«أربعة أمتار مربّعة للتحدث»: مسرحٌ يضحك على المُبكي

عروض تحاكي التيه ومساعي إيجاد الذات

العرض البارع في استنهاض الضحكات من كتابة جورج عبود (صور الكاتب)
العرض البارع في استنهاض الضحكات من كتابة جورج عبود (صور الكاتب)
TT

«أربعة أمتار مربّعة للتحدث»: مسرحٌ يضحك على المُبكي

العرض البارع في استنهاض الضحكات من كتابة جورج عبود (صور الكاتب)
العرض البارع في استنهاض الضحكات من كتابة جورج عبود (صور الكاتب)

امتلأت مقاعد مسرح «دوار الشمس» في منطقة الطيونة البيروتية، بقهقات مشتاقين إلى الضحك الصادق. المسرح بعضُ ما يُبقي الأمل حياً. كان المساء ميالاً إلى البرودة، والطريق شبه معتمة، لكنّ في الداخل حضوراً كبيراً يشهد على أنّ الفن هو المنقذ من ظلمات المدينة. 3 عروض في مسرحية واحدة عنوانها «أربعة أمتار مربّعة للتحدث»، تُضحِك بقدر ما تواجه المرء مع آلامه.

مشهد من عرض «سَلَطة» بطولة منير شليطا وعلي بليبل (صور جورج عبود)

البداية من عرض «سَلَطة»، كتابة وإخراج ليال غانم وهشام أسعد وسامر سركيس، وبطولة منير شليطا وعلي بليبل. طاولة تفصل الشابين مثل متاريس الحرب الأهلية؛ وهما رغم الاتفاق، شديدا الاختلاف، يكثُر عراكهما نتيجة بعض الفروق الثقافية. تصبح باقة البقدونس شاهدة على إلحاح الحنين تجاه وطن هجَّر أبناءه وهشَّل أحلامهم إلى الوُجهة الأخرى. في باريس، حيث يقيم الشابان، يُفتَح نقاش الهوية والانتماء واستحالة الانسلاخ عن أرض الخيبة. ويُطرَح السؤال: ما قيمة الذكريات حين يقسو الواقع ويُشلِّع المرء في العالم الواسع؟

نهار الأحد هو أيضاً بطلُ المسرحية. في لبنان، رمزيته تقول كثيراً عن اللَّمة وصحن التبولة، والوقت السعيد مع الأحبة. كل ما يحدث في النصف الثاني من العرض هو بكاء على الأطلال. شوقٌ إلى ما لا يُطال. وشلالات حنين. الشابان مُقنعان، أداؤهما يذكّر بمَن هاجروا وتعذّر عليهم الاستمرار كأنّ شيئاً لم يكن. إنه محاكاة لما يعلَق ويصعب إفلاته.

رغم ما يفرّقهما، وهو صراع يعبّر عنه العمل بثنائية الوفاء للتبولة واستبدالها بـ«الكايك» و«الكينوا»؛ ثمة ما يجمع. على هذا الرابط، تقوم الأوطان وإن غادرها أبناؤها. فالرابط ظاهرُه هشّ، وأعماقه وطيدة. يتعارك الشابان بما يُذكر بانقسام بيروتهما إلى «شرقية» و«غربية»، وفي اللحظة الحرجة، يلتقيان على الحب الخالص.

ماريان صلماني وفاطمة بزّي من عرض «بدي غيِّر» (صور جورج عبود)

اسم العرض الثاني «بدي غيِّر»، مستوحى من بقايا ثورة «17 أكتوبر» المُجهَضة. كتبته ماريان صلماني، ومثّلته بجانب الشابة فاطمة بزّي، الجميلة الطاقة والكاريزما على المسرح، وهو من إخراج حمزة عبد الساتر. الشابتان أمام اندفاعهما وحماستهما المصدومة بقلّة الحيلة. وسط إصابة الجسد بآلامه، تغلُب العزيمة للسير في تظاهرة تنادي بولادة وطن. على الطريق، تُفتَح الجروح وتُشرّع على المُساءلة. استمرّ الضحك طويلاً على مواقف مؤلمة، ألمّت بالشباب في الساحات، وأمام تجليات الوهم، والرهانات، والنهاية الجاهزة.

يعلن العرض استحالة الإجماع على حقيقة، حين يتعلّق الأمر بالمعضلة اللبنانية. فالرواية الواحدة موضِع إشكال، ووجهات النظر لا بدّ أن تتفاوت ليهنأ العيش ضمن هذا الصنف من التراكيب المعقّدة. يلوح حزنٌ في الختام، مختزلاً فوات الأوان، والوصول المتأخر، والضريبة الأكيدة.

سامر سركيس ولمى مرعشلي في عرض «بالهوا سوا» (صور جورج عبود)

العرض الثالث هو البارع في استنهاض الضحكات، حدّ أنّ المسرح أصبح قهقهة واحدة. ذلك ليس نوعَ الضحك من أجل الترفيه وحده، بل المُحمَّل رسالة تجد في الفكاهة أسلس درب إلى المتلقّي. عنوانه «بالهوا سوا»، كتابة جورج عبود، وتمثيل سامر سركيس ولمى مرعشلي، الخفيفة مثل نسمة على الخشبة. يعلَقُ البطلان في مصعد معطَّل، وفي الوسط بين الأرض والارتفاع، تنشأ علاقة غريبين تجمعهما الألفة الإنسانية.

تمهّلت مرعشلي قبل إكمال المشهد للسيطرة على انتقال «عدوى» الضحكات إليها. فالوجه أظهر ابتسامة عصيّة على الضبط، أمام الصخب الحاصل في المسرح. فصلت نفسها عن أثر التفاعُل، وأكملت أداء شخصية تتعدّد مزاياها. فيها الطيبة، والبساطة حدّ السذاجة، والألم المُبطّن. لسانها جزء من هذا الكاركتير المغمَّس بالثرثرة البريئة، وتعذُّر لجم الحكايات. لديها دائماً ما يجعلها على أبعد مسافة من الصمت.

في المصعد الشبيه بحال لبنان؛ المعطَّل مع وقف التنفيذ، تستعيد الشخصيتان محطات من حياتهما المعلَّقة بدورها على أشدّ الاحتمالات فداحة. فبينما «نجمة» (مرعشلي) تُقبل على الأمومة، بعد محاولات إنجاب فاشلة، يطرح «بدر» (سركيس) أسئلة المنقلبة حياتهم بفعل فجائية الضربة الكبرى. مرضُه في اللحظة غير المتوقّعة، تماماً مثل حَمْلها، يجعلان إعادة الحسابات مسألة في غاية الضرورة. كل شيء يخضع للتشريح: العلاقات الزوجية، وحب الحياة، والأخطاء، لتولد للمرة الأولى حاجة إلى البدء من جديد.

ليست الأوطان سقوفاً فوق رؤوس مُثقَلة بالتروما والزعل، بل الأمان والفرص وإمكان العيش اللائق. العروض تمسّ هذه الأوجاع، بفكاهة الشطّار.

العروض الثلاثة تحاكي التيه ومساعي إيجاد الذات. مرة في الغربة، وأخرى في الفسحات القليلة المتبقّية، مثل ساحات الهتاف ورفرفة الأعلام، ومرة في الوقت الفاصل بين الحياة وما يحول دون الاحتفاظ بها. الشبان مرايا مَن اختنقت أصواتهم وتبعثرت أحلامهم وضلُّوا الوُجهة، وظلَّ شيء ينادي بالإشارة إلى نقطة الوصول. تتخلّل العروض خفوت أنوار الحياة، ومصادرة حناجر، وفوضى وارتباك، لكنها في النهاية تترك بابها موارباً للأمل، فيدخل ليُحدث الانقلاب المُحبب للسياق والأقدار.

ليست التبولة مكوّناتُها من بندورة وبصل وبقدونس، وما يجعلها المفضّلة على المائدة، بل هي الأيدي التي «تجبل»، فتمنح النكهة أسرارها. وليست الأوطان سقوفاً فوق رؤوس مُثقَلة بالتروما والزعل، بل الأمان والفرص وإمكان العيش اللائق. العروض تمسّ هذه الأوجاع، بفكاهة الشطّار. إشكاليات المستقبل والغربة والمخاوف والشوق المُعذِّب، تعصُر الصميم اللبناني في الوطن والمهجر.

 


مقالات ذات صلة

منة شلبي تخوض أولى تجاربها المسرحية في «شمس وقمر»

يوميات الشرق الفنانة المصرية منة شلبي تقدم أول أعمالها المسرحية (حسابها على «فيسبوك»)

منة شلبي تخوض أولى تجاربها المسرحية في «شمس وقمر»

تخوض الفنانة المصرية منة شلبي أولى تجاربها للوقوف على خشبة المسرح من خلال عرض «شمس وقمر» الذي تقوم ببطولته، ويتضمن أغاني واستعراضات.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق عرض مسرحي

مهرجان للمسرح في درنة الليبية ينثر فرحة على «المدينة المكلومة»

من خلال حفلات للموسيقى الشعبية الليبية والأغاني التقليدية، استقطب افتتاح المهرجان أعداداً كبيرة من سكان درنة، لينثر ولو قليلاً من الفرح بعد كارثة الإعصار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مجموعة نشاطات فنّية يقدّمها الفريق في كل مركز (فضاء)

مؤسّسة «فضاء» تؤرشف للمسرح خلال الحرب

يختصر عوض عوض أكثر ما لفته في جولاته: «إنهم متعلّقون بالحياة ومتحمّسون لعيشها كما يرغبون. أحلامهم لا تزال تنبض، ولم تستطع الحرب كسرها».

فيفيان حداد (بيروت)

زافين قيومجيان في برنامج «شو قولك» ينقل رؤية جيل الغد

برنامج «شو قولك» مساحة حوار مع جيل الشباب (زافين قيومجيان)
برنامج «شو قولك» مساحة حوار مع جيل الشباب (زافين قيومجيان)
TT

زافين قيومجيان في برنامج «شو قولك» ينقل رؤية جيل الغد

برنامج «شو قولك» مساحة حوار مع جيل الشباب (زافين قيومجيان)
برنامج «شو قولك» مساحة حوار مع جيل الشباب (زافين قيومجيان)

في حوارات جدّية تتّسم بالموضوعية وبمساحة تعبير حرّة يطالعنا الإعلامي زافين قيومجيان ببرنامجه التلفزيوني «شو قولك» وعبر شاشة «الجديد» ينقل للمشاهد رؤية جيل الشباب لمستقبل أفضل للبنان.

ويأتي هذا البرنامج ضمن «مبادرة مناظرة» الدّولية التي تقوم على مبدأ محاورة أجيال الشباب والوقوف على آرائهم. اختيار الإعلامي زافين مقدّماً ومشرفاً على البرنامج يعود لتراكم تجاربه الإعلامية مع المراهقين والشباب. فمنذ بداياته حرص في برنامجه «سيرة وانفتحت» على إعطاء هذه الفئة العمرية مساحة تعبير حرّة. ومنذ عام 2001 حتى اليوم أعدّ ملفات وبرامج حولهم. واطّلع عن كثب على هواجسهم وهمومهم.

يرتكز «شو قولك» على موضوع رئيسي يُتناول في كل حلقة من حلقات البرنامج. وينقسم المشاركون الشباب إلى فئتين مع وضد الموضوع المطروح. ومع ضيفين معروفَين تأخذ الحوارات منحى موضوعياً. فيُتاح المجال بين الطرفين للنقاش والتعبير. وبتعليقات قصيرة وسريعة لا تتجاوز الـ90 ثانية يُعطي كل فريق رأيه، فتُطرح سلبيات وإيجابيات مشروع معيّن مقترح من قبلهم. وتتوزّع على فقرات محدّدة تشمل أسئلة مباشرة وأخرى من قبل المشاهدين. ولتنتهي بفقرة الخطاب الختامي التي توجز نتيجة النقاشات التي جرى تداولها.

ويوضح قيومجيان لـ«الشرق الأوسط»: «يهدف البرنامج إلى خلق مساحة حوار مريحة للشباب. ومهمتي أن أدير هذا الحوار بعيداً عن التوتر. فلا نلهث وراء الـ(تريند) أو ما يُعرف بالـ(رايتينغ) لتحقيق نسبِ مشاهدة عالية. وبذلك نحوّل اهتمامنا من محطة إثارة إلى محطة عقل بامتياز».

تجري مسبقاً التمرينات واختيار الموضوعات المُراد مناقشتها من قبل الشباب المشاركين. فالبرنامج يقوم على ثقافة الحوار ضمن ورشة «صنّاع الرأي»؛ وهم مجموعات شبابية يخضعون سنوياً لتمارين تتعلّق بأسلوب الحوار وقواعده. ويطّلعون على كلّ ما يتعلّق به من براهين وحجج وأخبار مزيفة وغيرها. فيتسلّحون من خلالها بقدرة على الحوار الشامل والمفيد. ويوضح زافين: «عندما يُختار موضوع الحلقة يجري التصويت لاختيار المشتركين. وبعد تأمين الفريقين، يلتقي أفرادهما بضيفي البرنامج. ومهمتهما دعم الشباب والوقوف على آرائهم. ونحرص على أن يكونا منفتحين تجاه هذا الجيل. فأهمية البرنامج تتمثل في التوفيق بين المشتركين بمستوى واحد. ولذلك نرى الضيفين لا يتصدران المشهدية. وهي عادة متّبعة من قبل المبادرة للإشارة إلى أن الشباب هم نجوم الحلقة وليس العكس».

يمثّل المشاركون من الشباب في «شو قولك» عيّنة عن مجتمع لبناني ملوّن بجميع أطيافه. أما دور زافين فيكمن في حياديته خلال إدارة الحوار. ولذلك تختار المبادرة إعلاميين مخضرمين لإنجاز هذه المهمة.

طبيعة الموضوعات التي تُثيرها كلّ مناظرة حالياً ترتبط بالحرب الدائرة في لبنان.

ويستطرد زافين: «عادة ما تُناقش هذه المناظرات موضوعات كلاسيكية تهمّ الشباب، من بينها الانتحار والموت الرحيم، ولكن هذه الاهتمامات تقلّ عند بروز حدث معيّن. فنحاول مواكبته كما يحصل اليوم في الحرب الدائرة في لبنان».

ضرورة فتح مطار ثانٍ في لبنان شكّل عنوان الحلقة الأولى من البرنامج. وتناولت الحلقة الثانية خدمة العلم.

ينتقد قيومجيان أسلوب بعض المحاورين على الشاشات (زافين قيومجيان)

«شيخ الشباب» كما يحبّ البعض أن يناديه، يرى زافين أن مهمته ليست سهلةً كما يعتقد بعضهم. «قد يُخيّل لهم أن مهمتي سهلة ويمكن لأي إعلامي القيام بها. فالشكل العام للبرنامج بمثابة فورمات متبعة عالمياً. والمطلوب أن يتقيّد بها فريق العمل بأكمله». ويستطرد: «يمكن عنونة مهمتي بـ(ضابط إيقاع) أو (قائد أوركسترا)؛ فالمطلوب مني بصفتي مقدّماً، التّحكم بمجريات الحلقة ومدتها ساعة كاملة. فالتجرّد وعدم التأثير على المشاركين فيها ضرورة. أنا شخصياً ليس لدي هاجس إبراز قدراتي وذكائي الإعلامي، والمقدم بصورة عامة لا بدّ أن ينفصل عن آرائه. وأن يكون متصالحاً مع نفسه فلا يستعرض إمكانياته. وهو أمر بتنا لا نصادفه كثيراً».

يقول زافين إن غالبية إعلاميي اليوم يتّبعون أسلوب «التشاطر» على ضيفهم. وهو أمر يبيّن عدم تمتع الإعلامي بالحرفية. ولنتمكّن من الإبقاء على هذا الأسلوب المرن لا بدّ أن نتدرّب على الأمر. وأن نملك الثقة بالنفس وهو ما يخوّلنا خلق مساحة حوار سليمة، تكون بعيدة عن الاستفزاز والتوتر وتأخذ منحى الحوار المريح».

يستمتع زافين قيومجيان بتقديم برنامجه «شو قولك»، ويقول: «أحب اكتشاف تفكير الشباب كما أني على تماس مستمر معهم من خلال تدريسي لطلاب الجامعة، وأنا أب لشابين».

يحضّر زافين قيومجيان لبرنامج جديد ينوي تقديمه قريباً عبر المحطة نفسها. ولكنه يرفض الإفصاح عن طبيعته. ويختم: «سيشكّل مفاجأة للمشاهد وأتمنى أن تعجبه».