تجتذب المقاهي الشعبية، التشكيليين المصريين، باعتبارها من أهم الفضاءات التي تساعد على الالتقاء والتفاعل داخل الأحياء والمدن، وفي هذا الإطار يبرز المعرض الجديد للفنان عمر الفيومي، الذي يحتضنه غاليري «بيكاسو» في القاهرة، ويستمر حتى 24 مايو (آذار) الحالي
ارتبط الفيومي بالمقاهي منذ طفولته؛ حيث نشأ في حي قديم يزدحم بها، فكان يراقب وجوه الناس وتصرفاتهم وملامحهم متجاوزاً ذلك إلى دواخلهم، وكأنه يقرأ أفكارهم، وبمرور الوقت ازداد شغفه إلى حد أن والده عندما كان يصطحبه في زيارة الأهل أو التجول في الشوارع كان يلح عليه ليجلس على المقهى، إلا أنه كان يرفض إلى أن تمكن هو من تحقيق أمنيته خلال مراهقته.
وخلال حياته الفنية الغنية، عبّر عن ذلك كله من خلال ريشته وألوانه، فكان يستدعي مواقف وذكريات متنوعة من مخزونه البصري تدور حول المقاهي التي لطالما قدمها في معارضه، وفي هذا المعرض تبدو لوحاته وكأنها مجموعة من المشاهد المسرحية، قام فيها الفيومي بدور المخرج الذي يوزع الأدوار، ويحدد عدد ونوعية العناصر على اللوحة، ويبرز الحركة الأساسية في كل مشهد.
«برزت المقاهي الشعبية بقوة كفضاء للمواطن البسيط، الذي يسعى من خلالها للهروب من ضغط العمل والبيت، فحولها إلى محطة تنفيسية ما بين الالتزامات الأسرية والمهنية»، حسب تعبير الفيومي، الذي يضيف لـ«الشرق الأوسط»: «تمثّل المقاهي ساحة حيوية للقاء معارفه وأصدقائه لتبادل الحديث، أو قضاء مصلحة ما، ومن ثَمّ تتميز المقاهي في مصر بالطابع الاجتماعي الذي يعزز من الروابط بين الناس، علاوة على دورها الثقافي والأدبي في بعض الحقب التاريخية».
لكن على الرغم من نضج رؤيته واتساعها تجاه المقاهي المصرية لتشمل معاني وأبعاد عدة، فإنها لا تشكل المؤثر الوحيد على لوحاته الزيتية، فمثلما تأثر المضمون بتلك الرؤية، فإن ثمة مؤثرات أخرى سجلت حضورها في تقنية الأعمال؛ إذ طاردت ذكرياته الطفولية القديمة التي أشرنا إليها الأسلوب الفني للفيومي؛ فكأنما لا يزال طفلاً صغيراً يراقب رواد المقهى، ويتأملهم ومن ثم يعبر عنهم من خلال خطوط تلقائية متحررة من القواعد الكلاسيكية، مستخدماً بقعاً لونية تتخلل تكويناته وألوانه الهادئة، ويأتي ذلك تماهياً مع ميل الفنان للتعبير عن البسطاء ومخاطباً إياهم بأسلوب عفوي.
إلى هذا ينشغل الفيومي حتى بالكراسي الفارغة في المقهى، فتحتل مساحة بارزة وأحياناً يجعلها تتصدر اللوحة، وكأنه يسأل بعفوية عمن كان يشغلها، أو من سيأتي ليجلس عليها، داعياً المتلقي لأن يشاركه تساؤلاته، وأن ينسج من وحي خياله حوارات كانت تدور بين البشر عليها، لكنه يجسدها في الوقت نفسه مبعثرة غير منتظمة تشغل مساحة قاتمة، وكأنها بلا قيمة حقيقية من دون الناس؛ وذلك تأكيداً لاحتفائه بدفء المشاعر والعلاقات الاجتماعية التي تدشنها المقاهي.
لكن ليست الوجوه في المقهي وحدها هي من تطل علينا في أعماله التي تتعدى الأربعين بهذا المعرض، الذي جاء بعنوان «وجوه ومقاهي»، إذ نلتقي كذلك بمحاكاة لـ«بورتريهات الفيوم»، التي بدأ تعلقه بها منذ كان طالباً في كلية الفنون الجميلة: «كنت أزورها في المتحف المصري، وأنبهر بها وأتأملها، وأشعر أنها تحكي الكثير وتحمل دلالات مهمة حول الحضارة القديمة».
«وجوه الفيوم» هي مجموعة من اللوحات لشخصيات واقعية رسمت على توابيت مومياوات مصرية خلال العصر الروماني في مصر، وتوصف بأنها أقدم لوحات تجسد فن البورتريه في العالم.
ومن هنا تتضح العلاقة بين العنصرين من وجهة نظر الفنان، كما نتعرف على سبب جمعه بينهما في معرض واحد؛ فبعد تأمل طويل لهما نكتشف ما يربط بينهما من إنسانية وشخوص تحمل داخلها الكثير من المشاعر، وتختفي وراء صورتها الخارجية العديد من الرموز والدلالات.