كيف غيَّر الوجود السوري المطبخ المصري وامتزج معه؟

المكدوس يزاحم الباذنجان... وفلافل الحمص تحظى بقبول

تجربة المطبخين المصري والسوري كانت نموذجاً للاندماج وليس لطمس الهوية (أدوبي ستوك)
تجربة المطبخين المصري والسوري كانت نموذجاً للاندماج وليس لطمس الهوية (أدوبي ستوك)
TT

كيف غيَّر الوجود السوري المطبخ المصري وامتزج معه؟

تجربة المطبخين المصري والسوري كانت نموذجاً للاندماج وليس لطمس الهوية (أدوبي ستوك)
تجربة المطبخين المصري والسوري كانت نموذجاً للاندماج وليس لطمس الهوية (أدوبي ستوك)

إذا تمكنت من مقامة رائحة الشاورما المنبعثة من عمود ضخم تكسوه طبقة مقرمِشة من لحم ذي اللون الذهبي المتدرّج، فإنك حتماً ستقع أسيراً لحلو ألسنتهم، إنهم هناك يتنافسون على إرضاء زبائنهم بكل ما لذ وطاب في سوق مدينة الرحاب الواقعة شرقي القاهرة.

وسوق الرحاب، كما غيره بمدن مصرية، قدم إليها السوريون المشتغلون بصناعة الطعام، فتركوا أثراً محبباً لدى قطاعات مختلفة، وبات ينظر إليهم من قبل اختصاصيين على أنهم تركوا - دون قصد - بصمة في صناعة الأكل على نحو يعكس، كيف تحتوي القاهرة القادمين إليها وتصهرهم وتتفاعل معهم.

الأمر ليس ساندوتش شاورما، أو قطعة من جبن الحلوم، أو حتى طبق من الكنافة النابلسية، لكنه بالدرجة الأولى معني بالانعكاس الثقافي وقبول للآخر، مما أصبح السؤال حياله جديراً ببحث مدى تأثر المطبخ المصري بالوجود السوري.

هنا يفضل الطاهي السوري بلال عمر، (صاحب الرقم القياسي في تحضير أكبر فطيرة في الوطن العربي ويتابعه الملايين)، أن يصف الأمر بأنه «التناغم» بين المطبخين المصري والسوري، ويرجع ذلك إلى تنوع مطبخ بلده.

الشاورما والبطاطس... مزيج بين الوصفة السورية والمصرية (الشيف حسام الكيلاني)

وينوّه عمر بأن «المطبخ السوري مصنف ضمن أفضل 50 مطبخاً في العالم»، لذا يرى أنه «امتزج ببساطة مع الثقافة المصرية ووضع لمسته على مائدتهم بمكونات وأسرار؛ لم تكن يوماً غريبة لتُلفظ أو تصنع أزمة أو تزاحم».

ويتحدث عن أن «المطبخ السوري بالأساس مزيج فريد من الحضارات والثقافات التي تعاقبت على بلاد الشام عبر التاريخ. من بلاد الرافدين إلى مصر القديمة، ومن الحضارة الرومانية إلى الحضارة العثمانية، كلّ حضارة تركت بصمتها على مكونات وأطباق هذا المطبخ العريق».

بات المكدوس السوري والباذنجان المخلل على الطريقة المصرية أبناء عائلة واحدة حاضرين جنباً إلى جنب على المائدة المصرية دون حدود أو تصنيف، بل واحتضن خبز الصاج السوري وصفة الشاورما المصرية المُميزة بقطع دهن الخراف (الليّة)، وسواء أضيفت الثومية السورية أو الطحينة المصرية فإنك أمام مذاق طيب جاء نتاج امتزاج ثقافتين.

وعن أكثر الأكلات السورية المحببة لدى المصريين، قال الطاهي السوري عمر: «الشاورما بلا منازع، سواء التي تعد من اللحم أو الدواجن، تليها الفلافل، وهي أحد أهم الأصناف الشعبية المصرية التي تصنع من الفول، لكن السورية منها تكون من الحمص، وبعد الوجود السوري في الداخل المصري بات المصريون على دراية بالصنفين، وذابت الفروق بين الفول والحمص».

غير أن الطاهي السوري تخصص في وصفات مثل الكبة والمحشي والحمام المحشي كنماذج للاندماج بين الثقافتين، وأوضح: «لا شك أن المطبخ السوري وضع لمسته على نظيره المصري... التاريخ المشترك والتبادل الثقافي الكبير بين البلدين كان له عظيم الأثر على تجربة الانصهار الثقافي».

فتة الشاورما على الطريقة الشامية (الشرق الأوسط)

وكشف عمر عن أن «ثمة بعض الأطباق يُعتقد أنّ أصلها يعود إلى إحدى الثقافتين، الكبة مثلاً يُعتقد في سوريا أصلها غير أنها باتت إحدى الأكلات الشعبية على المائدة المصرية، فيما صنف التاريخ القطائف كأكلة مصرية غير أنها الآن وصفة شامية أصيلة».

التجربة المصرية السورية كانت نموذجاً للاندماج وليس لطمس الهوية، حسبما يرى مدون الطعام المصري حسام الكيلاني، الذي عدّ الوجود السوري في المطبخ المصري فاق حدود المذاق، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «السوريون معروفون بحلو اللسان وحسن المظهر ورقي الضيافة، وهذه السمات ساهمت بشكل أو بآخر في تمرير وجودهم في الداخل المصري، هذا البُعد فاق حد الطهي ليعزز المنافسة وتحسين المنتج الغذائي النهائي في السوق المصرية».

ونوه بأن «زيت الزيتون والزعتر والمخبوزات الشهية بجبن الحلوم غدت أطباقاً رئيسية على مائدة المصريين، مما يعكس شدة الانصهار والتأثير»، وأرجع السبب إلى بُعد آخر وهو المنافسة التي أشعلتها حرفية الطهاة السوريين.

وتابع: «بعد نزوح السوريين وقدومهم إلى مصر، لم يكتفوا باللجوء والبقاء دون عمل، بينما اندمجوا سريعاً وظهرت موجة المطاعم السورية، مما ألقى بظلاله على السوق وشجع المصريين على خوض التجربة، وأثرى السوق بمنافسة تعلي مشاعر الضيافة الودودة».

ورأى الكيلاني أن المنافسة عززت الجودة ومزجت الوصفات وخرجت بطابع حداثي له هوية عربية شامية مصرية.

بالعودة إلى الطاهي السوري بلال عمر، فإنه يعتبر أن ما شهده المطبخ المصري في العقد الأخير إضافة بالغة الأهمية، وقال: «يُمكنني القول إنّ امتزاج الثقافات في الطهي يُعدّ إضافةً هامةً للثقافة، حيث يُساهم في تنوع الأطباق، وتعزيز التواصل، مع الحفاظ على هوية كلّ ثقافةٍ من خلال ميزاتها وخصائصها».

وهو ما اتفق معه مدون الطعام المصري مؤكداً على أننا أمام نموذج من الإثراء والتطوير دون مساس بالأصل والاعتزاز بإرث الأجداد، وقال: «خرجت اتجاهات أو بالأحرى (تريندات) طعام بسبب الوجود السوري في مصر، وتفاعل معها رواد مواقع التواصل الاجتماعي ثم اختفت الحالة وبقيت الوصفات الطيبة حائرة بين الأصل المصري واللمسة السورية».

فتة الشاورما، يُعتقد أنها طبق سوري، غير أن الحقيقة أنها مزيج بين الثقافتين السورية والمصرية وشهدت العديد من الإضافات بسبب رواجها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يقول المدون المصري، الذي يضيف: «هذه الوصفة تحديداً هي مثال حي للاندماج، كذلك طريقة تحضير الشاورما شهدت تطوير من خلال إضافة صلصات حارة أو بطاطس أو الثومية، وجميعها نماذج تعكس التطوير والامتزاج».

كذلك وصفة الحواوشي المصرية التي تعتمد على مزيج من الخبز المصري (العيش البلدي) مع اللحم المفروم والتوابل، ووصفة العرايس السورية التي تعتمد أيضاً على مزيج الخبز واللحم، اندمجت الوصفتان وشهدتا مزيجاً من التطوير حتى وإن اختلفتا في بعض التفاصيل، كل هذه دلائل على عمق التأثير والتلاحم بين المطبخين السوري والمصري، الذي ما زلنا ننتظر منهما المزيد من الوصفات الطيبة.


مقالات ذات صلة

المطبخ المغربي... يتوج بلقب أفضل مطبخ في العالم

مذاقات طواجن مغربية في سوق (أدوبي ستوك)

المطبخ المغربي... يتوج بلقب أفضل مطبخ في العالم

فاز المطبخ المغربي على المطبخ المكسيكي في نهائي مسابقة للطبخ، بعد جمع ما يقارب 2.5 مليون صوت طوال المنافسة.

كوثر وكيل (لندن)
مذاقات أحلامها كثيرة وبينها تأليف كتاب طبخ تتوجّه فيه لأبناء جيلها (الشرق الأوسط)

دانا الحلاني لـ«الشرق الأوسط»: «لمّة العائلة الحلانية ألهمتني لأصبح شيفاً»

هي الوحيدة بين أفراد عائلتها التي لم تدخل مجال الغناء. دانا ابنة الفنان عاصي الحلاني، عكس شقيقيها الوليد وماريتا، دخلت الفن من باب آخر.

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود.

فاطمة عبد الله (بيروت )
مذاقات وصفة على طريقة شيف ميدو برسوم (الشرق الأوسط)

وصفات «سموذي» لمقاومة حرارة الصيف

كيف تصنع لنفسك كوباً من عصير «السموذي» يقيك حرارة الصيف ويمنحك قدراً من الانتعاش ويقوي مناعتك؟

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات من السلطات الكثيرة على لائحة الطعام (الشرق الأوسط)

الشيف إيزو آني يفتح مطعمه «ميزون آني» في لندن ويدلل الذواقة

لا شيء يضاهي المطعم الفرنسي على غرار ما يعرف بالـBrasserie أو الـBistro، لأن هذا النوع من المطاعم يمزج ما بين الكلاسيكية والحداثة الفرنسيتين، يقدم الفطور…

جوسلين إيليا (لندن)

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
TT

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود، مدينة الأرمن في لبنان، لمجرّد تناوُل الطعام. الآتي، سيسمع. لا بدّ أن يلمح في عينَي الأرمنيات المنكبّات على إعداد الأطباق، بريقاً على شكل مرايا تعكس الصور. جميعهنّ لا يعددن الأكل لملء البطون، بل لإحياء الإرث والتباهي به. الأكل تذكيرٌ بأنّ النجاة تشكّل تمريناً على الحبّ، وإن عذَّبت أحمال الذاكرة وأثقلت المسار.

أبعد من مجرّد تناوُل طعام (صور أربي منكاساريان)

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة. مبناه من طبقتين: الأرضية تفترشها الطاولات والكراسي، وفي أرجائها يُلمح انهماك النساء الأرمنيات من أجل تحضير القوائم اللذيذة. وفي الطبقة الأولى، مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين لعرض ما يُنجزون. تقول أربي منكاساريان لـ«الشرق الأوسط» إنّ المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ. فما تبتكره الأنامل من أحذية، وحقائب، ومجوهرات، وسائر الحِرف التي يشتهر بها الأرمن ويُجيدونها، مردُّه شغف التميُّز والإبقاء على الإحساس بجدوى الحياة. تلك الحياة المسلوبة من أسلافهم، فقرّروا مَنْحها بعظمة الحبّ على هزيمة الموت.

من اليمين... أربي منكاساريان وضيوف المطعم (حسابها الشخصي)

كبُرت أربي منكاساريان وهي تسمع الحكايات وتمتلئ بها. وبين القصة والأخرى، تحدُث استراحة مع الرقص والموسيقى. فالمكان حيث نشأت وأقامت ألِفَ النغمات وأحبَّها وجعلها بعض عاداته. «تهجَّر الأرمن، وتهجَّر معهم تاريخهم وثقافتهم. منذ الطفولة وأنا أتأمّل هذه المعادلة. سمعتُ ورأيتُ، ونشأتُ على وَقْع السرد. حفظتُ الحكايات وسجَّلتها ذاكرتي. رسّختُها لرفضي النسيان».

وُلد المطعم عام 2010 من دون تخطيط مسبق، ليصبح جامع الناس على الأكل الأرمني. اشترت منكاساريان عقاراً صدَفَ أنه عُرض للبيع، أملاً في إيجاد مساحة لهو لوالدها التسعيني المولع بلعب الطاولة واللَّمة مع الأصدقاء. ثم وجد المكان نفسه يتحوّل إلى مساحة حكواتية. كل طبق يُخبر قصة. وكل يد تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه والتعريف به. تقول المؤسِّسة إنّ الوافدين إليها بغالبيتهم أرمن، لكنّ ذلك لا يمنع الآخرين من تذوُّق ما هو أبعد من طعم. إنها مشاركة التجربة والنبش في الذاكرة. «حتى غير الأرمن تلفحهم رائحة التراث، ويكرّرون الزيارة. يجدون في المكان حكاية أجيال تجترح الإرادة من الاضطهاد والإصرار من الإبادة. ما تُقدّمه مُعدَّات الطعام ليس شكله وطعمه فحسب، بل الأهم روح أرمينيا».

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة (صور أربي منكاساريان)

تروي تاريخ أسلافها، وتُبحر في التفاصيل. عن الأم المثقفة والجدّات مُتكبّدات المرارة. وعن الأحياء والناجين رغم قسوة ما حصل. الذاكرة مُحمَّلة بما قد يزن جبلاً. بمَن أُرغموا على ترك الأحبّة في منتصف الطريق نحو النجاة، ووجدوا أنّ الالتفات إلى الخلف مُكلف، وقد يدفعون ثمنه حيواتهم، فأكملوا السير. تتحدّث وتتحدّث وتتحدّث. تبدو كمَن يُقلّب صفحات كتاب. وكمَن يسرح أمام فيلم يُخبر الحكاية من البداية.

الأطباق بمثابة حكواتي ينتظر مَن يجتمع حوله ليحدُث البوح. «المائدة أرمنية، وعلى الإرث أن يبقى حياً». خلاصة حكايات أربي منكاساريان تصبح على هذا النحو: «خسرنا الأرواح والفرص والأرض. بعض أفراد العائلة لم يتعرّفوا إلى بعضهم الآخر. فرّقتهم السنوات. طعم المرارة الإنسانية جرّاء الحروب والانفصال والموت، يعلَقُ في الحناجر. حين تتعاظم الخسائر ينمو الحبّ. مَن رحلوا علّمونا الحبّ الكبير».

الطعام لإحياء الإرث والتباهي به (صور أربي منكاساريان)

هذه فلسفة «Badguèr» (يعني باللغة الأرمنية «صورة»)، وروحه المتداخلة بروائح البهار والوصفة الخاصة. «كما أحبّونا ورحلوا، نريد للحبّ أن يبقى. جعلونا نحبّ الأرض والموسيقى والفن والثقافة. لذا انقسم المكان إلى مساحة لحفظ الإرث الغذائي، وأخرى لحفظ الإرث الثقافي والحِرفي. جميع مَن أعمل معهم لديهم حكاية. أمي وعائلتها، وأبي وعائلته، وأنا».

مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين (صور أربي منكاساريان)

راقبت الأرمن وهم يحوّلون العادي إلى ابتكار. والدها رسام، عمل في سكة الحديد قبل التقاعُد. ووالدتها مولعة بالفنون. «من المهارات التي نشأتُ عليها، أردتُ جزءاً من المكان أن يتحوّل إلى فضاء للإبداع». مع الأكل، تُقام حفلات موسيقية وأنشطة ثقافية واجتماعية: «بالموسيقى نُحيي الحبّ العظيم. وبكل حقيبة أو قطعة مجوهرات أو حذاء يُصنَع. حفظُ الإرث الأرمني الغذائي والحِرفي هو ما يُبقي المطعم حياً طوال هذه السنوات».

المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ (صور أربي منكاساريان)

تنظر في عيون الآتين من أجل ذلك البريق الذي أمضت العمر تبحث عنه وتتوق إلى إيجاده وسط كل ما فُقِد: «أسمّيها الحرارة، وأراقب الوجوه من أجل أن أحظى بها. خليط ثقافتي الأرمنية وعلاقتي الفريدة بلبنان يمنحان الحبّ في داخلي قيمته. أحتكُّ بالإنسان لأتبادل معه مكنوناتي. الأرواح التي خسرناها علّمتنا أن نستعيدها في كل طبق، ومقطوعة تُعزَف، وصوت يغنّي، ويد حِرفيّ أرمنيّ تحوّل المادة إلى مهارة».