جنون الشهرة، الفساد، الرشوة، الصحافة المتواطئة، الأحلام المسمومة التي تدفع إلى القتل، الأنانية، الانتقام، كلها تقدّم في قالب ساخر وموسيقي غنائي جاب العالم، قبل أن يصل إلى العالم العربي ملبنناً. ميوزيكال «شيكاغو» في «صالة السفراء» في «كازينو لبنان»، مساء الجمعة، أعاد الحاضرين إلى ما قبل الانهيار والوباء والانكسار.
الازدحام والإقبال الشديدان، حيث إن العروض الثلاثة للمسرحية الغنائية حجزت جميعها، يشيان بالعطش إلى الفرح، أو ربما أن «شيكاغو» صيتها سبقها، والإعلانات على وسائل التواصل فعلت فعلتها. المهم أن الجهد الكبير والاستثنائي الذي بذل لنقل «شيكاغو» من برودواي إلى لبنان، أتى أُكله من العرض الأول.
النص الملبنن خفيف الظل، فَكِه، مليء بالنكات، ورغم أن توليف الحوارات مع الموسيقى الآتية من برودواي ليس بديهياً، لكن روي الخوري وهو مخرج المسرحية أيضاً مع الممثل فؤاد يمين تمكنا من تقديم نص تناغم مع جو العمل دون أن يبدو غريباً عن المتفرج اللبناني. وكان الاختيار موفّقاً لأنتوني أدونيس ليكتب الأغنيات بالمحكية الدارجة، فجاءت طريفة تنطوي على عبارات مألوفة وظريفة، كما أغنية «كان بيستاهل» التي تروي فيها كل سجينة، حكاية قتلها لرجلها أو شريكها، ليأتي الرد من السجينات: «كان بيستاهل... كان بيستحق».
ما بين الجريمة والسخرية تدور أحداث المسرحية في عشرينات القرن الماضي، لكن القصة يمكن لها أن تحدث في أي زمن، وليس فقط في شيكاغو حيث يلتهب عالم الجريمة، بل في أي مكان آخر، بعد أن تشابهت ملامح الحياة، وتعقدت مساربها.
إنها قصة امرأتين، إحداهما هي سلمى فهمي تلعب دورها ميرفا قاضي، تعمل في ملهى ليلي قتلت زوجها ودخلت السجن، أما الثانية فهي نانسي نار تلعب دورها سنتيا كرم، قتلت عشيقها، وتدعي حملاً لنيل الاستعطاف وإثارة الصحافة، واستجلاب الصخب حول اسمها. كلتاهما مسكونة رغم السجن بحلم واحد، هو الشهرة، حتى بعد أن تدخلا السجن، ورغم الأحكام الكبيرة التي يمكن أن تنزل بهما، فهما مشغولتان بتذليل الصعاب أمام حلمهما الكبير الذي لا يقف في وجهه أي عائق. وهما تعملان كل ما في وسعهما لتحقيق هذا الحلم بالتنافس حيناً، وبالتعاون في نهاية الأمر. ونرى أنهما رغم شناعة ارتكاباتهما خرجتا إلى الحرية لتقدما لنا عرضاً مشتركاً، إيذاناً بانطلاقتهما الفنية. هكذا تمكنت المجرمتان، رغم فعلتيهما الشنعاء، من أن تفلتا من العقاب.
المسرحية تقدم رؤية نقدية للشهرة، وتغمز من قناة غياب العدالة. وهو عمل كتب في الأصل من وحي قصة حقيقية. لكن كما في أي عمل غنائي استعراضي، فإن القصة هي العمود الفقري الذي على أهميته تبقى وظيفته، السماح بتقديم أغنيات ورقصات، وحوارات مسلية، ومشهديات تفتن العين. فالحكاية هي المبرر المنطقي لإخراج فنون الفرجة إلى نور خشبة المسرح.
روي خوري كمخرج وكوريغراف وكاتب لم يكن له سوى هامش محدود للعب على النسخة الأصل، بسبب الشروط التي يتوجب عليه الالتزام بها، اتجاه شركة الإنتاج الأميركية، مع ذلك تمكن من تقديم عرض كان يصعب الإتيان بمثله قبل سنوات قليلة في لبنان، لصعوبة العثور على مؤدين رئيسيين يجيدون الغناء والرقص والتمثيل في وقت واحد، وفرقة رقص تستطيع أن تؤدي هذا النوع الغربي من اللوحات بكفاءة.
استطاعت سلمى (ميرفا قاضي) أن تظهر ليونة جسدية عالية وهي تغني وترقص، وكذلك نانسي نار (سنتيا كرم) التي بدت شديدة الحيوية، خفيفة الظل، محببة إلى الحضور، وقد فتنت وهي تعتلي السلم، وتقفز على الأدراج، وتقوم بحركات بهلوانية، في أداء غاية في الظرف.
كما تمكن فؤاد يمين من تقديم دور استعراضي لافت، جامعاً بين الجدية والفكاهة.
ولا شك في أن العمل على أكثر من جبهة، كان ثقيلاً على روي خوري الذي تمكن إلى جانب مهماته المتعددة في الكتابة الكوريغرافيا وتوليف اللوحات الراقصة الـ18، من أن يؤدي دور المحامي وائل حر، بحيث يدافع عن المرأتين الاثنتين معاً سلمى ونانسي، اللتين لا تكفّان عن المزاحمة من أجل الشهرة.
لفتت يمنى بوحيدر، مديرة سجن النساء، التي أعطيت اسم ماما دنيا، بأدائها العفوي وروحها النابضة بالفكاهة، وصوتها النقي الذي صدح بعذوبة. وأراد المخرج أن يحتفظ بصاحبة دور الصحافية نور الشمس مفاجأة، ليكتشف المتفرج في الجزء الأخير من العرض أن المؤدي هو المغني ماثيو خضر الذي نال تصفيقاً حاراً حين خلع شعره الأحمر المستعار، لنكتشف أننا أمام رجل. وخضر تألق في برنامج «ذي فويس» فرنسا وأدهش بصوته الأوبرالي.
هذا النوع من العروض، والمسرحيات الغنائية، يحتاج، كي يشدّ المتفرج، أن يكون الفنانون على المسرح على قدر كبير من الليونة الجسدية، ومهارة الأداء الغنائية، والتمثيل المقنع العفوي، وجاذبية الحضور، والصمود لما يقارب الساعتين أمام جمهور متطلب، ومخرج شجاع مستعد لخوض مغامرة بهذا الحجم في بلد يعاني لتوفير احتياجاته الأساسية.
تقديم ميوزيكال في غير أرضه، هو تحدٍّ كبير، ويحتاج لعناصر كثيرة كي يكتب له النجاح. وفي «كازينو لبنان» كان إلى جانب الممثلين الرئيسيين، راقصون مدربون وأوركسترا من 16 موسيقياً عزفت مقطوعات حية، وأدار العمل في الكواليس نحو 15 فنياً متخصصاً.