تنسيق المعارض الفنية حرفة تمتهنها النساء في لبنان

يتوزّعن على غاليريهات ومتاحف وفضل كبير يعود لهنّ

معرض مازن خداج في دبي بتوقيع مي الحاج (الشرق الأوسط)
معرض مازن خداج في دبي بتوقيع مي الحاج (الشرق الأوسط)
TT

تنسيق المعارض الفنية حرفة تمتهنها النساء في لبنان

معرض مازن خداج في دبي بتوقيع مي الحاج (الشرق الأوسط)
معرض مازن خداج في دبي بتوقيع مي الحاج (الشرق الأوسط)

يُعدّ منسّق المعارض الفنية جندياً مجهولاً يعمل في الكواليس. فمهمّته تكمن في التخطيط والتجهيز والتسويق للمعرض، وعلى عاتقه يقع نجاحه أو فشله.

قلّة تعرف أهمية أصحاب هذه الحرفة. غالبيتهم تبقى في الظل، لتقتصر النجومية على الفنان. إنما المنسّق يبحث ويستكشف ويختار لوحات العرض، متسلّحاً بالعلم وبحسّ يخوّله ممارسة مهنته بشغف. مستقلاً أو مرتبطاً بغاليري أو متحف. ويُعدّ المسؤول الأول والأخير عن رفع قيمة العرض الفنية.

في لبنان، ومنذ سنوات، يحضر منسّق المعارض المعروف بـ«Curator». رجال ونساء يندرجون على لوائح هذه المهنة، التي في أحيان تعزّزها أسماء السيدات.

طريقة إضاءة المعرض وكيفية تعليق اللوحات تلزمهما أيضاً الحرفية (الشرق الأوسط)

يبقى السؤال؛ هل تنسيق المعارض فن أم علم؟

مي الحاج، منسّقة معارض مستقلّة تعمل بين لبنان والدول العربية، تخصّصت في نظرية الفن وتاريخه، وهي حائزة ماجستيراً في التنسيق من جامعات بريطانية، توضح لـ«الشرق الأوسط»: «من الطبيعي أن يملك المنسّق خلفية غنية بمادة التاريخ الفني، فيكون مطّلعاً على مدارس رسم، وعلى فنون قديمة ومعاصرة. غياب المعرفة سيفقده كيفية الاتصال مع مرجعيات فنية مختلفة».

بعض المنسّقين، وبعد مشوار طويل في المهنة، يصبحون أصحاب غاليريهات فنية، فيختارون الفنان الذي يُقنعهم ويمثل رؤية يرغبون في إبرازها.

زلفا الحلبي منسّقة مشهورة في لبنان، تملك غاليري تحمل اسم عائلتها. دراستها الفنون انطلقت من الجامعة الأميركية في بيروت، لتتنقّل بعدها بين جامعات نيويورك وبريطانيا. درست النقد وإدارة الأعمال الفنية لتُكمل حلقة العلم المطلوبة في هذا الإطار.

عن طبيعة عمل المنسّق، تجيب «الشرق الأوسط»: «من مهمّاته اختيار لوحات الرسام، وهذه العملية تتطلّب إجادة التنسيق بين موضوعاتها وأشكالها وألوانها، فتشكل قصة واحدة يستمتع زائر المعرض باكتشافها. وعندما يُنجِز معرضاً متكاملاً، فهو يقدّم إضافة إلى قيمته الفنية».

منسقة المعارض مي الحاج مع الفنان رالف الحاج في معرض له (الشرق الأوسط)

لكن، هل المنسّق هو المسؤول الأول والأخير عن نجاح المعرض؟ تردّ رندة صدقة، وهي منسّقة مستقلّة: «حضور المنسّق أساسي في أي معرض، إذ يترك بصمته تلقائياً، ليُسهم في نجاحه أو فشله؛ لكن الأمر لا يتعلق به وحده. عنوان نجاح هذه المهمة هو التعاون. فكلما تجانس الفريق، استطاع تقديم نتيجة أفضل».

لزلفا الحلبي رأي آخر: «يمكن لمعرض ما أن يحقّق نجاحاً مبهراً، وتُباع جميع اللوحات أو القطع الفنية المعروضة؛ لكن، في المقابل، لن يكون بالضرورة قد ساهم في إبراز المفهوم الفني، وهنا يكمن الفارق».

طويلة لائحة النساء المنسّقات العاملات في هذه المهنة بلبنان. رندة صدقة لا ترى أنّ الأمر يقتصر عليهن. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «أرفض مقولة نجاح النساء في تنسيق المعارض أكثر من الرجل. هما متساويان في المهنة، كما في غيرها. شرطا إبراز الجدارة والمستوى المطلوب في أي مهنة هما الاجتهاد والعمل بصدق».

أما الحلبي فترى أنّ المرأة عنصر يناسب هذه المهنة لتطلُّبها الصبر: «تتطلّب أيضاً المتابعة والتفرّغ، وتُعدّ المطبخ الأساسي لتحضير الحدث. تجيد النساء عادة هذه الأمور بالفطرة، وذلك لا يعني أنهنّ الأنجح فيها. إذا اطّلعنا على سوق التنسيق في لبنان، فسيلفتنا وجود أسماء نسائية كثيرة. ربما الصدفة تقف وراء ذلك».

لا فارق بين المرأة والرجل في مهنة تنسيق المعارض (الشرق الأوسط)

وعن الإنجاز الذي يسعى إليه المنسّق، تردّ مي الحاج: «بالنسبة إليّ، يكفي أن يستقطب المعرض الزوار، فيُعجَبون بالفنان ولوحاته. العلاقة بين المنسّق والفنان تلعب دوراً مهماً. يرتكز اختياري الفنانين الذين أتعامل معهم بالدرجة الأولى على الثقة. فإذا لم يقنعني عمل، أختصر الطريق ولا أتسلمّ المهمّة».

بدورها، تؤكد رندة صدقة المتخصّصة في الفن الحديث بأنّ على المنسّق أن يقرأ كثيراً، ويتحلّى بباع طويل في كيفية كتابة نص جذاب: «كل ما يتعلّق بالفنون، من تصوير وكتالوغ ولوحات، يبدأ بالقراءة والاطّلاع. النصوص المرافقة للوحات الفنان تلعب أيضاً دوراً مهماً، فتقرّب، كما المقدّمة التي تُعرّف عنه، الناس منه أو العكس».

إذن، مهمة المنسّق ترتكز على عناصر كثيرة؛ علمية وفنية، وتتطلّب دراسات معمّقة. توضح زلفا الحلبي: «عند اختيار الفنان، أتابعه لفترة، فأدرس طريقة تفكيره، وكيف وُلدت موهبته، وما تقنيته. أدخل إلى فكره محاولة أن أستشف معاني لوحاته وما يرغب في قوله. حتى طريقة إضاءة المعرض، وكيفية تعليق اللوحات على جدران الغاليري أو المتحف تلزمهما الحرفية».


مقالات ذات صلة

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
TT

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)
شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

في النسيج الواسع لتاريخ الفن التشكيلي، تبرز بعض الأعمال الفنية وتكتسب شهرة عالمية، ليس بسبب مفرداتها وصياغاتها الجمالية، ولكن لقدرتها العميقة على استحضار المشاعر الإنسانية، وفي هذا السياق تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود»، وهي كذلك شهادة على «قوة الفن في استكشاف أعماق النفس، وصراعاتها الداخلية».

هذه المعالجة التشكيلية لهموم البشر وضغوط الحياة استشعرها الجمهور المصري في أول معرض خاص لماهر البارودي في مصر؛ حيث تعمّقت 32 لوحة له في الجوانب الأكثر قتامة من النفس البشرية، وعبّرت عن مشاعر الحزن والوحدة والوجع، لكنها في الوقت ذاته أتاحت الفرصة لقيمة التأمل واستكشاف الذات، وذلك عبر مواجهة هذه العواطف المعقدة من خلال الفن.

ومن خلال لوحات معرض «المرايا» بغاليري «مصر» بالزمالك، يمكن للمشاهدين اكتساب فهم أفضل لحالتهم النفسية الخاصة، وتحقيق شعور أكبر بالوعي الذاتي والنمو الشخصي، وهكذا يمكن القول إن أعمال البارودي إنما تعمل بمثابة تذكير قوي بالإمكانات العلاجية للفن، وقدرته على تعزيز الصحة النفسية، والسلام، والهدوء الداخلي للمتلقي.

لماذا يتشابه بعض البشر مع الخرفان (الشرق الأوسط)

إذا كان الفن وسيلة للفنان والمتلقي للتعامل مع المشاعر، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإن البارودي اختار أن يعبِّر عن المشاعر الموجعة.

يقول البارودي لـ«الشرق الأوسط»: «يجد المتلقي نفسه داخل اللوحات، كل وفق ثقافته وبيئته وخبراته السابقة، لكنها في النهاية تعكس أحوال الجميع، المعاناة نفسها؛ فالصراعات والأحزان باتت تسود العالم كله». الفن موجود إذن بحسب رؤية البارودي حتى يتمكّن البشر من التواصل مع بعضهم بعضاً. يوضح: «لا توجد تجربة أكثر عالمية من تجربة الألم. إنها تجعلهم يتجاوزون السن واللغة والثقافة والجنس لتعتصرهم المشاعر ذاتها».

الفنان السوري ماهر البارودي يحتفي بمفردة الخروف في لوحاته (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن السعادة، ألا تؤدي بالبشر إلى الإحساس نفسه؟، يجيب البارودي قائلاً: «لا شك أن السعادة إحساس عظيم، إلا أننا نكون في أقصى حالاتنا الإنسانية عندما نتعامل مع الألم والمعاناة». ويتابع: «أستطيع التأكيد على أن المعاناة هي المعادل الحقيقي الوحيد لحقيقة الإنسان، ومن هنا فإن هدف المعرض أن يفهم المتلقي نفسه، ويفهم الآخرين أيضاً عبر عرض لحظات مشتركة من المعاناة».

وصل الوجع بشخوص لوحاته إلى درجة لم يعد في استطاعتهم أمامه سوى الاستسلام والاستلقاء على الأرض في الشوارع، أو الاستناد إلى الجدران، أو السماح لعلامات ومضاعفات الحزن والأسى أن تتغلغل في كل خلايا أجسادهم، بينما جاءت الخلفية في معظم اللوحات مظلمةً؛ ليجذب الفنان عين المشاهد إلى الوجوه الشاحبة، والأجساد المهملة الضعيفة في المقدمة، بينما يساعد استخدامه الفحم في كثير من الأعمال، وسيطرة الأبيض والأسود عليها، على تعزيز الشعور بالمعاناة، والحداد على العُمر الذي ضاع هباءً.

أحياناً يسخر الإنسان من معاناته (الشرق الأوسط)

وربما يبذل زائر معرض البارودي جهداً كبيراً عند تأمل اللوحات؛ محاولاً أن يصل إلى أي لمسات أو دلالات للجمال، ولكنه لن يعثر إلا على القبح «الشكلي» والشخوص الدميمة «ظاهرياً»؛ وكأنه تعمّد أن يأتي بوجوه ذات ملامح ضخمة، صادمة، وأحياناً مشوهة؛ ليعمِّق من التأثير النفسي في المشاهد، ويبرز المخاوف والمشاعر المكبوتة، ولعلها مستقرة داخله هو نفسه قبل أن تكون داخل شخوص أعماله، ولمَ لا وهو الفنان المهاجر إلى فرنسا منذ نحو 40 عاماً، وصاحب تجربة الغربة والخوف على وطنه الأم، سوريا.

أجواء قاتمة في خلفية اللوحة تجذب العين إلى الألم البشري في المقدمة (الشرق الأوسط)

وهنا تأخذك أعمال البارودي إلى لوحات فرنسيس بيكون المزعجة، التي تفعل كثيراً داخل المشاهد؛ فنحن أمام لوحة مثل «ثلاث دراسات لشخصيات عند قاعدة صلب المسيح»، نكتشف أن الـ3 شخصيات المشوهة الوحشية بها إنما تدفعنا إلى لمس أوجاعنا وآلامنا الدفينة، وتفسير مخاوفنا وترقُّبنا تجاه ما هو آتٍ في طريقنا، وهو نفسه ما تفعله لوحات الفنان السوري داخلنا.

لوحة العائلة للفنان ماهر البارودي (الشرق الأوسط)

ولا يعبأ البارودي بهذا القبح في لوحاته، فيوضح: «لا أحتفي بالجمال في أعمالي، ولا أهدف إلى بيع فني. لا أهتم بتقديم امرأة جميلة، ولا مشهد من الطبيعة الخلابة، فقط ما يعنيني التعبير عن أفكاري ومشاعري، وإظهار المعاناة الحقيقية التي يمر بها البشر في العالم كله».

الخروف يكاد يكون مفردة أساسية في أعمال البارودي؛ فتأتي رؤوس الخرفان بخطوط إنسانية تُكسب المشهد التصويري دراما تراجيدية مكثفة، إنه يعتمدها رمزيةً يرى فيها تعبيراً خاصاً عن الضعف.

لبعض البشر وجه آخر هو الاستسلام والهزيمة (الشرق الأوسط)

يقول الفنان السوري: «الخروف هو الحيوان الذي يذهب بسهولة لمكان ذبحه، من دون مقاومة، من دون تخطيط للمواجهة أو التحدي أو حتى الهرب، ولكم يتماهى ذلك مع بعض البشر»، لكن الفنان لا يكتفي بتجسيد الخروف في هذه الحالة فقط، فيفاجئك به ثائراً أحياناً، فمن فرط الألم ومعاناة البشر قد يولد التغيير.