«قَلِقٌ في بيروت»: المقبرة المتنقّلة عارية من أشجارها

مُخرجه زكريا جابر لـ«الشرق الأوسط»: أرفض إثارة الشفقة

زكريا جابر يصل بفيلمه البيروتي إلى «مهرجان شنغهاي الدولي» الموازي آسيوياً لـ«الأوسكار» (صور المخرج)
زكريا جابر يصل بفيلمه البيروتي إلى «مهرجان شنغهاي الدولي» الموازي آسيوياً لـ«الأوسكار» (صور المخرج)
TT

«قَلِقٌ في بيروت»: المقبرة المتنقّلة عارية من أشجارها

زكريا جابر يصل بفيلمه البيروتي إلى «مهرجان شنغهاي الدولي» الموازي آسيوياً لـ«الأوسكار» (صور المخرج)
زكريا جابر يصل بفيلمه البيروتي إلى «مهرجان شنغهاي الدولي» الموازي آسيوياً لـ«الأوسكار» (صور المخرج)

إلى شقة مشتركة مع أصدقاء، انتقل زكريا جابر، ابن المخرج المسرحي اللبناني يحيى جابر للعيش، كشيء من رغبة الأبناء في التفرّد بخياراتهم عن الآباء. أحبَّ الصحافة ولفحته بخيباتها، فتسللت مشاعر القلق إلى رأس يزدحم بالأماني. أشعل كاميرته وصوَّر وداعات أقامها لأحبة غادروا تباعاً لبنان نحو أمل ممكن، فوُلدت أسئلة عن العلاقة بالمدينة وخيارات إنسانها، حمَّلها فيلمه الوثائقي «قَلِقٌ في بيروت»، الحائز جوائز مُستَحقة.

فضَّل الإخراج بعد تعثّر خطاه في عالم الصحافة الذي يصفه بالشائك، فصوَّر 30 سنة من تاريخ لبنان الحديث، من خلال السنوات الثلاث الأخيرة القاسية. يُخبر «الشرق الأوسط» عن ولادة الوثائقي من عمق تكثيف المحاولة. لسبعين مرة، كتب وأعاد الكتابة؛ صوَّر وعدَّل الزوايا. من النزيف، عَبَق برعم في الجرح، معلناً أنْ لا دواء أعظم من الكيّ.

«بوستر» فيلم «قَلِقٌ في بيروت» الذي يصوّر اختناق المدنية (صور المخرج)

ساعة ونصف ساعة، تختزل انغماس شعب كامل بالفظاعة. صوَّر المفارقات اللبنانية ونشر بعضها في مواقع التواصل، إلى أنْ رنّ هاتفه: «كانت منتجة الفيلم جومانا سعادة. سألتني، لِمَ لا تعمل على ما يتجاوز التصوير للتحميل الافتراضي؟ وبدأنا ورشة تطوير الكتابة. أخذتني بعيداً. حلَّ (الكوفيد)، لنسلك كل الطرق لبلوغ أقصى طموحاتنا».

لبنان بكاميرا شاب لم يبلغ الثلاثين، وُلد لأب مولع بالمسرح وأم تشغلها المعارض. شرَّح ادّعاء الازدهار فالارتطام المروع؛ بواقعية وبلا خطاب. فما يبدو حكاية شخصية (يوميات مخرج، علاقته بأصدقائه، حضور الأب...)، لا يبذل جهداً للعبور نحو الجماعة. الخاص ذريعة للعام، والجزء مقدّمة للكل. على «فيسبوك»، احتفى لبنانيون بجوائز حصدها الفيلم: بدءاً من بيروت، في مهرجان «شاشات الواقع»، إلى «مهرجان شنغهاي الدولي»، الموازي آسيوياً لـ«الأوسكار»، مع جولة في مهرجانات عربية (عمّان وسواها)، وغربية، من أميركا إلى إيطاليا وإسبانيا ومحافل تقدّر الفن.

لقطة من احتفال توزيع جوائز «مهرجان شنغهاي الدولي» في الصين (صور المخرج)

كان عمره 15 عاماً حين خطرت له فكرة فيلم: «عن شاب في سنّي، فقد الذاكرة». تمرّ في الشريط عبرة على لسان والده: «إن أردتَ ردع ألزهايمر عن الفتك بك، اصنع الأفلام». الأب ألهم كثيراً، فنشاء نبش طبيعة هذه العلاقة. يجيب زكريا جابر: «أناديه يحيى. علاقتنا بالطعمَيْن الحلو والمرّ، لكنه يظلّ يحفّزني على الإبداع. هو ناقد، تستوقفني نظرته للأشياء. أورثني رفض التسليم بالجاهز وتلطيف الأمور. وأيضاً الولع بالفن. الأهم ألا أستجدي العطف أو المال أو أي شيء آخر. فيلمي غير بكائي. لا أريد إثارة الشفقة».

يتحدّث عن أخلاقيات العمل: «الجمهور ليس أحمق. إما أنْ أمنحه مادة قابلة للفهم، أو أعلّمه أشياء جديدة. في الفيلم، تعمّدتُ تداخُل الواقع والدعابة. السينما في النهاية تكترثُ للترفيه، وإن انطلقتُ من خلفية صحافية».

المخرج المسرحي اللبناني يحيى جابر ألهم ابنه الرفض والولع بالفن (صور المخرج)

كثرٌ عاتبوا: «يا زكريا ما حالك؟ تبدو مثل ورقة نعوة!». هذا مصطلح دارج في لبنان، يُرمَى بوجه الشاكين من الأحوال. عددهم إلى تزايُد وصنفهم يغزو. من هنا، وُلدت ذروة المفارقات اللبنانية التي تعمّد جابر تكرارها مرات خلال الفيلم: «إما الطائرة أو التابوت»! يشرح: «قصدتُ أننا نموت ببطء، إلا مَن يوضّب الحقائب للمغادرة. إن كنتُ ورقة نعوة لمجرّد إحساسي بالذنب حيال هول ما يجري، فلا بأس. البلد مقبرة متنقّلة، ولا مساومة في نقل الصورة بإسقاط ألوانها. على الآخرين أن يعوا جيداً: الحقيقة ليست وردية».

بدت ومضة الإشارةُ إلى اختفاء معالم المدينة وتبدُّل طابعها. لِمَ المرور السريع على إشكالية من هذا الصنف الجدلي؟ يردّ: «الفيلم هو قاموسي الأول، أريده تحريضاً على الأسئلة. عملي مستمر، فلم أستعن سوى بـ10 في المائة من أرشيفي. صوّرتُ طوال 3 سنوات. اكتفائي بتمرير مسائل هو رغبتي في تحويلها من نكرة إلى معرفة. (فراغ) مثلاً، ستصبح في الفيلم المقبل (الفراغ)».

من نداءات اللبنانيين على الجدران المهترئة (صور المخرج)

يملك جرأة نقل النقاش إلى غير مرتبة: «لن أهتمّ لقول مفاده أنني أصوّر الأمل أو أصدِّر الانتحار. أنا واقعي، وهذه غيرها العدمية»؛ ذلك رداً على سؤال يتعلّق بأوطاننا على حقيقتها، خارج النكران والوهم والقصيدة الرومانسية. وإن صوَّر شاباً يمازح أصدقاءه بتوجيه سلاحه نحوهم، فمن أجل القول إنّ ثمة حقائق يستحيل تجميلها. كتلك المتعلّقة بشعارات «الأمل» و«النهوض»، على بُعد أمتار من المرفأ المُفجَّر، أو «صفر خوف» في وجه الجرائم المتسلسلة. «صوّرتُ النقيضين: نعم، نحب الحياة، لكننا في بلد يقتل احتمال العيش».

«غداً موت آخر»، من جُمل الفيلم الموجِعة. يختلط ضحك زكريا جابر بلوعته، وهو يتحدّث عن وعيه على الحياة والكهرباء مقطوعة: «غداً موت آخر، في كل مرة ننظر إلى جواز السفر ونقيّمه بحجم المواقفة على منحنا تأشيرة. غداً موت آخر، حين أحببتُ الصحافة ولم أجد مكاني فيها...».

من هنا، يحتدم نقاش سلميّ في الظاهر، لكنه مُحمَّل بالأذى والإساءة، بين جيلين: جيل يحيى جابر الذي عاش الحرب، وجيل ابنه زكريا المُنهَك بتداعيات الانفجار والانهيار: «رغم الأزمات والطوابير، كان الخيار وارداً. جيل أبي اختار على الأقل موته! جيلي يلهث خلف تأمين يوميات العيش. المجاعة المبطّنة تسلبنا أنفاسنا الأخيرة».


مقالات ذات صلة

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم...

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)

عائلة بريطانية تريد شراء مزرعة للتنقيب عن جثة

أنفقت الشرطة 160 ألف جنيه إسترليني في إجراءات البحث (أ.ب)
أنفقت الشرطة 160 ألف جنيه إسترليني في إجراءات البحث (أ.ب)
TT

عائلة بريطانية تريد شراء مزرعة للتنقيب عن جثة

أنفقت الشرطة 160 ألف جنيه إسترليني في إجراءات البحث (أ.ب)
أنفقت الشرطة 160 ألف جنيه إسترليني في إجراءات البحث (أ.ب)

تسعى عائلة امرأة اختُطفت وقُتلت في مزرعة، إلى شراء الأرض للتنقيب عن جثتها بعد 55 عاماً من مقتلها.

يُذكر أنه لم يجرِ العثور على جثة موريال ماكاي منذ مقتلها عام 1969 في مزرعة ستوكينغ، بالقرب من منطقة بيشوبس ستورتفورد، في هيرتفوردشاير، وفق «بي بي سي» البريطانية.

وأنفقت شرطة العاصمة 160 ألف جنيه إسترليني في إجراءات البحث، التي استمرت لمدة ثمانية أيام في الموقع، خلال يوليو (تموز) الماضي، لكن الجهود لم تسفر عن شيء، في النهاية.

وقال مارك داير، وهو حفيد السيدة ماكاي، إنه مستعد لدفع أكثر من مليون جنيه إسترليني لشراء ما وصفه بأنه «أكثر مكان شرير على وجه الأرض».

واعترف داير بأن ذلك سيكون «أمراً صعباً» من الناحية العاطفية، لكنه قال إنه قد يكون ضرورياً للوصول إلى نهاية القصة.

وجَرَت عمليات التنقيب، في يوليو، بعد أن قدّم آخِر القتلة الباقين على قيد الحياة، والذي يعيش الآن في ترينيداد، معلومات عن مكان دفن السيدة ماكاي المزعوم، غير أن السلطات لم تسمح لنظام الدين حسين بالعودة إلى المملكة المتحدة، للمساعدة في عملية البحث، وهو ما عدَّته عائلة الضحية يشكل عائقاً أمام جهود البحث.

وفي تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، قال إيان ماكاي، ابن الضحية: «يعتمد كل ذلك على رغبة مالك المزرعة في البيع»، مضيفاً أن «شراء مزرعة روكس فارم سيكون استجابة عاطفية تسمح للعائلة بالمساعدة في البحث بشكل صحيح، على أمل الوصول إلى الجثة، وإنهاء القصة».

وجرى الاتصال بأصحاب المزرعة، للتعليق.

وقال داير إنه إذا اشترت عائلته المزرعة في المستقبل، فإن الملكية ستكون «انتقالية» فقط، موضحاً أنهم سيشترونه، وسيستأجرون متخصصين لإجراء تنقيب عن جثة السيدة ماكاي، ثم يقومون ببيع المزرعة مرة أخرى. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1970، حُكم على نظام الدين وشقيقه آرثر حسين بالسجن المؤبد؛ للاختطاف واحتجاز السيدة ماكاي، التي كانت تبلغ من العمر 55 عاماً آنذاك، مقابل الحصول على فدية بقيمة مليون جنيه إسترليني، قبل قتلها.

وكانت ماكاي قد تعرضت للاختطاف بالخطأ، في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1969، حيث اعتقد الشقيقان أنها زوجة رجل الأعمال الكبير، وقطب الإعلام روبرت مردوخ.

وفي وقت سابق من هذا العام، سافر ابن الضحية إلى ترينيداد برفقة شقيقته ديان، وأوضح لهم نظام الدين حينها خريطة المكان الذي دُفن فيه جثة والدتهما.