كاظم الساهر سحر ليل بيروت... وبلغ بعشاقه الذروات

حضور عراقي لافت... ورحمة رياض شاركته الشجن

كاظم الساهر يسحر ليل بيروت بأروع الأغنيات (الجهة المنظمة)
كاظم الساهر يسحر ليل بيروت بأروع الأغنيات (الجهة المنظمة)
TT

كاظم الساهر سحر ليل بيروت... وبلغ بعشاقه الذروات

كاظم الساهر يسحر ليل بيروت بأروع الأغنيات (الجهة المنظمة)
كاظم الساهر يسحر ليل بيروت بأروع الأغنيات (الجهة المنظمة)

يُصاب العائد من حفل كاظم الساهر بالخفّة والشعور البديع بالتحليق. كأن تتحوّل القدمان جناحين، وعوض التشبّث بالأرض لإكمال المسير، ترتفعان بالمرء إلى فوق، ليضاهي بوجوده النسائم وبمكانته الغيم.

ليل الاثنين، غنّى حدّ الانتشال من الواقع. بين الحضور الكثيف. عشاقه العراقيون الأوفياء أتوا بعَلَم بلادهم والحاجة الإنسانية لاقتناص لحظات تمتهن التَوَهان، فيمضي أبناء الأوطان الجريحة عمراً في مطاردتها. شهد حفل «القيصر» في «الفوروم دو بيروت» على الإمساك بالـ«Moment» وهي تجيد الهروب ونلهث للحاق بها وسط زحمة الأيام.

كاظم الساهر أمام جمهور لا يملّ من مشاهدته (الجهة المنظمة)

وقف أحبّته لاستقباله، مصوّبين هواتفهم استعداداً لدخوله. مثل بداية أغنية «عيد العشاق» التي افتتح بها السهرة، هي خلاصة الحفل. «رائع رائع رائع»، هكذا تقول كلماتها، وهكذا شعر الحاضرون. ومن عادات «القيصر» تأجيج الأمنيات وإنْ بُلِّلت بالحسرة. تسهل قراءة العيون وفك لغز التنهيدة؛ ولعلّ نساء تمنّين لو يلبسن فستاناً من الورد، فيهيم بهنّ رجلهنّ «من رأسها حتى الأصابع». موقظُ مواجع، كاظم الساهر. أمامه، تتبارى الرغبات في معاندة الواقع. فإنْ هو ولّاد خيبة، جرّته إلى الانصياع للمُحتَمل والمُتاح. «يا مساء الورد يا عصفورتي»، القلب يلوّح للورود والنجمات وقرص السكر. «رائع رائع».

يفرد مساحة من أمسية امتدّت لنحو ساعتين، فتفترشها الأغنية العراقية. يا لوفاء أهل العراق لـ«القيصر»! أينما يغنّي، يملأون المقاعد. ولعلّ متعهّد الحفل، صاحب الشركة المنظّمة «Double8production»، ميشال الحايك، سُرَّ لرؤيتهم في كل اتجاه وملامح السعادة طاغية. اطمأن إلى أنه يؤدي دوره حيال سمعة لبنان وإنجاح موسمه السياحي. أهداهم فنانهم «تتبغدد علينا» و«عبرت الشط على مودك» و«ما ريدك بعد روح» ورائعة كل تراث، «عيد وحب». تشابكت الأيدي لتنتظم حلقة الدبكة، فرفع عراقيون أقدامهم وخبطوها، مع التمايُل الواحد. «مرّوا عليَّ وفاتوا وحدي بلا خل/ اتنين اتنين الحبايب يا غايب طل».

رحمة رياض شاركت كاظم الساهر أغنية على المسرح (الجهة المنظمة)

في الصف الأمامي، جلست رحمة رياض. حين تلفّظ باسمها، علا التصفيق. «أنتِ من الأصوات الرائعة»، يدعم على الملأ. الكبر ليس تراكم السنوات، بل اتّساع القلب. والواثق بالمكانة، لا يخشى امتلاك الآخرين حيّزهم. طفت رجفة على الفنانة العراقية، وهي تعتلي المسرح لتشاركه «سلّمتك بيد الله». لُفح صوتها بالرهبة، بينما تعلن أنها من معجبي «القيصر». تلاقى الشجن العراقي على ضفاف الأغنية: «يا خسارة تعبي وياك/ ما تستاهل أنا أهواك»، أدّياها بجرح الإخفاق العاطفي. «يا ريت ما شفتك/ وش جابك عليَّ»؛ قسوة الندم.

يعلو الهتاف غير مبالٍ ببحّة الحنجرة: «ليلى»، «المستبدة»، «هل عندكِ شك»... الروائع تطول. أحدهم طلب «زيديني عشقاً» ورغب في مزيد وهو يعانق امرأته، فأضاف: «أحبكِ جداً». لم تتحقق الأمنيتان. قليلة الأصوات التي بلغته. المكان شاسع وصاخب. لذا علَّق: «لا أرى سوى إشارات اليد وشفاه تُتمتم! ماذا تقولون؟». بعضٌ فقد الأمل بأن يُسمع نداؤه، لكنه ظلّ يحاول.

لم تفته المعايدة بالأضحى وأمنيته بألا تفارق الضحكة الوجوه. «Love you»، هتفت شابة، فملأ صوتها مَن حولها، متعذّرة ذبذباته بلوغَ المعني باعتراف الحب. أطرب بـ«مو طبيعي»، ومن خلالها حاكى ألم كاتبها كريم العراقي. أخبر عن أزمته الصحية وسأل الشفاء له. رفيق نجاحاته، يعاني «ما لا أتمناه لعدوّ»، فكان التصفيق الحار مواساة.

كل الآلات تمسّ شيئاً في المرء، لكن قيثارة العراقيين تُمعن في الحفر. الأوركسترا تتلاعب بالموسيقى، بعذوبة اتكاء الندى على بتلات الجوري. لا شيء بمرتبة «أنا وليلى» وعظمتها على المسرح. يغنّي الجماليات، لكنها فرادة خاصة. «ما ملّيتوا من ليلى؟»، يمازح. الصرخات تحمل النفي التام. ثم يحل صمت مهيب. الجميع يترقب البداية البديعة: «ماتت بمحراب عينيكِ ابتهالاتي»، لتتصاعد الآهات ببلوغ الذروة الأولى: «ممزّق أنا لا جاه ولا ترف/ يغريكِ فيّ فخليني لآهاتي... لو تعصرين سنين العمر أكملها/ لسال منها نزيف من جراحاتي»، فروعة الذروات: «وأنتِ أيضاً/ ألا تبّت يداكِ إذا أثرتِ قتليَ واستعذبتِ أنّاتي». غنّاها كمن يشفي أوجاعه.

لم يستسلم الأحبة لصعوبة بلوغه نداءاتهم. بجانبي مجموعة انتدبت «قائداً» أطلق العد العكسي: «3،2،1... (المستبدةةةة)». صرخة جماعية لم تكترث بتعب الحناجر إثر بذل الجهد. قدر المحاولات أن تثمر، فاستجاب. صمتٌ آخر، بانتظار هذه الروعة: «قالت لكل الأصدقاء، هذا الذي ما حرّكته أميرة بين النساء». لم تبقَ امرأة ممن راقبتهنّ، إلا وأخرجت «المستبدة» الصغيرة من أحشائها. كل الشفاه أسيرة انخطاف واحد: «سيستدير كخاتمٍ في إصبعي... ويشبّ ناراً لو رأى شخصاً معي». رفع بهذه المبارزة اللئيمة عشاقها إلى مرتبة الغبطة.

كاظم الساهر غنى قصائده وسط تفاعل جماهيري هائل (الجهة المنظمة)

لاستمرَّ الحفل حتى الفجر لو شاء كاظم الساهر غناء كل الدهشات. مثل فنان الباقة، ينتقي ورداً يتدفّق عطره، فيغمر. غنّى «هي الحياة هكذا»، بكلماتها العميقة حيال الطبع والمكر ومقاومة الضعف... و«كم من قتيل في الهوى قبَّل كفّي مَن قَتَل». وغنّى «أكرهها» واشتهاء الوصل، و«مدرسة الحب»، معلناً عظمة الحقيقة الكونية: «أنّ الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان». أداء الكبار.

ليت الوقت الجميل لا يُحال على النهايات، لكنها الدنيا. «كلك على بعضك حلو»، تصلح أيضاً لما يُحسب من العمر. «أحبيني» فريدة في مستواها. محظوظة امرأة تتلقّى هذا الاعتراف: «أنا رجل بلا قدر فكوني أنتِ لي قدري». و«هل عندك شك»، جمال الختام. «قاتلتي ترقص حافية القدمين بمدخل شرياني»، بتساؤلاتها العصية على الفهم: «من أين أتيتِ وكيف أتيتِ وكيف عصفتِ بوجداني». ساحر!



«مخبأ» و«حكايات سميرة»... قصص حياة على الخشبة

المخرج شادي الهبر (شادي الهبر)
المخرج شادي الهبر (شادي الهبر)
TT

«مخبأ» و«حكايات سميرة»... قصص حياة على الخشبة

المخرج شادي الهبر (شادي الهبر)
المخرج شادي الهبر (شادي الهبر)

كان من المقرر أن يحتفل «مسرح شغل بيت» بذكرى تأسيسه الثامنة في سبتمبر (أيلول) الماضي، بيد أن اندلاع الحرب في لبنان حال دون إقامة الحفل، فأُلغيت البرمجة التي كانت مقررة حتى إشعار آخر.

ممثلون هواة تابعون لـ«مسرح شغل بيت» (شادي الهبر)

اليوم يستعيد «مسرح شغل بيت» نشاطاته الثقافية ويستهلها بمسرحيتي «مخبأ» و«حكايات سميرة». ويعلّق مخرجهما شادي الهبر لـ«الشرق الأوسط»: «كانتا من ضمن نشاطات روزنامة الاحتفال بسنتنا الثامنة، فقررنا نقلهما إلى الشهر الحالي، ونعرضهما على التوالي في (مسرح مونو) خلال 16 و17 و18 و19 يناير (كانون الثاني) الحالي». لكل مسرحية عرضان فقط، تشارك فيهما مواهب تمثيلية جديدة متخرّجة من ورش عمل ينظمها «مسرح شغل بيت». ويوضح الهبر: «الهدف من هاتين المسرحيتين هو إعطاء الفرص لطلابنا. فهم يتابعون ورش عمل على مدى سنتين متتاليتين. ومن هذا المُنطلق كتب هؤلاء نص العملين من خلال تجارب حياة عاشوها. وما سنراه في المسرحيتين هو نتاج كل ما تعلّموه في تلك الورش».

* «مخبأ»: البوح متاح للرجال والنساء

تُعدّ المسرحية مساحة آمنة اختارتها مجموعة من النساء والرجال للبوح بمكنوناتهم. فلجأوا إلى مخبأ يتيح لهم التّعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بحرية. وفي هذا المكان الصغير بمساحته والواسع بأجوائه تجري أحداث العمل. ويشارك فيه 4 نساء و4 رجال. وتتراوح أعمارهم ما بين 20 و65 عاماً. وقد كتب محتوى النص كل واحد منهم انطلاقاً من تجاربه الحياتية. ويعلّق شادي الهبر: «إنها تجارب تنبع من واقع يشبه في موضوعاته وظروفه ما عاشه ناس كثر. وقد طلبت من عيسى بيلون أحد الممثلين فيها أن يضع لها التوليفة المناسبة. وخرج بفكرة محورها المخبأ. فحملت المسرحية هذا الاسم للإشارة إلى مشاعر نخبئها في أعماقنا».

يشارك في هذا العمل إيرما مجدلاني وكريستين مطر ومحمد علي بيلوني وغيرهم. وتتناول موضوعات اجتماعية مختلفة، من بينها ما يتعلّق بالعُقم والقلق والعمل بمهنة غير مرغوب بها. كما تطلّ على موضوع الحرب التي عاشها لبنان مؤخراً. فتحكي قصة شاب لبناني تعرّض منزله في الضاحية للقصف، فيقف أمام ما تبقّى منه ليتحدث عن ذكرياته.

مسرحية «مخبأ» تحكي عن مساحة أمان يتوق لها الناس (شادي الهبر)

ويتابع شادي الهبر: «تحمل المسرحية معاني كثيرة، لا سيما المتعلقة بما نخفيه عمّن هم حولنا، وأحياناً عن أنفسنا محاولين غضّ الطّرف عن مشاعر ومواقف تؤلمنا. فتكشف عن أحداث مرّ بها كلٌّ من الممثلين الثمانية، وتكون بمثابة أسرار يبوحون بها لأول مرة في هذا المكان (المخبأ). ويأتي المسرح كجلسة علاج تداوي الجراح وتبلسمها».

* «حكايات سميرة»: علاقات اجتماعية تحت المجهر

في المسرحية التي تُعرض خلال 18 و19 يناير على «خشبة مونو»، يلتقي الحضور بالممثلة لين جمّال بطلتها الرئيسة. فهي تملك كمية هائلة من القصص التي تحدث في منزلها. فتدعو الحضور بصورة غير مباشرة لمعايشتها بدورهم. وتُدخلهم إلى أفكارها الدفينة في عقلها الذي يعجّ بزحمة قصصٍ اختبرتها.

ويشارك في «حكايات سميرة» مجموعة كبيرة من الممثلين ليجسّدوا بطولة حكايات سميرة الخيالية. ومن الموضوعات التي تتناولها المسرحية سنّ الأربعين والصراعات التي يعيشها صاحبها. وكذلك تحكي عن علاقات الحماة والكنّة والعروس الشابة. فتفتح باب التحدث عن موروثات وتقاليد تتقيّد بها النساء. كما يطرح العمل قضية التحرّش عند الرجال ومدى تأثيره على شخصيتهم.

مسرحية «حكايات سميرة» عن العلاقات الاجتماعية (شادي الهبر)

مجموعة قصص صغيرة تلوّن المسرحيتين لتشكّل الحبكة الأساسية للنص المُتّبع فيها. ويشير الهبر إلى أنه اختار هذا الأسلوب كونه ينبع من بنية «مسرح شغل بيت».

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «مسرحنا قائم على المختبر التمثيلي والتجارب فيه. وأردت أن أعطي الفرصة لأكبر عددٍ ممكن من متابعي ورش العمل فيه. فبذلك يختبرون العمل المسرحي ويُبرزون مواهب حرفية يتحلّون بها. وما حضّني على اتباع الأسلوب القصصي هو اتّسام قصصهم بخبراتهم الشخصية. فيضعونها تحت الضوء ضمن تجربة مسرحية جديدة من نوعها. فأنا من المخرجين المسرحيين الباحثين باستمرار عن التّجدد على الخشبة. لا أخاف الإخفاق فيه لأني أُخزّن الخبرة من أي نتيجة أحصدها».

ويوضح شادي الهبر أنه انطلاقاً من موقعه مُخرجاً يرمي إلى تطوير أي عمل مكتوب يتلقاه من طلّابه. «أطّلع عليه لأهندسه على طريقتي، فأبتعد عن السطحية. كما أرنو من خلال هذا التّطوير لجذب أكبر عدد ممكن من المجتمع اللبناني على اختلاف مشاربه». ويتابع: «وكلما استطعت تمكين هؤلاء الطلاب ووضعهم على الخط المسرحي المطلوب، شعرت بفرح الإضافة إلى خبراتهم».

ويختم الهبر حديثه مشجعاً أيّ هاوي مسرح على ارتياد ورش عمل «مسرح شغل بيت»، «إنها تزوده بخبرة العمل المسرحي، وبفُرص الوقوف على الخشبة، لأنني أتمسك بكل موهبة أكتشفها».