وأصبحت للملوخية زفة في مصر

المطاعم الفخمة تحتفل بأوراقها الخضراء وتجعل منها مهرجاناً حياً

(شو) الملوخية ابتكره قبل سنوات مطعم "كبدة البرنس" (صفحة المطعم على فيسبوك)
(شو) الملوخية ابتكره قبل سنوات مطعم "كبدة البرنس" (صفحة المطعم على فيسبوك)
TT

وأصبحت للملوخية زفة في مصر

(شو) الملوخية ابتكره قبل سنوات مطعم "كبدة البرنس" (صفحة المطعم على فيسبوك)
(شو) الملوخية ابتكره قبل سنوات مطعم "كبدة البرنس" (صفحة المطعم على فيسبوك)

«الملوخية»، هي الطبق التقليدي الذي يعشقه كثيرون في العالم العربي، لا سيما في مصر، نظراً لمذاقها المحبب، ورائحة «التقلية» القوية، وقوامها السميك، ولونها الأخضر الداكن.

كما يُعَد تحضير الملوخية مناسبة تجمع أفراد العائلة معاً، الذين يلتفون حولها في الولائم الجماعية، خاصة في منازل الجدات، اللاتي يحترفن إعداد طبق الملوخية، ومنهن تم تناقل فن ضبط مذاقها جيلاً بعد جيل.

ومع هذه المكانة التي تحتلها الملوخية، أضفى المصريون - كعادتهم - طقوساً احتفالية خاصة عند إعدادها، تُضفي على هذا الطبق الشعبي لمسة مميزة، ولأن «التقلية» (الثوم والبصل والتوابل والبهارات)، أو ما يسمى «طشة الملوخية»، هي أساس إعداد الملوخية، لذا انصبت الطقوس حولها.

طهاة يستعرضون مهاراتهم في إضافة "الطشة" إلى الملوخية (صفحة مطعم قصر الكبابجي على فيسبوك)

ولعل أبرز العادات المتوارثة ما يُعرف بـ«شهقة الملوخية»، وهي عادة تقوم بها السيدات من خلال قيامهن بإصدار صوت «شهق» بصوت عالٍ لحظة إضافة الثوم أو «الطشة» على الملوخية وهي أعلى النار في حركة سريعة، وبالتزامن تصدر الطاهية صوتاً في تلك اللحظة للتعبير عن المفاجأة، وهو ما يجعله يشبه الصراخ أو الإصابة بالخضة، ظناً أن ذلك يجعل مذاقها لذيذاً، حتى قيل إن «الملوخية من دون شهقة ليس لها طعم».

ولأنها عُدّت خطوة أساسية في وصفة الملوخية؛ فإن الشهقة موضع فخر للطاهية الماهرة بين نساء العائلات، بل إن ختم هذه المهارة تمثل في ترديد أنها «أفضل من تشهق على الملوخية»، وفي المقابل يقال عن المرأة التي لا تستطيع أن «تشهق» إنها ليست طاهية جيدة.

العرض الحي لـ"الملوخية" يخلق حالة من التشويق لدى الزبائن (صفحة مطعم صبحي كابر على فيس بوك)

ولكن ما أصل هذه العادة؟ وما سر الشهقة؟... تتعدد أساطير «الشهقة»، بحسب ما تذكره «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر، عبر موقعها، فيحكى عن الأسطورة الأولى أنها تبدأ أيضاً من المطبخ المصري قديماً، فكان هناك مكان للطبخ وتربية بعض الطيور والحيوانات مثل الماعز، فكانت النساء تشعل مجموعة من الأخشاب وتضع عليها أواني الطبخ الخاصة بها، وقد كانت «الشهقة» أداة تنبيه وإنذار تطلقها المرأة فور الانتهاء من تحضير «الطشة» لتضعها على الملوخية، وتكون «الشهقة» حينها لتبعد الطيور والحيوانات خطوات إلى الخلف لتضع المرأة الإناء على الأرض.

أما الأسطورة الثانية، فحكى عنها بعض الحكماء عن امرأة كانت تقوم بإعداد الملوخية، وبعد أن انتهت من تحضير «التقلية» وجدت الطاسة التي في يدها تهتز، وخافت المرأة أن تنسكب «التقلية» الساخنة فشهقت من الخوف، ثم تمكنت من وضع الطشة في الملوخية، وفوجئت بجمال طعمها فربطتها بما حدث.

فرض إيقاع الحياة السريع، وضيق الوقت، اختفاء طقس «الشهقة» الاحتفالي بالملوخية، وأصبح إعداد طبق الملوخية يتم من دونها في الغالب، إلا أنه مع السنوات الأخيرة ظهر طقس جديد تمثل فيما يعرف بـ«زفة الملوخية»، التي نقلت الاحتفال بالأوراق الخضراء من مطابخ الأمهات إلى المطاعم الفخمة.

فالعديد من المطاعم المصرية أصبح يحتفي بتقديم الملوخية بـ«الزفة»، وهو احتفال صغير «شو» Show؛ حيث يتم إحضار الطبق التقليدي إلى المائدة وسط دقات الدف أو الطبلة، مع التصفيق والغناء من طاقم الضيافة بالمطاعم، وقد تصاحبه استعراضات راقصة. ثم يقوم أحد الطهاة باستعراض مهاراته في إضافة «الطشة» إلى الملوخية، ثم التلاعب بالملوخية في حركات سريعة أشبه بالبهلوانية عبر تناقلها وصبها بين عدة آنية، محافظاً على قوامها السميك، مع تصاعد الأبخرة.

الملوخية طبق تقليدي يحتل مكانة كبيرة على موائد المصريين (الشرق الأوسط)

وغالباً ما يقدم هذا الطقس لزبائن المطاعم من مشاهير الفن والإعلام وكرة القدم، أو أمام التجمعات الكبيرة للعائلة والأصدقاء، وقد يشارك المشاهير في هذا الطقس كنوع من التجربة، ودأبت مطاعم بعينها في القاهرة على التخصص في «زفة الملوخية»، بل واستقطبت العديد من المشاهير الأجانب من الزائرين لمصر، كنوع من الاحتفاء بهم وإشاعة نكهة خاصة من البهجة والترحيب بهم.

يقول الشيف خالد المحمدي، عضو جمعية الطهاة المصريين، لـ«الشرق الأوسط»: «فكرة عرض (شو) الملوخية ابتكرها لأول مرة في مصر قبل سنوات عديدة مطعم (كبدة البرنس)، فهي مسجلة باسمه، ثم بدأت تعمم بين المطاعم كنوع من العرض الحي بهدف جذب الزبائن، وكسر الروتين التقليدي في تقديم الأطباق». ولفت إلى أن العرض يخلق حالة من التشويق لدى الزبائن.

ويشير الشيف المحمدي إلى أن «شو» الملوخية أو زفة الملوخية «زادت من شعبية الطبق المصري بشكل كبير بين الزوار الأجانب لمصر، لأنهم غير معتادين على وجود أصناف شرقية تقدم بمثل هذه العروض الحيّة أمام أنظارهم»، متابعاً: «يحسب لنا بوصفنا مطبخاً مصرياً، أننا استطعنا أن نضيف ملمحاً شرقياً جديداً باسمنا في عروض الطهي الحي، وأن نطور فيه بلمساتنا الخاصة، بتحويله إلى زفة».

ويلفت إلى أن عروض الطهي الحي أو الطهي المباشر (Live Cooking Show) أصبحت اتجاهاً لدى العديد من الفنادق والمطاعم على مختلف درجاتها، بعد أن ثبت أنها طريقة مفضلة لدى الجمهور، ما يعني زيادة جاذبية الزبائن للمطاعم التي تقدمها، لكونها طريقة ترضيهم، ولكونها طريقة أكثر ترفيهية، وتلعب على كسر النمط التقليدي داخل المطاعم.

كما يؤكد الشيف خالد أن منصات «السوشيال ميديا» عملت أيضاً على رواج زفة الملوخية، وشجعت كثيراً من المطاعم أن تتوسع فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى أغرت الزبائن بالذهاب للمطاعم وعيش أجواء التجربة، كما أن إشراك الزائر بوصفه بطلاً للتجربة، لا سيما إن كان من المشاهير، جعلها أكثر تفاعلية وترفيهاً.


مقالات ذات صلة

«زوما» يحتفل بعيده الثاني والعشرين ويدشن فرعه الجديد جنوب فرنسا

مذاقات جلسة جميلة على المتوسط في «زوما» بمدينة كان (الشرق الأوسط)

«زوما» يحتفل بعيده الثاني والعشرين ويدشن فرعه الجديد جنوب فرنسا

فتح مطعم «زوما» فرعه الأول في لندن عام 2002 على يد مؤسسه الشيف الألماني رينر بيكر مع شريكه رجل الأعمال أرجون وايني.

جوسلين إيليا (لندن )
مذاقات أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود.

فاطمة عبد الله (بيروت )
مذاقات ديكور مريح جدا (الشرق الاوسط)

«فوري» مطعم لندني يحاكي نمط الـ«تافيرنا» في اليونان

تشهد المطاعم اليونانية المنتشرة في لندن إقبالاً شديداً من البريطانيين والمقيمين في العاصمة، وتتفاوت المستويات ما بين الغالي والمقبول من حيث التكلفة.

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات مساحة تتيح الخصوصية وتَرْك الأثر (صور فرنسيس محاسب)

«السعادة الصغيرة»... مطعم لبناني من طاولة واحدة

وجد الأستاذ الجامعي فرنسيس محاسب أنّ منزله مهيّأ للتحوُّل إلى مطعم من طاولة واحدة. حجمه يتّسع، ومطبخه مجهَّز.

فاطمة عبد الله (بيروت)
مذاقات الطبخ يعزّز الروابط (فيسبوك الجمعية)

جمعية لندنية تُبلسم بالطبخ غربة المهاجرين

يتولّى كل فريق، يضمّ اثنين من المشاركين، طهو أحد الأطباق الـ6 الموجودة في قائمة اليوم، بمساعدة ناجي وسانوبار، المدربَيْن عضوِي الجمعية اللذين يقدّمان النصائح.

«الشرق الأوسط» (لندن)

جمعية لندنية تُبلسم بالطبخ غربة المهاجرين

الطبخ يعزّز الروابط (فيسبوك الجمعية)
الطبخ يعزّز الروابط (فيسبوك الجمعية)
TT

جمعية لندنية تُبلسم بالطبخ غربة المهاجرين

الطبخ يعزّز الروابط (فيسبوك الجمعية)
الطبخ يعزّز الروابط (فيسبوك الجمعية)

تضمّ مؤسّسة «مايغرتفول» الخيرية في لندن لاجئين ومهاجرين يقدّمون دروساً في الطبخ لعامة الناس، مما يتيح لكثر التعرّف إلى ثقافات الدول الوافدين منها. ومن بين هؤلاء اللاجئة السورية في بريطانيا فاتن التي ينكبّ تلامذتها في مطبخ الجمعية اللندنية على إعداد الوصفات العائلية، مثل التبولة، وشاورما الدجاج، و«شيخ المحشي» (الباذنجان المحشوّ باللحم المفروم).

تضمّ مؤسّسة «مايغرتفول» الخيرية في لندن لاجئين ومهاجرين (فيسبوك الجمعية)

ووفق «وكالة الصحافة الفرنسية»، يتولّى كل فريق يضمّ اثنين من المشاركين طهو أحد الأطباق الـ6 الموجودة في قائمة اليوم، بمساعدة ناجي وسانوبار، المدربَيْن عضوي الجمعية اللذين يقدّمان النصائح وأحياناً يساعدان في الطبخ.

وفي مناخ قرقعة الطناجر والسكاكين وأدوات المطبخ، وطقطقة الخضراوات في الزيت المغليّ، وعلى أنغام موسيقى شرقية في الخلفية، ينكبّ هؤلاء الشباب اللندنيون لـ3 ساعات على إعداد الأطباق، وفي نهاية الحصة التدريبية، يتشارك الجميع ثمرة عملهم.

يقول ناجي: «عندما يطبخ الأشخاص معاً ويتشاركون الطعام، ينشأ رابط بينهم، ويتعلّم المرء من الأشخاص الذين يأكل معهم، عن ثقافتهم وحياتهم».

الطبخ وسيلة ابتكار (فيسبوك الجمعية)

غادر هذا الفنان، الذي طلب عدم ذكر اسم شهرته، بلده أفغانستان عام 2021 عندما استعادت حركة «طالبان» السُّلطة. وبعدما أمضى 9 أشهر على الطرقات، مروراً بإيران وتركيا واليونان وفرنسا، نام خلالها تحت الجسور أو في محطات القطارات، وصل إلى بريطانيا في يونيو (حزيران) 2022. وأودِع بداية مأوى للمهاجرين في جنوب لندن، حيث لم يستطع العمل ولا الدراسة، ولم يكن مرتاحاً لتقاسم السكن مع غرباء.

يروي أنه كان «شديد الاكتئاب في الأشهر الأولى»: «كنت أمكث في غرفتي كثيراً». لكنّ كل شيء تغيّر عندما انضمّ إلى «مايغرتفول».

أدرك أنه موهوب في الطبخ منذ المراهقة، عندما كان أصدقاؤه يدعونه إلى إعداد الوجبات لهم. لكنّه اليوم بات يتمتع بتدريب «مثل المحترفين» وفّرته له الجمعية.

ومنذ أن حصل على صفة اللاجئ في سبتمبر (أيلول) 2023، بات في إمكانه العمل وكسب الدخل من خلال إعطاء دروس تنظّمها «مايغرتفول» وتوفير خدمات إعداد الوجبات للمآدب والحفلات.

ويمثّل الطبخ أيضاً بالنسبة إليه وسيلة للتعبير عن قدرته الفنية على الابتكار، إذ يرى أنّ «الطعام يجب ألا يكون لذيذ المذاق فحسب، بل ينبغي كذلك أن يبدو جميل الشكل».

أما سانوبار مجيدوفا، فانتقلت من أوزبكستان إلى بريطانيا لتتيح لأطفالها تعليماً ذا جودة أفضل من ذلك المتاح لهم في بلدها الواقع في آسيا الوسطى. وبعد عام على وصولها، اضطرّت إلى التزام منزلها بفعل إجراءات الحجر خلال الجائحة.

تروي أنها لم تكن تجيد اللغة الإنجليزية، وأنها بقيت في المنزل مع أطفالها الـ4، «وكانت مرحلة صعبة».

وسعياً إلى إسعاد أطفالها، كانت تبحث عن وصفات جديدة على الإنترنت كل يوم. وبعدما سمعت عن «مايغرتفول» من أحد الأصدقاء، أدركت أنها تستطيع تحويل شغفها إلى مهنة.

وأكثر ما تهواه إعطاء دروس لتعليم كيفية صنع طبق «بلوف»، النسخة الأوزبكية من بيلاف الأرز.

الطبخ يتيح التعرّف إلى ثقافات الدول (فيسبوك الجمعية)

بدورها، تشرح مؤسِّسة «مايغرتفول» جيس تومسون أنّ الجمعية «تضمّ أعضاء من 38 جنسية، وهذا يعني كثيراً من أنواع المطبخ المختلفة والمثيرة». وتركّز في عملها على ضحايا الهجرة القسرية من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية.

وتلاحظ تومسون أنهم «يجدون أنفسهم معزولين اجتماعياً عند وصولهم» إلى بريطانيا. وتوضح أن «مايغرتفول» توفّر لهم «ملجأ ومجتمعاً، يمكنهم من خلالهما تعزيز ثقتهم بأنفسهم وتقديرهم لذاتهم لأنهم يرون أنّ لديهم ما يسهمون به» حيث هم.

ويجد كثر منهم عملاً في المطاعم أو يؤسّسون مشاريعهم الخاصة في مجال إعداد الطعام للمناسبات، بعد عملهم في مطابخ الجمعية التي تأمل أيضاً في تغيير العقليات تجاه الهجرة.

تختم جيس تومسون: «عندما نلتقيهم ونقضي معهم هذا الوقت ونشاركهم الطعام، فإننا ننظر إليهم بوصفهم بشراً لا خطراً».