«جلسة سمع» تجربة فريدة من نوعها في عالم الموسيقى العربية

يقال أن أقدم مرجع ذكر الموسيقى العربية يعود إلى نقش من القرن السابع قبل الميلاد، ويخص الملك آشوربانيبال. وبحسب النقش، فهو يشير إلى أن الأسرى العرب كانوا يقضون وقتهم بالغناء والموسيقى. فالملك الآشوري آشوربانيبال وصحبته استمتعوا بغناء وموسيقى يؤديها هؤلاء الأسرى، فأعجب بها جمهور عريض وراح يطالب بالمزيد.

هذه القصة نقطة من بحر عالم بدايات الموسيقى العربية التي غاص فيها كمال قصار. شغفه بتاريخ الموسيقى دفعه إلى تأسيس مؤسسة «أمار» (AMAR)، فأطلقها في عام 2009 وهدفها الإسهام في حفظ التقاليد الموسيقية الحية والقديمة في العالم العربي. وبعد أن قام برحلة تجميع طويلة لتسجيلات صوتية خاصة، استطاع أن يؤلف أرشيفاً موسيقياً غنياً. وتتألف مجموعته من أسطوانات حجرية وشرائط (ريلز) وتسجيلات على وسائط متعددة، وتحكي بغالبيتها عن فترة عصر النهضة، أي منذ بدايات تقنية التسجيل في عام 1903. وتشمل كل تلك المرحلة لغاية الثلاثينات من القرن العشرين. وفي الاستوديو الذي بناه خصيصاً في بلدة القرنة الحمرا المتنية، يمكن لزائر المؤسسة أن يطلع على هذا الأرشيف.

وفي مناسبة يوم الأرشيف العالمي الذي يصادف 9 يونيو (حزيران) الحالي تنظم مؤسسة «أمار» للتوثيق والبحث في الموسيقى العربية «جلسة سمع». وهي تجري على مرحلتين: فتبدأ من صباح السبت 10 يونيو لغاية الظهر، ولتكمل مجرياتها في فترة بعد الظهر من اليوم نفسه.

ويوضح دكتور ريمون أفرام، أحد أعضاء هيئة مؤسسة «أمار»، في حديث لـ«الشرق الأوسط» بأنه تم اتباع مرحلتين من هذه الجلسة كي يستطيع أكبر عدد من الناس تلبية هذه الدعوة المجانية. فيختارون الوقت الذي يناسبهم كي يتعرفوا من كثب إلى إث موسيقي عريق. ويؤكد أفرام بأن هذا التراث الذي يضعه بين أيادي وآذان مَن يهوون الموسيقى العربية يتضمن 9000 تسجيل ويشكل 70 في المائة من مجمل هذا النتاج الأصيل.

ومن أنواع الموسيقى المتوفرة في هذه الجلسة تلك التي تعود إلى بلاد الشام في لبنان وسوريا وفلسطين، إضافة إلى غيرها من مصر. ويروي لـ«الشرق الأوسط»: «كانت شركات إنتاج الموسيقى في الماضي كـ(غرامافون) و(أوديون) و(باتيه) وغيرها يرفقون مع إنتاجاتهم الموسيقية على ديسك من الإسفلت كتيبات صغيرة. فكانت بمثابة دليل للموسيقى المسموعة. تطورت فيما بعد هذه التقنيات لتنتقل على الـ«سي دي»، ومن بعدها صرنا ننقلها على «يو إس بي». وحالياً نضعها بمتناول الناس في الاستوديو خاصتنا في مقر المؤسسة في القرنة الحمرا في منطقة المتن». ويتابع أفرام: «حاولنا جمع أكبر عدد من مقطوعات موسيقية وغنائية قديمة. وبينها ما هو محبب للسمع والعكس كوننا اعتدنا على نمط موسيقي غنائي متطور منذ أيام الراحلين محمد عبد الوهاب وأم كلثوم. فشكلا شجرتين ضخمتين غطتا على ما قبلهما. ولكننا جئنا نكشف عما قبل هذه الفترة والتي هي بمثابة غابة كثيفة من الموسيقى. وتكمن أهميتها بحفظ تراثها من ناحية والاستمرارية للتواصل بين الثقافات من ناحية ثانية».

في «جلسة سمع» ستحضر مقطوعات لعبد العزيز عناني من مصر وعبد الحي حلمي من البلد نفسه. وكان هذا الأخير من أوائل مشاهير المطربين الذين أقاموا حفلات عامة يحضرها الناس. ويمكن لهواة هذا النوع من الموسيقى التعرف إلى محيي الدين بعيون من لبنان. فهو اشتهر بغناء الموشحات والمواويل وإلقاء القصائد الشعرية. وكان عازفاً بارعاً على آلتي العود والبزق، واشتهر بالغناء البلدي من اللون الإبراهيمي والشرقاوي والمصري والبغدادي. وكذلك ستتاح لهواة هذا الفن سماع موسيقى السوري سامي الشوا أحد أبرز عازفي الكمان في أوئل القرن العشرين.

سامي الشوا من الفنانين الحاضر أرشيفهم في «جلسة سمع» (مؤسسة أمار)

وكانت المؤسسة «أمار» قد دعيت إلى متاحف عالمية لعرض أرشيفها، ومن بينها «هومبولت» في ألمانيا و«ميسيم» في فرنسا.

وتخصص مؤسسة «أمار» على صفحتها الإلكترونية أكثر من 220 بودكاست يتم خلالها التعريف عن مراحل مختلفة من الموسيقى العربية القديمة. وتحمل عناوين عدة، بينها «زكريا أحمد» و«الأغنية الشعبية في لبنان» و«العوالم» و«دروب النغم» وغيرها. وأطلقت على هذه المجموعة من التسجيلات اسم «روضة البلابل».

ويتابع دكتور أفرام لـ«الشرق الأوسط»: «هناك أيضاً أغانٍ نعرفها اليوم بنسخة جديدة كـ(يا ظريف الطول) و(يا نور حبك) وغيرها. فهي تنتمي إلى الموسيقى العربية القديمة والتي جرى تطويرها مع الوقت. ولعب الرحابنة دوراً كبيراً في هذا الإطار إذ استعانوا بهذه الأغنيات كلفتة منهم إلى تراث موسيقي عربي قديم. فجددوها كما فعلوا تماماً بأغنية (يا مسوسح القبطان والبحرية)، فكانوا يعدلون بهذه الموسيقى القديمة ويضفون عليها نكهتهم الرحبانية الخاصة».

وكذلك جرى تطوير بعض النصوص لأبي نواس مثلاً، فجرى غناؤها بأسلوب مختلف تماماً كما في أغنية فيروز «حامل الهوى تعِب»، فتمت تأديتها بأسلوب كل فنان على طريقته.

تجري «جلسة سمع» على مرحلتين

بعض التسجيلات المتاح سماعها في «جلسة سمع» تلفت سامعها بعدد الآلات الموسيقية القليلة المستخدمة فيها. وبعضها الآخر لا يتمتع بجودة تسجيل عالية فتأخذ سامعها مباشرة إلى زمن الفونوغراف. ويضيف دكتور أفرام: «لم تكن آلات الموسيقى رائجة في ذلك العصر وكانت تقتصر على (الربابة) ونقر خفيف على آلة العود وجرعات نادرة من عزف الكمان».

وبرأي طبيب الأسنان ريمون أفرام الشغوف بعالم الموسيقى، أن هذا الأرشيف الذي يحتفظ به، يشكل الحلقة الوازنة والأهم في بزوغ الأغنية العربية. ويختم «علينا أن نحافظ على هذا الإرث قبل أن يندثر ويصبح مجرد ذكرى من الماضي».