«غيمة وبتقطع»... العادة اللبنانية «البغيضة» تواجه رَفْضَها

التشكيلية رنا علوش تدحض الذرائع المؤجِّلة للحركة

الغيمة تختزل الهَمّ وتعبُر إلى حالتها المُعمَّمة لتطال كل لبناني يتشارك والرسّامة القلق (صور الفنانة)
الغيمة تختزل الهَمّ وتعبُر إلى حالتها المُعمَّمة لتطال كل لبناني يتشارك والرسّامة القلق (صور الفنانة)
TT

«غيمة وبتقطع»... العادة اللبنانية «البغيضة» تواجه رَفْضَها

الغيمة تختزل الهَمّ وتعبُر إلى حالتها المُعمَّمة لتطال كل لبناني يتشارك والرسّامة القلق (صور الفنانة)
الغيمة تختزل الهَمّ وتعبُر إلى حالتها المُعمَّمة لتطال كل لبناني يتشارك والرسّامة القلق (صور الفنانة)

تُسمّي الفنانة التشكيلية العشرينية رنا علوش مجموعتها، «غيمة وبتقطع»، رفضاً للنُواح بذريعة الظرف. عادةٌ لبنانية، القول إنّ المسألة «غيمة»، ولا بدّ أن تمرّ. من الاعتراض، وُلدت «تيمة» مُستمدَّة من الأزرق. تصفه بـ«لون التناقضات»، وتُفرد له المساحة فيسيطر. المجموعة المعروضة مع أعمال لفنانين في غاليري «موجو» البيروتية، حضٌّ على التحرُّك، على الفعل والاندفاع، من أجل ألا تبقى الأشياء كما هي.

الفنانة التشكيلية رنا علوش لم تخطط لاكتمال مجموعة واحتلال مساحة (حسابها الشخصي)

تجعل الشخصي موضوع اللوحات، بعدما أدركت أنّ المجتمع أو الخارج لا يُلهم بالقدر الكافي لاكتمال الفكرة. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «حين بدأ الآخرون يُسبّبون الإزعاج، راحت الفكرة تتشكّل. الجميع، تقريباً، يشكو من دون أن يحاول التغيير. يكتفون باللوم وعدم تحمُّل المسؤولية. التعبير اللبناني الشائع (غيمة وبتقطع) بغيض. نحن بارعون في إعلان النأي عن القيام بأفعال. نلوم الطقس على مآلاتنا ونعتب على الغيوم. (غيمة وبتقطع)، حسناً، ماذا نفعل لتسريع مرورها؟ نكتّف الأيدي».

اللوحات نداءُ مواجهة، من خلالها تدعو علوش للعودة إلى النفس: «لنعترف مرة بأخطائنا ولا نختبئ خلف الظروف. لا بدّ أنها مؤثرة وقاسية، لكننا لم نعتد المواجهة الذاتية. رسمتُ كأنني في جلسة مصارحة. أنا أيضاً أُصاب بالانزعاج ولديَّ مشاكلي. علينا البدء بحلّها من الداخل».

المجموعة معروضة مع أعمال لفنانين في غاليري «موجو» (صور الفنانة)

الهَمّ، تسمّيه، على الطريقة اللبنانية «غيمة»: «غيومنا ليست خارجية. الطقس لا علاقة له بأشكال المعارك التي نخوضها. المرء أمام خيارين؛ التقبُّل أو التغيير. نحن نُخطئ ونتسبّب بما يحدث لنا».

رنا علوش مدرِّسة رسم وخرّيجة قسم الفنون التشكيلية. بالنسبة إليها، «ثمة مآخذ على الفن، لا تُصوَّب إلا بالنقد. وهو يشمل النظرة والتداوُل والتذوُّق». لوحاتها دعوة إلى التجريب، كردّ فعل على الاتكاء وانكماش الحركة. يصحّ عليها اختزال يوميات اللبناني الباحث عن ذريعة للانتظار. عند هذا الحد، يتداخل الشخصي بامتداداته الخارجية، ويصبح الموضوع الفردي إطاراً عاماً للموضوع الأكبر، القائم على إشكاليات العيش وتحولاته. فالغيمة، اختزال الهَمّ، تعبُر إلى حالتها المُعمَّمة، لتطال كل لبناني يتشارك والرسّامة هواءً مسموماً وقلق الغد.

شخصيتها الساخرة تُسهّل ربط خيالاتها العائمة بين الغيوم، بالواقع الفظّ. قاعدتها: «السخرية تلطّف القسوة وتُهوِّن الأحوال». نسألها عن لوحة «طفح الكيل»، وهي الأخرى عبارة لبنانية مُتداوَلة. الكيل يطفح على الدوام، ولا شيء يتغيّر. يطفح فحسب. تردّ أنها تعبير عن مسألة شخصية يمكن سكبها على الواقع من خلال السخرية. فقد رسمت الطَفْح ومعه قلّة الحيل والمحاولة المقتولة. علوش لا تزال في الرابعة والعشرين. مراكمةُ السنوات لا بدّ أن تقود إلى تكثيف التجربة وبلوغها ذروات ممكنة.

الكيل يطفح على الدوام ولا شيء يتغيّر (صور الفنانة)

لم ترسم المدينة لإحساسها بأنّ الجميع يفعل. هاجسها تحويل مشاعر تترتّب عن تجارب خاصة إلى خلاصات تعبيرية واثقة. تقول: «انطوائيتي تحدّ من قدرتي على التقاط الأشياء في الخارج. ريشتي ترى ما تعاينه نفسي. أفضّل رسم شعوري على افتعال قضايا في المجتمع والسياسة. أحبّ بيروت بذاتها، قبل ناسها ومقاهيها، وقد أرسمها على طريقتي».

تعرض في غاليري «موجو» بالأشرفية مع آخرين. نسألها عن فرص تُمنَح لمَن لا يزالون في البداية، وعن نبل فَتْح الباب الأول. تردّ: «هذا الغاليري، من بين قلّة، منحتني الفرصة. غاليريهات أخرى تفضّل العرض لرسّامين تحت الضوء. هكذا، تُباع اللوحات أسرع. في النهاية، على أحدهم أن يترك النور يتسلّل فيشقّ طريقه إلى موهبة شابة».

وتتحدّث عن قلّة تدعم، مع ذكر أسماء: «الرسّامون شوقي يوسف، رولا الحسين، روي داغر. أتعمّد تسميتهم، فما يقدّمونه نادر». على عكسهم، تُلمح إلى مكرّسين يخشون جديداً على الخط: «بعضٌ معروف والأضواء كثيفة عليه، لكنه يُصاب بانزعاج حين يطال سواه شعاع ضئيل! لا يرحّبون ولا يشجّعون».

«غيمة وبتقطع» عنوان لوحات ترفض النُواح بذريعة الظرف (صور الفنانة)

لم تخطط رنا علوش لاكتمال مجموعة واحتلال مساحة. تكتب أفكاراً وتلوّن، وتُذكِّر نفسها: «أنا في مرحلة تجريبية. أحاول تكوين أسلوب خاص. إن نجحتْ لوحة أطوّرها بإدخال تعديلات ونقلها إلى المساحة الأكبر. ما أشعر أنه فاشل، أتعلّم منه».

يشبهها اللون الأزرق من منطلق اختزاله التناقضات. ففي منظورها، هو لون الصفاء والسلام، وقد يكون أيضاً لون الفراغات الكئيبة. احتضانها غيمة في إحدى اللوحات بمثابة مسعى للبحث عن معنى للاستمرار. برأيها، «الإنسان لن يشعر بوجوده من دون جدوى يجعله حياً. لذا، قد نتمسّك بمبررات ونصدّق ذرائع. إننا بناة قصص نرويها لأنفسنا لنشعر بشيء من البهجة، إلى أن يحلّ الملل ونعيد الكرّة بالبحث عن بهجة أخرى. هذه دوامة وجودية، تجد غذاءها عند البعض باختراع مآسٍ والنهل منها. المسألة دارجة اليوم، فالتعاسة المرجوَّة تتيح بُعداً للحياة حتى تفقد لذّتها وتُحتِّم البحث عن مآسٍ أخرى».

رغم تشكُّل نبع الإلهام من يومياتها وتجاربها وأحاسيسها، فإنها لا تخفي تأثير العامل الخارجي: «من دون قصد، يهزّني ما يجري في بيروت. لن تكون لوحاتي مُشابهة، إنْ رسمتها في باريس بجوار نهر السين وأنا أتأمّل الطبيعية مثلاً. أرسم في زحمة المدينة، في صداعها ومخاوفها، فيتصاعد الاهتزاز مع الألوان ويعمّ الانطباع الضبابي».


مقالات ذات صلة

معرض «البردة» يستلهم «النور» في «لوفر أبوظبي»

يوميات الشرق معرض (البردة) في لوفر أبوظبي

معرض «البردة» يستلهم «النور» في «لوفر أبوظبي»

عبر تكوينات زخرفية وفنية مفعمة بالروحانيات والنور، تخطف الأعمال المشاركة في معرض «البردة» بمتحف اللوفر أبوظبي الأنظار.

عبد الفتاح فرج (القاهرة)
يوميات الشرق منحوتات ورسومات تعود بنا إلى سنوات ماضية (الشرق الأوسط)

«إلى حيث ننتمي» جردة أعوام مضت في لوحات ومنحوتات

اختار غاليري «آرت أون 56» معرضاً جماعياً يتألف من نحو 20 لوحة تشكيلية ليطلق موسمه الفني لفصل الشتاء، يودّع معه عاماً ويستقبل آخر، ويعود بنا إلى سنة 2012.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق من مجموعة «أنصال حادة» في المعرض (الشرق الأوسط)

«رديء الصنع»... معرض مصري مستوحى من أسواق الألعاب الشعبية

يسجّل المعرض الفني الذي يضم 29 عملاً تجربة ذاتية واستكشافية ممتدة عبر نحو ثلاث سنوات، عايشها الفنان المصري علي حسان عبر جولاته داخل أسواق ألعاب الأطفال الشعبية.

منى أبو النصر (القاهرة)
العربات في قاعة العرض في متحف قلعة بفيينا (أ.ف.ب)

متحف عربات الخيول في النمسا رحلة إلى الحقبة الإمبراطورية

عشية عيد الميلاد في فيينا، تستقطب عربة الخيل المفضّلة لدى إمبراطور النمسا-المجر فرانتس يوزف السيّاح، إذ تُعرض للمرة الأولى منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «بينالي الفنون الإسلامية» يتألف من 7 أقسام تتوزع على صالات ومساحات متعددة («بينالي الدرعية»)

إعلان قائمة الفنانين المشاركين في «بينالي الفنون الإسلامية» الثاني بجدة

أعلنت مؤسسة «بينالي الدرعية» القائمة الكاملة من الفنانين المشاركين في النسخة الثانية من «بينالي الفنون الإسلامية»، المقرر افتتاحها في 25 يناير 2025.

«الشرق الأوسط» (جدة)

دراسة: العازبون أقل رضا عن الحياة من المتزوّجين

المتزوّجون أكثر رضا عن الحياة مقارنة بالعازبين (جمعية علم النفس الأميركية)
المتزوّجون أكثر رضا عن الحياة مقارنة بالعازبين (جمعية علم النفس الأميركية)
TT

دراسة: العازبون أقل رضا عن الحياة من المتزوّجين

المتزوّجون أكثر رضا عن الحياة مقارنة بالعازبين (جمعية علم النفس الأميركية)
المتزوّجون أكثر رضا عن الحياة مقارنة بالعازبين (جمعية علم النفس الأميركية)

أظهرت دراسة ألمانية أنّ الأشخاص الذين عاشوا حياة العزوبية طوال حياتهم يختلفون عن المتزوّجين أو المرتبطين في سمات شخصيتهم ودرجة رضاهم عن الحياة.

وأوضح الباحثون من جامعة «بريمن» أنّ العازبين الذين لم يدخلوا في علاقات طويلة الأمد طوال حياتهم يسجّلون درجات أقلّ في مقاييس الرضا عن الحياة مقارنة بالأشخاص المتزوّجين، وفقاً للدراسة المنشورة، الخميس، في دورية «Psychological Science».

ومقاييس الرضا عن الحياة هي أدوات تُستخدم لتقويم شعور الأفراد بالرضا عن حياتهم بشكل عام، مع التركيز على جوانب متعدّدة مثل الصحّة الجسدية والنفسية، والعلاقات الاجتماعية، والإنجازات المهنية، والوضع المالي. وتعتمد غالباً على استبيانات تُقوِّم شعور الفرد بالسعادة والإيجابية والإشباع العام في حياته، وهي أداة أساسية لفهم جودة الحياة، إذ تُستخدم في الدراسات النفسية والاجتماعية لربط الرضا عن الحياة بعوامل مثل الشخصية، والحالة الاجتماعية، والصحة العامة، مما يساعد في تصميم استراتيجيات لتحسين رفاهية الأفراد والمجتمعات.

ورغم أنّ الزواج يُنظر إليه تقليدياً بوصفه قاعدة اجتماعية، فإنّ عدداً متزايداً من الأشخاص يختارون البقاء عازبين طوال العمر. ومع ذلك، قد يحمل البقاء من دون شريك عواقب اقتصادية وصحّية، خصوصاً مع التقدُّم في السنّ، إذ يصبح الأفراد أكثر اعتماداً على الآخرين، وفق الباحثين.

وشملت الدراسة أكثر من 77 ألف شخص في أوروبا فوق سنّ الخمسين؛ وكانت الأولى من نوعها التي تدرس الذين ظلوا عازبين طوال حياتهم مقارنة بالمتزوّجين.

وأظهرت النتائج أنّ العازبين الذين لم يدخلوا في علاقات طويلة الأمد يحقّقون درجات أقل في الرضا عن الحياة مقارنةً بالأشخاص المرتبطين. كما أظهرت الدراسة أنّ العازبين أقل انفتاحاً على التجارب وأقل انبساطاً مقارنةً بالمرتبطين.

وتابعت أنّ النساء العازبات حققن درجات أعلى من الرضا عن الحياة مقارنةً بالرجال العازبين، وأنّ الأشخاص الأكبر سناً كانوا أكثر قبولاً لحالة العزوبية من الأشخاص في منتصف العمر.

كما ظهرت اختلافات ثقافية طفيفة، إذ كان العازبون في الدول ذات معدلات الزواج المرتفعة (مثل دول البحر الأبيض المتوسط) أكثر قلقاً بشأن حالتهم العاطفية.

وخلُص الباحثون إلى أنّ العازبين، خصوصاً كبار السنّ، قد يواجهون تحدّيات أكبر تتعلّق بالرضا عن الحياة.

وأشاروا إلى أنهم عادة ما يعانون مشكلات صحية ومالية أكبر، ما يجعلهم بحاجة إلى مزيد من الدعم الذي يأتي عادةً من الشريك.

وشدَّد الفريق البحثي على أهمية تطوير برامج جديدة لمكافحة الوحدة تأخذ في الحسبان السمات الشخصية للعازبين، خصوصاً الأكبر سنّاً، وتساعدهم على تكوين علاقات اجتماعية تدعم رفاهيتهم.