مسرحية «ماغما» تجسيد فني شفيف لانفجار مرفأ بيروت

برناديت حديب وعصام بوخالد يُبهران في «دوّار الشمس»

برناديت حديب في تراجيديا أمومية
برناديت حديب في تراجيديا أمومية
TT

مسرحية «ماغما» تجسيد فني شفيف لانفجار مرفأ بيروت

برناديت حديب في تراجيديا أمومية
برناديت حديب في تراجيديا أمومية

لمرة جديدة، الثنائي عصام بوخالد وبرناديت حديب في عمل مسرحي مشترك، هذه المرة «ماغما» العنوان الذي يحيل إلى بواطن البراكين، وإلى حمم النار والانفجارات الربانية التي تذهل وتسحق بمقذوفاتها اللاهبة.

برناديت حديب، مستلقية على سرير وثير يتوسط المسرح بوسائده وأغطيته البيضاء، مع الإضاءة الخافتة، وتقاعسها عن النهوض، لا تشي بأن ثمة ما يغلي أو يفور. صوت عصام بوخالد، نسمعه يناديها أن تقوم من السرير، أن تستيقظ من سُباتها. «أعطي إشارة حياة» يقول لها، «من أجل ابنك». لكنها تريد أن تذهب إلى غفوتها. الصوت الذي يأتيها متمنياً عليها أن تتخلى عن كسلها، لا يغير في إحباطها شيئاً. هي حين تتحدث إلى نفسها أو إلى الجمهور، تروي تبرُّمها، رغبتها في أن «تبصق» على كل ما حولها. لم يعد شيء يستحق حتى أن تبدأ نهارها من أجله، أن تلف سندويشاً لابنها، أن تصطحبه إلى المدرسة، أن تتعارك مع السائقين الذين لا يحترمون قانوناً، أن تسمع أغنية، أو تتفرج على مسلسل أو تتابع برنامجاً تلفزيونياً. فقدت الحياةُ طعمها، وهي متعبة من كل هذا وتهرب إلى سريرها: «رأسي! يبدو أنني أثقلت العيار».

بينما تحاول أن تبدأ نهارها ولا تستطيع. تروي المرأة حكاية عمرها، كأي لبنانية، أنهكتها الانهيارات المتتالية، «عندي قلق، بالقاف»؛ لأنها بالعامية مع ألف لا تفي بغرض التعبير عما يجول في داخلها.

النص مكتوب، كما هي عادةُ نصوص عصام بوخالد، ومسرحياته التي يُخرجها، بأسلوب التداعي، حيث الفكرة تستدعي أخرى، وإن بدت في البدء الأفكار متشظية، والأحداث مفككة. الكلام فيه نوع من الهذيان المجنون الذي يصل إلى حد الشتائم وهو يصطدم باليأس. غضب عارم، سخط على الوضع القائم، احتجاج على حالة لا يمكن إصلاحها، كما في مسرحياته السابقة مثل «أرخبيل»، و«مارش»، و«بنفسج». الحرب تيمة محورية في أعمال عصام بوخالد، متعدد المواهب، فهو ممثل بارع، وكاتب يجيد تحضير المفاجآت، ومُخرج آسِر. وفي «ماغما» يجعل ممثلته (وهي في الحياة زوجته ورفيقة دربه) تروي وحيدةً حكاية سقوطها في العدم، على مدى ما يقارب الساعة. وقد نجحت حديب في أن تُبقي خيط الرواية مشدوداً، بأداء قوي، صلب، وجذاب. ليس سهلاً حين يكون العمل مُغرقاً في السوداوية، أن تبقى القفشات قادرة على الإضحاك، كما ليس باليسير أن يفلح ممثلٌ وحده في الحفاظ على قوة الأداء، حين يقدم شخصية واحدة، قصة امرأة، ولا يتنقل بين شخصيات عدة، ويستخدم أدوات متعددة، وأزياء مختلفة تضفي حيوية على المشاهد.

قرابة الساعة من الأداء المشدود العصب

تقشّف المخرج عصام بوخالد حتى الثمالة في أدواته، وضع ممثلته في اختبار صعب، بحيث أصبح النص والأداء معاً الحاملين الأساسيين لإنجاح العمل. هكذا وجدت برناديت حديب نفسها مع شراشفها ومخداتها وسريرها، في مواجهة جمهور طامع بعرض يُبقيه على عطش حتى النهاية. وهكذا كان.

تروي المرأة حكايتها، مجزَّأة، متناثرة، كما قطع البزل، لكنها على فوضويتها، وعبثيتها، وتشظّي أجزائها، تشكل مع تقدم الوقت اكتمالاً للصورة، وإتماماً للمشهد العام.

تتصاعد وتيرة القص، ونكتشف بمرور الوقت، أننا أمام كائن ينام هرباً من انفجار داخلي، من «ماغما». ثمة انسداد؛ ليس فقط في الأفق، بل أيضاً في أعضاء الجسد، تراكم في الضغط: «كل عضلات جسمي مشلولة». بين الغفلة واليقظة تتذكر المرأة لون بشرتها. اللون الأسود الذي تحبه، تحب الظلام، والشوكولاته الحقيقية، لا البيضاء المزيفة؛ لأن الأبيض «يستعمرنا، يقهرنا، يظن أنه أحسن منا». للحظة يصبح إخفاء الوجه بالملاءة او التخفي خلفها، وسيلة لرؤية الناس بطريقة أخرى، من وراء الغلالة يصبحون أشبه بالحشرات.

لكن «أين الشباك؟ كان هنا، مَن سرقه، سرقوا متنفسي الوحيد». العودة إلى النوم تحتاج لعدّ الخواريف على الطريقة المعهودة، لكنهم يذكرون بخواريف من نوع آخر. الخواريف البشرية التي تسير على غير هدى، تُساق إلى المسلخ، مسلخ مفتوح قرب المرفأ، ودماء، دماء كثيرة، ولحم يأكله الناس نِيئاً. تتداخل الصور بطريقة هستيرية وتوليدية.

ندرك أنها حامل. ها هو الطلق يداهمها، تداخل الأزمنة، كما الأحداث، التي نذهب فيها جيئة وإياباً تُعفينا من ملل الحكاية المتسلسلة التي تعيدنا إلى المألوف. فك اليومي وإعادة تركيبه تساعدان على فهمه وإدراك ما لم يكن جلياً.

الرحيل الذي لا بد منه

إنه المخاض بكل وجعه وما يستدعيه من ذكريات، وأفكار، وإحساس بالخوف من المستقبل. تجلس على الحافة الخلفية للسرير، الذي يرتفع بها فجأة. يصبح السرير رافعة، والمرأة في الأعلى تستكمل وضعها وألمها، كما حكايتها. ننتقل معها إلى مشهد مفصلي، صار الابن في الثامنة، وقف معها على الشرفة، وكانا ينظران معاً إلى دخان يتناسل من بعيد، تركته وذهبت تبحث عن هاتفها لتلتقط صورة قبل أن يأتي الدفاع المدني ويطفئ النار، لكنها حين عادت كان الوليد قد أخذه الدخان واختفى.

يعود بها السرير إلى وضعيته السابقة مع انحناءة، وهي نائمة عليه، لا تريد أن تبقى هنا، تغوص في شراشفها، تنزلق رويداً رويداً، ينشقّ السرير ويبتلعها، تختفي خلف ملاءته البيضاء التي تتحول إلى ما يشبه الكفن. صوت الزوج المجروح يناديها من جديد، يتوسل إليها ألا ترحل، لكنها لا تستجيب، تريد أن تلحق بولدها. يطلب إليها الزوج أن تُعنى بابنهما هناك، أن تكون إلى جانبه.

لعلّها واحدة من أجمل التجسيدات الفنية لانفجار مرفأ بيروت المأساوي، كل الحكايات بدأت لتنتهي به، لنرى كم أن الألم أكبر مما يمكن أن يعتقد البعض، وأن ثمة مَن لحق بالموتى لأنه لا يستطيع أن يعيش دونهم. إنها القصة داخل القصة، والأمومة في واحدة من تجلياتها التراجيدية. لا لغة تنقل مسرحية، تلعب على النص العامي بمهارة، على المشهدية الحاذقة، والأداء الفذ، فالمسرح للفرجة، ولا شيء يعوضها.

الإضاءة التي أدارها سرمد لويس ركزت على السرير باستمرار وعلى الأم المكلومة، وهي تروي كل شيء إلا ألمها الحقيقي، لنعرف في النهاية أنها تقص علينا حكاية موتها ورحيل ابنها الذي لا يحتمل.

العرض الذي اجتمع لحضور افتتاحه حشدٌ من أهل المسرح وكباره، وقد أرادوا ألّا يفوتهم عمل جديد لثنائي تنتظر أعمالهما، مستمر حتى 4 فبراير (شباط) على خشبة «دوار الشمس» في بيروت.


مقالات ذات صلة

منة شلبي تخوض أولى تجاربها المسرحية في «شمس وقمر»

يوميات الشرق الفنانة المصرية منة شلبي تقدم أول أعمالها المسرحية (حسابها على «فيسبوك»)

منة شلبي تخوض أولى تجاربها المسرحية في «شمس وقمر»

تخوض الفنانة المصرية منة شلبي أولى تجاربها للوقوف على خشبة المسرح من خلال عرض «شمس وقمر» الذي تقوم ببطولته، ويتضمن أغاني واستعراضات.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق عرض مسرحي

مهرجان للمسرح في درنة الليبية ينثر فرحة على «المدينة المكلومة»

من خلال حفلات للموسيقى الشعبية الليبية والأغاني التقليدية، استقطب افتتاح المهرجان أعداداً كبيرة من سكان درنة، لينثر ولو قليلاً من الفرح بعد كارثة الإعصار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مجموعة نشاطات فنّية يقدّمها الفريق في كل مركز (فضاء)

مؤسّسة «فضاء» تؤرشف للمسرح خلال الحرب

يختصر عوض عوض أكثر ما لفته في جولاته: «إنهم متعلّقون بالحياة ومتحمّسون لعيشها كما يرغبون. أحلامهم لا تزال تنبض، ولم تستطع الحرب كسرها».

فيفيان حداد (بيروت)

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
TT

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)
الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب في جميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

وأظهرت الدراسة، التي قادها فريق من جامعة كوينزلاند في أستراليا، ونُشرت نتائجها، الجمعة، في دورية «The Lancet Psychiatry»، أن كثيرين من المصابين بالاكتئاب لا يتلقون العناية اللازمة، ما يزيد من معاناتهم ويؤثر سلباً على جودة حياتهم.

ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعاني أكثر من 300 مليون شخص الاكتئاب، مما يجعله السبب الرئيسي للإعاقة عالمياً. وتشير التقديرات إلى أن 5 في المائة من البالغين يعانون هذا المرض. وضمّت الدراسة فريقاً من الباحثين من منظمة الصحة العالمية وجامعتيْ واشنطن وهارفارد بالولايات المتحدة، وشملت تحليل بيانات من 204 دول؛ لتقييم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية النفسية.

وأظهرت النتائج أن 9 في المائة فقط من المصابين بالاكتئاب الشديد تلقّوا العلاج الكافي على مستوى العالم. كما وجدت الدراسة فجوة صغيرة بين الجنسين، حيث كان النساء أكثر حصولاً على العلاج بنسبة 10.2 في المائة، مقارنة بــ7.2 في المائة للرجال. ويُعرَّف العلاج الكافي بأنه تناول الدواء لمدة شهر على الأقل، إلى جانب 4 زيارات للطبيب، أو 8 جلسات مع متخصص.

كما أظهرت الدراسة أن نسبة العلاج الكافي في 90 دولة كانت أقل من 5 في المائة، مع تسجيل أدنى المعدلات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا بنسبة 2 في المائة.

وفي أستراليا، أظهرت النتائج أن 70 في المائة من المصابين بالاكتئاب الشديد لم يتلقوا الحد الأدنى من العلاج، حيث حصل 30 في المائة فقط على العلاج الكافي خلال عام 2021.

وأشار الباحثون إلى أن كثيرين من المرضى يحتاجون إلى علاج يفوق الحد الأدنى لتخفيف معاناتهم، مؤكدين أن العلاجات الفعّالة متوفرة، ومع تقديم العلاج المناسب يمكن تحقيق الشفاء التام. وشدد الفريق على أهمية هذه النتائج لدعم خطة العمل الشاملة للصحة النفسية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية (2013-2030)، التي تهدف إلى زيادة تغطية خدمات الصحة النفسية بنسبة 50 في المائة على الأقل، بحلول عام 2030. ونوه الباحثون بأن تحديد المناطق والفئات السكانية ذات معدلات علاج أقل، يمكن أن يساعد في وضع أولويات التدخل وتخصيص الموارد بشكل أفضل.

يشار إلى أن الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم، حيث يؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، ويرتبط بشكل مباشر بمشاعر الحزن العميق، وفقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، مما يؤثر سلباً على الأداء الوظيفي والعلاقات الاجتماعية.