تلتقي الأغنية الجديدة لجوانا ملاح، في عنوانها «أصعب قرار»، مع سياق حياة شكّلته مفارق ورسمت مساره الوعورة. كأنها بهذا الغناء ولوعة عنوانه، تحيل النفس على احتفال مُستَحق بعد المواجهة الشجاعة والتخطّي الباهظ. كتب سليم سلامة ولحَّن أغنية يلفحها العتب لكنها تنتصر للنجاة (إخراج الفيديو كليب أدونيس الخطيب). بعض القرارات شاق، يعتصر الأفئدة؛ إلى أن يمرّ وقتٌ فيدرك المرء عظمة المنعطفات في بلوغ صواب الوُجهة.
حديثها مع «الشرق الأوسط» ذريعته أغنيتها الجديدة، وحقيقته رغبة في محاورة فنانة تسكن الذاكرة منذ تسعينات القرن الماضي. هي من أسماء لمعت حين كان اللمعان عناء، وتركت وَقْعاً قبل أن يتشابه الوَقْع ويتكرر ردّ الفعل حيال الإشكاليات الفنية. منذ أن غنّت «شيناناي» (1997) فـ«عليك عيني» (2001)، وقبلهما، وهذه الفنانة اللبنانية الحائزة ميدالية ذهبية في «استوديو الفن» عن فئة الأغنية الفولكلورية وهي في سنّ التاسعة عشرة، تُعلِّم وتبقى. غيابها القسري أخفق في إلحاقها بالمنسيين خارج الأضواء.
يستوقفها سؤال عن نظرتها إلى حياتها بعد المِحن، وعلاقتها بالقرارات الحاسمة ومدى تحمّلها التبعات. هل العودة أصعب من الابتعاد وسط تحولات الزمن وسُبل استمالة الجمهور؟ تجيب: «القرارات المصيرية جزء من رحلة الإنسان على الأرض. تعلّمتُ أنّ الحياة بأسرها عبارة عن مفترق طرق، وثمة قرارات قد لا تخضع للتفكير المسبق. نتّخذها فحسب، تحت وطأة الظرف. فكيف إن تعلّق الأمر بالصحة؟ حينها لا مفرّ من مواجهة الصعب».
«أحياناً أُفاجَأ بأنّ أرشيفي لا يزال حياً. هنا سعادتي. حتى الآن أجدني هاوية بشكل محترف. لم أُصَب بغرور أو ادّعاء، ومفهومي للنجومية لم يتغيّر. هي هدية من الله، ونعمة أن يُغمَر الفنان بحب الناس»
الفنانة اللبنانية جوانا ملاح
مؤلم انسلاخ الفنان عن فنه وناسه والحب المُنهمر. تقرّ بهذا الألم، وهي تتجنّب الإبحار في حديث يوقظ الحزن. ماذا يتغيّر بين ذورة النجاح وسنوات الصمت؟ كيف أقدمتِ على الأضواء مجدداً بعد هجرها؟ كم يكلّف التنزّه بين المصائر؟ تردّ: «شعرتُ بمسؤولية كبرى وأنا أعود في 2020 بعد سنوات من الغياب. إنني ممَن يسلّمون خطاهم إلى الله. لم أخف يوماً من العودة ومن درب اخترته منذ سنّ السابعة. شعرتُ بالجمهور يناديني مرة أخرى، وحين استجبتُ لندائه كنتُ على ثقة بأنه لن يخذلني. هو قوّتي ومعجزتي. الفنان من دون ناس عمارة بلا أرضية. ابتعادي جعل أيامي باردة. لو استمرّ طويلاً لكنتُ حقاً أمام (أصعب خيار). بإمكان العوض أن يحلّ دائماً».
تترك لإحساسها مَهمّة اختيار أغنياتها. تشدّها الكلمة، فاللحن والتوزيع والفكرة التي تريدها مختلفة. وهي ترفع سقف التحدّي بخوضه فقط مع نفسها، عوض المقارنات والانشغال بالآخرين. تُكمل: «أكترثُ لصقل النفس مع الحرص على عدم التفريط بالأصول وما تربّيتُ عليه. حتى الآن، أظنني أنجح».
القلق عند جوانا ملاح يتعلّق بحجم المسؤولية. تكبُر، فيزداد. عدم الرضا بالقليل يحرّض على تكثيف المحاولات، لذلك لا ترضى وتواصل السعي. تثق بمَن تتعاون معهم، وتلتقي والفريق على هدف: «علينا أن نقدّم للجمهور ما يستحقه». برأيها، «لا بدّ أن يُرفَق الزرع بالحصاد ويولّد التعبُ بهجة النتيجة».
تتفادى حديثاً يتناول رخاوة بعض المشهد الفني؛ وبعناية، تختار كلماتها: «لكل فنان ناسه ومَن يشجّع ويُعجَب بما يُقدِّم. لستُ خائفة على مستقبل الغناء اللائق. فالفن سيبقى في أوجه من خلال فنانين حقيقيين يحافظون على الأمانة. العيش من دون موسيقى حرة وفن شفاف يحوّل الحياة جحيماً في كل العصور». تصمت، معلنة الاكتفاء بهذا الجواب في انتظار السؤال المقبل.
تطمئن لذكريات جميلة سكبها فنها في الأذهان: «أحياناً أُفاجَأ بأنّ أرشيفي لا يزال حياً. هنا سعادتي. حتى الآن أجدني هاوية بشكل محترف. لم أُصَب بغرور أو ادّعاء، ومفهومي للنجومية لم يتغيّر. هي هدية من الله، ونعمة أن يُغمَر الفنان بحب الناس. كنتُ حزينة طوال سنوات، فشعرتُ بأنني أفتقدُ كلّي، لا بعضي. ليس للهفة بالشهرة وإغراءاتها، بل لافتقادي الفرح في عيون مَن يريدونني أن أغنّي وأنجح. كان البعد قاتلاً».
التحضيرات مستمرة لتجدّد حضورها بمزيد من الأغنيات، فحياتها اليوم أشبه بورشة تزدحم بالأفكار. تتطلّع إلى الأصداء لتشعر بالسكينة، رغم إدراكها بأنّ الرضا التام محال. نعمتها الكبرى: «الإحاطة، فأنظر حولي لأجد الأحبة». لا تستهين بمصادفات تفتح الأبواب أمام الفنانين، لكنها وحدها غير كافية: «أؤمن بالموهبة والذكاء والدراسة والخبرة. الفنان عناصر، أهمها أن يكون من الداخل، من الأعماق، فناناً حقيقياً».