يوقف سيارة أجرة ويخبر السائق أن محفظته سُرقت. إذا وافق على إيصاله مجاناً، يفاجئه بمبلغ أكبر بكثير من التعرِفة الرسمية. ثم يشكره ويترجّل بعد أن يطلب منه إيصال مزيد من الركّاب من دون مقابل.
وفي فيديو آخر، يسأل عجوزاً أن يكف عن البحث في مستوعبات النفايات عن طعام، ويصطحبه إلى أقرب مطعم حيث يقدّم له وجبات غداء على مدى شهر مقابل أن يرمي ما في عربته من أكلٍ جمعَه من القمامة.
ولصاحبة الدكّان التي كاد أن يفرغ متجرها من البضاعة حصّتُها كذلك، إذ يدخل ويشتري منها بسعرٍ أعلى كل ما هو معروض على الرفوف، ثم يملأ المكان ببضاعة جديدة.
فاعل خير مجهول الهويّة
يصوّر مغامراته تلك وينشرها على صفحة تحمل اسم «The World Sucks»، بعد أن يأخذ موافقة أصحاب الشأن أو «أبطال الفيديوهات»، كما يسمّيهم. أما هو فلا يكشف اسمه ولا وجهه؛ «أفعل ذلك من أجل غيري، لا كي أصير نجماً ولا لأغيّر حياتي»، يخبر «الشرق الأوسط». يقتصر تعريفه عن نفسه بأنه «لبنانيّ متحرّر من القيود الطائفية والحزبيّة».
هذه الصفحة التي تزامن انتشارها مع جائحة «كورونا» والانهيار الاقتصادي في لبنان، سرقت قلوب اللبنانيين الذين تهافتوا للمساعدة، مقيمين كانوا أو مغتربين.
يوم قرر مؤسس «The World Sucks» (العالم مقرف) إطلاقَ مشروعه، كان بمفرده؛ ينزل إلى الشارع ويساعد من جَيبه في ما يشبه هوايةً غير تقليديّة. «بعد أن نجحتُ في عملي الخاص، قطعت وعداً على نفسي بأن أساعد الآخرين»، يقول. صعقَه مشهد رجل عجوز يسحب كيس خبز من مستوعب النفايات، وثّق اللحظة لنشر الوعي إلى أن الأوضاع ليست بخير، لذلك وَجُب الإسراع إلى فعل الخير.
لبّى الناس النداء سريعاً وبدأوا بإرسال التبرّعات. لكن لم ترتفع المبالغ المُرسَلة شهرياً من 500 إلى 2500 دولار، إلا بعد أن انتشر فيديو «بائع الفول» حاصداً مئات آلاف المشاهدات على «إنستغرام» و«فيسبوك»، ومعها الدموع والابتسامات العريضة. حكاية ذاك العجوز الذي يجرّ عربته الثقيلة وسط السيارات تحت سماء بيروت الغائمة، ذاهباً إلى منزله قبل المطر وحظر التجوال الذي فرضته الجائحة، صنعت الفرق. اشترى منه ما على العربة من فول مقابل «غلّة» 10 أيام، وطلب منه تقديم الوجبات المتبقية مجاناً للمارّة.
خير مقابل خير
كان من الممكن أن يبقى فعل الخير سرياً، وأن لا تعلم اليدُ اليسرى بما أعطت اليمنى، لكنّ صاحب المشروع تعمّد النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، كي تتّسع حلقة الخير، ويتعرّف المتابعون إلى طريقة مرِحة وإيجابية للعطاء. يصرّ على أنه وزملاءه في المجموعة لا يعطون مجاناً، فهم في غالب الأحيان يطلبون من الشخص الذي حصل على المساعدة المالية أن يقدّم خدمةً في المقابل. يوضح قائلاً: «على سبيل المثال، صاحب المطعم الذي نشتري منه كمية كبيرة من الوجبات، نطلب منه أن يُطعم عدداً من الزبائن مجاناً. نفعل ذلك أولاً كي لا يشعر مَن نعطيه بأنّ الأمر صدَقة أو شفقة، وثانياً لأن الحياة أخذ وعطاء».
عندما ينزل فريق «The World Sucks» الصغير ومتطوّعوه إلى الشارع، يشعرون وكأنهم يدخلون مختبراً إنسانياً واجتماعياً. وقد استنتجوا بعد 4 سنوات من النشاط المتواصل، أن أكثر من 90 بالمائة من اللبنانيين يحبّون فعل الخير، وأنّ الإنسانية ما زالت حيّة رغم الظروف التي تُثقل قلوب المواطنين وتخفّف جيوبهم. ولِفَرط ما كان لتجربة الجمعية وقعٌ وأثرٌ، امتدّ النشاط إلى سوريا والأردن مع متطوّعين من البلدَين المجاورَين.
عطاء خالٍ من الدراما
تحاول الجمعية فرض نمط جديد من العطاء العلنيّ، وهو عطاءٌ متحررٌ من الدراما والإذلال والحزن. لا تشبه تجربة «The World Sucks» البرامج التلفزيونية التي تَكثر في مواسم الأعياد. الضحكة أولويّة هنا، ومشاركة الفرح هي الأساس. يعلّق مؤسس الجمعية: «التخفيف من الدراما والبكاء قد يخسّرنا مشاهدات، لكننا لا نريد أن نخسّرَ الشخص كرامته من أجل أرقام السوشال ميديا».
بائع الكعك الجوّال الذي يقدّم كعكةً مجانيةً لفتاة تدّعي أنها جائعة ولا مال معها، لا يعرف أن الكاميرا تصوّره. وعندما يدرك الأمر بعد أن تمنحه مبلغاً غير متوقّع، لا يعارض نشر الفيديو. ومثلُه تفعل الغالبية التي ترغب بمشاركة سعادتها ومفاجأتها السارّة مع الآخرين، وفق ما يخبر المؤسس. ويضيف: «أريد للأشخاص الذين في الفيديو أن يشعروا بالفرح وليس بالذلّ. أما إذا حدث وبكَوا، فيكون ذلك من باب الارتياح أو السرور».
هو الذي استمدّ فرحاً عظيماً من فرحهم فجاء العطاء متبادَلاً، يصرّ على أنه يمحو التذمّر من الفيديوهات، وكل ما قد يبدو سلبياً أو مُذلاً أو مثيراً للشفقة.
فرحٌ لا يميّز بين الناس
لا يميّز المشروع بين جنسيةٍ وأخرى، بل يقارب الجميع في الشارع. كما أنه لا يحكم على المظاهر، ففرحُ العطاء من حق الكل، حتى وإن لم يكونوا أشخاصاً يبحثون عن الطعام وسط النفايات. وإذ يلفت المؤسس إلى أن «الأولويّة هي للمعوزين باستثناء المتسوّلين»، يشرح أن «الطبقة الوسطى هي في طليعة الأولويات كذلك، بما أنها أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية في لبنان».
لا تقبل الجمعية مساعدة فرديّة تتخطّى الـ1000 دولار شهرياً، وهي تجمع حالياً من خلال صفحة التبرّعات ما يقارب 3500 دولار في الشهر الواحد، تذهب كلها لـ«أبطال الفيديوهات».
يوم انطلقت الفكرة وكان ينزل صاحبها بمفرده إلى الشارع ليحوّلها إلى حقيقة، كان لا يغمض له جفن ثلاث ليالٍ متتالية لشدّة تأثّره بِما رأى وأنجز. أما حالياً، فيُبدي أسفَه لأن العادة غلبته وهو يفكّر جدياً في الابتعاد قليلاً وتسليم الدفّة للفريق. لكنه إن فعل، فهو يبتعد مطمئنّاً إلى أنّ العالم ليس مُقرفاً بقَدر ما اعتقدَ في البداية.