بعد نزوح وهجرة مثقّفين ومبدعين سودانيين، ونَهْب منازل بعض آخر منهم إثر تداعيات الحرب المُشتعلة منذ 11 شهراً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تُرسم صور مؤلمة عن ضياع جهود إبداعية مثّلت ذاكرة السودانيين الثقافية.
بدايةً، نُهب منزل الفنان والموسيقار السوداني محمد وردي في حيّ المعمورة بالخرطوم، وقُضي على معرض داخله يضمّ تراثاً قومياً، كما سُرِق عوده، ليستعيده ويبيعه إلى أحد أصدقائه بعد تفاوض مع أحد الجنود.
وأيضاً، اعتُدي على مكتبات في منازل أدباء ومثقّفين، منهم الشاعر محمد عبد الحي، والبروفيسور علي شمو، وهي تشكّل ذاكرة ثقافية غنيّة لتنوُّع مقتنياتها.
في هذا السياق، يشير الكاتب حاتم الكناني إلى أنّ كثيراً من المبدعين والكتّاب غادروا فجأة منازلهم وتركوها للنهب والسلب. ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنه تضرّر شخصياً، لكن آلمه أكثر تضرُّر مكتبة الشاعر والناقد محمد عبد الحي في حي الحلفايا، التي تُعدّ من أهم المكتبات المنزلية، لضمِّها آلاف الكتب؛ بالإضافة إلى تضرُّر مكتبة الشاعر عادل سعد يوسف بعد اقتحام منزله وتخريبه. وبحسرة، يكشف عن أنّ عدداً من الغاليريهات الخاصة فقدت مئات الأعمال الفنية، منها العائدة إلى الفنان عبد الله محمد الطيب، ناهيك بالمراكز الموسيقية، مثل مركز علي الزين في الخرطوم.
ويرى الكناني أنّ «هذا المشهد يعكس واقعاً مريراً، وسنكتشف خسائر كبيرة لهؤلاء المبدعين، وحقائق مؤلمة تتعلّق بالإرث الفنّي والرمزي لعدد منهم بعد الحرب».
كما تعرّض منزل الروائي عبد الغني كرم الله في الخرطوم للنهب، فسُرقت جميع محتوياته بعد احتلاله. يقول كاتب قصص الأطفال لـ«الشرق الأوسط»: «كان منزلي متحفاً يتضمّن أعمالاً فنية، و7 مكتبات موزَّعة في أركانه، بالإضافة إلى 5 آلاف لوحة وعدد كبير من الصور لمبدعين من أمثال توفيق الحكيم، وبرعي محمد دفع الله».
وعن مجسّمات في المنزل تُمثّل أماكن أثرية في السودان، يقول: «تهدف إلى تثقيف الأطفال بمآثر الحضارة السودانية، كما توضح اللوحات بعض العادات السودانية والرقصات الشعبية. كل شيء الآن اختفى».
أما زاهر الصادق المهتم بالشأن الثقافي السوداني، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «الممتلكات الشخصية للفنان تسرد قصة حياته. النهب أضاع أعمالاً نادرة وثمينة توثّق تاريخ السودان وحضارته، وتعبِّر عن هوية وتنوُّع شعبه، كما أثّر سلباً في معنويات الفنانين»، مضيفاً: «ما حدث يستهدف أعمدة الثقافة، وقيمة المسروقات المعنوية لا تُثمَّن».
بدوره، يؤكد الإعلامي راشد عبد الوهاب أنّ جميع المبدعين يحتفظون في منازلهم بأرشيف يؤرّخ لتجربتهم وبعض تجارب مجايليهم، منها أشرطة فيديو، وتسجيلات صوتية وفوتوغرافية، ومسودات كتابات، وجوائز، ما كبَّدهم خسائر مادية ومعنوية هائلة جراء النهب.
ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «الاعتداءات لم تطل ممتلكات الفنانين والمبدعين فحسب، بل أرواحهم أيضاً، حين فُجع السودانيون برحيل عدد من مبدعيهم، الشعراء والكتّاب ونجوم كرة قدم، بسقوط قذائف على منازلهم، أو لتدهور أوضاعهم الصحّية لتعذُّر حصولهم على العلاج، أو الدخول في صدمات نفسية عجَّلت الوفاة».
في سياق متصل، تتحدّث التشكيلية فدوى سيد أحمد لـ«الشرق الأوسط» عن فقدانها أعمالها الفنية، فتقول: «لم يكن مُحترفي عادياً بالنسبة إليّ، بل كان مساحتي للتفكير وملاذي من ثقل الحياة. احتضن داخل جدرانه كنزاً زاخراً بالألوان الزيتية وتلك المختلفة الخامات من الأكريليك والألوان المائية وأدوات الرسم الأخرى، بالإضافة إلى لوحات لم تكتمل بعد. كان يعجُّ بالحياة والأصدقاء الزائرين، كما ضمَّت جدرانه أيضاً لوحاتي وشريك حياتي عمر خليل، إضافة إلى لوحات لفنانين تشكيليين مخضرمين، منهم الوالد التشكيلي سيد أحمد محمود... كل ذلك ذهب أدراج الريح مع أول طلقة في سماء الوطن. تلك الحرب عدوّة للحياة وللفنون وذاكرة الأجيال القادمة».
وختمت بأسى: «بعدما هربنا للنجاة بأرواحنا من هولها، دهم منزلنا المجرمون واللصوص وسلبوا كل شيء. لم تبقَ سوى الجدران».