فيه.
تختلط شخصية سوسن على المسرح بقصتها الحقيقية، فهي قررت مع كاتب العمل ومخرجه، أن تجعل تجربتها مع السرطان جزءاً من الحكاية، رغم أنها لا تزال تخضع لجلسات العلاج الكيميائي. «هو نوع من العلاج، وطريقة للانشغال عن الألم بالمسرح»، تعتبر الممثلة سوسن شوربا.
وقد أحسن يحيى جابر، بأن ترك الهامش الأكبر للخالة سهير، كي يبقى النص على سخريته العالية. فمهما كان الهزء من السرطان اللعين صادقاً، تبقى المشاعر مريرة وجارحة، حتى على المتفرج. وبعض المتفرجين مرضى أيضاً أو في دائرة المصابين.
بالعزف على البيانو، بالغناء والرقص، تتخفف الشخصيتان من أعبائهما، لا بل وأحياناً تضيفان المزيد من الكثافة على المشهد.
ينجح يحيى جابر كاتب النص ومخرجه، في جعل نصه مرناً، وحيوياً، وسلساً ومفاجئاً. وهو هذه الأيام، يقدم قصص نساء معذبات، دون أن ينزع الضحكات عن وجوههن، ويحارب آلامهن من خيانة الرجال، وغدر الزمن بالنكتة والتعالي على الجراح.