كيف ربطوا ما بين «التسبيكة» و«الثرثرة» و«اللّت والعجن»؟

فنون الطهي وطقوسه لدى الكُتّاب

خبز على طاولة الخال ميلاد (الشرق الاوسط)
خبز على طاولة الخال ميلاد (الشرق الاوسط)
TT

كيف ربطوا ما بين «التسبيكة» و«الثرثرة» و«اللّت والعجن»؟

خبز على طاولة الخال ميلاد (الشرق الاوسط)
خبز على طاولة الخال ميلاد (الشرق الاوسط)

تبدو حاسة التذوّق واحدة من الحواس الأصيلة التي ترتبط باكتشاف الحياة، وطالما ألهمت تلك الحاسة بما يرتبط بها من فنون الطهي وطقوس الطعام، كثيراً من الكُتاب حول العالم في محاولة للإمساك بتلك الرابطة الخفيّة والحسيّة بين فنون الطعام والكتابة وتأملات الحياة.

غلاف كتاب عزت القمحاوي (الشرق الاوسط)

فاستطاعت الكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبرت تقديم تجربة تعافي مدهشة من خلال سيرتها الذاتية «كل، صلِّ، أحب» التي أحالها رواجها إلى فيلم سينمائي، إنتاج 2010، من بطولة جوليا روبرتس، التي قدّمت في الفصل الأول من رحلتها في التعافي علاقة خاصة بلذّة الطعام في مواجهة انتكاسها العاطفي، فكانت «الباستا» و«الجيلاتو» و«البيتزا» بواباتها للنعيم الذي كان التهام أنواعه المختلفة في إيطاليا مع الأصدقاء، كفيلاً باستعادة جانب من التوازن في حياتها، وكما في الفيلم كانت البطلة «ليزي» تلتهم البيتزا بحالة من النهم أكثر منه طقس تناول طعام عادي، تلتهم شريحة منها تفيض بجبن «الموتزاريلا» وتقول : «لديّ الآن علاقة عاطفية مع البيتزا» كاستعاضة ساخرة منها عن علاقتها العاطفية التي انتهت بالطلاق.

وفي الرواية المكسيكية الذائعة «كالماء للشوكولاته»، تجد البطلة (تيتا) في فنون الطبخ تحدياً لاجتذاب قلب (بيدرو) عبر المذاق والرائحة وطريقة عرض الأطباق، وكذلك في التواصل مع الحياة من وجهة نظرها، التي تتحوّل لديها إلى وصفات شهيّة ومقادير، حتى في تذكرها للماضي «فيما الحشوة ترتاح، يكون مبهجاً الاستمتاع بالرائحة التي تفوح منه، لأن للروائح خاصية إعادة إنتاج أزمنة غابرة».

أما في رواية «صانعات الحلوى» للكاتبة المالطية لو دورفينيك، نرصد تاريخ الأسرة عبر حكاية المخبز الذي ورثته فتيات العائلة عن الوالد بكل ما فيه من طرق «عجن» تقليدية، وصولاً لإدخالهم صنف «الكعك الإسفنجي»، الذي كان في وقتها يمثل طفرة في عالم المخبوزات، حتى تحوّل من «مخبز» إلى محل «حلواني» مع مطلع الحرب العالمية الأولى، بكل ما يحمله محل «الحلواني» من تداخل روائح الكعك وأحلام التوسع في تجربة صنع حلويات جديدة، وما يوازيه من توسّع لأحلام العائلة وتراوح مصائرها على امتداد أجيالها.

وفي عالمنا العربي اتسع الاستلهام من فنون الطهي وطقوسه الزاخرة في الثقافة العربية في الكتابة الروائية والنثرية، ولعل أحدثها ما يطرحه الكاتب المصري عزت القمحاوي، في كتابه «الطاهي يقتل الكاتب ينتحر»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية أخيراً، وفيه يؤسس القمحاوي علاقة أصيلة بين مهارات الطعام والكتابة، عبر التقاطه لتفاصيل تخص «المطبخ» والطهي، التي تمر بها الكتابة أو «الطبخة»، وصولاً لمرحلة التذوق الذي يُستخدم لوصف الانطباع عن قراءة عمل أدبي أو «أكلة».

رواية صانعات الحلوى (الشرق الاوسط)

يقول القمحاوي في كتابه: «الفواكه والخضروات النيئة أو المطبوخة بطريقة بسيطة، مجرد نصوص ساذجة تصد الجوع فحسب. وهناك على العكس منذ ذلك، طبخ يُخاطب الحواس كلها. يستمتع فيه الآكل الحسّاس بالأسلوب، حيث تتعدد درجات ظلال المالح والحلو والحامض بالمقادير التي تحافظ على أثر كل مكون من مكونات الطبق. تستطيع حاسة الشم أن تتنزه بين نسائم القرفة والروز ماري والزعفران، مع إثارة الفلفل الأسود وجوزة الطيب، بينما تستمتع العين بالتوازن في ألوان الطبخة مثلما تستمع بمشاهدة لوحة فنية، ويتذوق اللسان ظلال الحلو والمالح والحامض».

ويعتبر القمحاوي أن الوقت الذي يُنفقه الكاتب في المطبخ ضروري لبناء مهاراته في الكتابة، مشيراً إلى أنه وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة بالأساس، والوصول ربما لتلك التركيبة التي يُطلق عليها «الانسجام»، وهو التناغم الذي يُعدُّ في حد ذاته طموح الطبخ والإبداع الأدبي والفني على السواء. فكلمة «تسبيكة» التي نستخدمها تعبيراً عن امتزاج عناصر الطبخة في تسبيكة، هي نفسها التي نصف بها نصاً جيداً. حسب القمحاوي.

ويستعير الكاتب من عالم صناعة الحلوى أبرز محطاته وهي «اللّت والعجن»، وهو التعبير الذي يُضرّب في وصف «الثرثرة» في الكتابة والرواية، ويعتبر القمحاوي في كتابه أنها استعارة «غير موفقة»، باعتبار أن «اللّت والعجن» هو روح المخبوزات نفسها وضرورة من ضرورات صناعتها: «حيث ينبغي تكرار بناء وهدم العجين وصولاً إلى السبك الجيد. عدد مرّات اللت والفرد والثني يحدد ما ستكون عليه العجينة عندما تنضج، فإما أن تصبح خبزاً أو فطيراً مشلتتاً. أو كرواسون أو ميلفيّ».

وحسب الناقد الأدبي محمود عبد الشكور، فقد استفاد الأدب من فنون الطعام ولعبة المُكونات والمذاقات في السرد، ويقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «الطعام والطهي مادة من مواد الحياة، وتوظيفها يجب أن يعني دلالة في السرد، هناك مثلاً توظيف ممتاز في رواية (خبز على طاولة الخال ميلاد) للخبز كعنصر أساسي في الحبكة، واستخدمت الرواية ذلك واقعياً ورمزياً، كما تدل التفاصيل على عالم الشخصية، وعلاقته بمادة صنعته وحياته، لذلك فتوظيف الطهي في الأعمال الأدبية يضيف للعمل أبعاداً واسعة طالما كان جزءاً أساسياً موظفاً ضمن أحداثه».

وظهرت في رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، عن (دار مسكلياني)، للروائي الليبي محمد النعاس، الحائزة على جائزة البوكر الأدبية العام الماضي، شخصية الأب الذي يعمل خبازاً، وورث البطل مهنة صناعة الخبز بأنواعه عن والده الذي تتلمذ على يد خباز إيطالي محترف، مما جعل الأب يتعلّم أصول «فك شيفرة اللذة في المخبوزات» ويورثها لابنه فيما بعد.

وفي روايته الصادرة أخيراً عن دار «العين» للنشر في مصر «غداء في بيت الطباخة» يقول الروائي محمد الفخراني، في كلمته لـ«الشرق الأوسط»: «بمجرد أن تظهر كلمة «بيت الطباخة» في الرواية يشعر القارئ أنه داخل مكان آمِن، به الطعام والدفء، يتوقع القارئ بمجرد قراءة تلك الكلمة أن يَظهر أمامه بيت دافئ، وأمٌّ تطبخ الطعام على مهل».

وكما يظل الدفء الذي يسري من روائح «خبز» البيوت له خصوصيته في الذاكرة الأدبية، وكذلك الموائد والتحلّق العائلي الحميم حولها، نجد في الأدب شجوناً موصولة بالطعام وطقوسه، كما نذكر في سيرة الراحل طه حسين، الذي ينسج حول الطعام هوامش من معاناته وتحدياته المُبكرة مع العمى، فيروي عن نفسه أنه بعد إحراج ألمّ به وسط أسرته عند تناول الطعام : «ومن ذلك الوقت حَرَّم على نفسه ألواناً من الطعام لم تُبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين؛ حرَّم على نفسه الحساءَ والأرز، وكلَّ الألوان التي تُؤكل بالملاعق؛ لأنه كان يعرف أنه لا يُحْسِنُ اصطناع المِلْعقة، وكان يكره أن يضحك إخوته، أو تبكي أُمّه، أو يُعَلِّمه أبوه في هدوء حزين». كما يروي في سيرته الخالدة «الأيام».



«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
TT

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)
ديكور أنيق ومريح (الشرق الاوسط)

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص، أما أطباق بلاد الشام فلا تعتمد على الابتكار على قدر الالتزام بقواعد متَّبعة، وإنني لست ضد الابتكار من ناحية طريقة التقديم وإضافة اللمسات الخاصة تارة، وإضافة مكون مختلف تارة أخرى شرط احترام تاريخ الطبق وأصله.

التبولة على أصولها (الشرق الاوسط)

زيارتي هذه المرة كانت لمطعم لبناني جديد في لندن اسمه «عناب براسري (Annab Brasserie)» فتح أبوابه في شارع فولهام بلندن متحدياً الغلاء والظروف الاقتصادية العاصفة بالمدينة، ومعتمداً على التوفيق من الله والخبرة والطاهي الجيد والخبرة الطويلة.

استقبلنا بشير بعقليني الذي يتشارك ملكية المشروع مع جلنارة نصرالدين، وبدا متحمساً لزيارتي. ألقيت نظرة على لائحة الطعام، ولكن بشير تولى المهمة، وسهَّلها عليَّ قائلاً: «خلّي الطلبية عليّ»، وأدركت حينها أنني على موعد مع مائدة غنية لا تقتصر على طبقين أو ثلاثة فقط. كان ظني في محله، الرائحة سبقت منظر الأطباق وهي تتراص على الطاولة مكوِّنة لوحة فنية ملونة مؤلَّفة من مازة لبنانية حقيقية من حيث الألوان والرائحة.

مازة لبنانية غنية بالنكهة (الشرق الاوسط)

برأيي بوصفي لبنانية، التبولة في المطعم اللبناني تكون بين العلامات التي تساعدك على معرفة ما إذا كان المطعم جيداً وسخياً أم لا، لأن هذا الطبق على الرغم من بساطته فإنه يجب أن يعتمد على كمية غنية من الطماطم واللون المائل إلى الأحمر؛ لأن بعض المطاعم تتقشف، وتقلل من كمية الطماطم بهدف التوفير، فتكون التبولة خضراء باهتة اللون؛ لأنها فقيرة من حيث الليمون وزيت الزيتون جيد النوعية.

جربنا الفتوش والمقبلات الأخرى مثل الحمص والباباغنوج والباذنجان المشوي مع الطماطم ورقاقات الجبن والشنكليش والنقانق مع دبس الرمان والمحمرة وورق العنب والروبيان «الجمبري» المشوي مع الكزبرة والثوم والليمون، ويمكنني الجزم بأن النكهة تشعرك كأنك في أحد مطاعم لبنان الشهيرة، ولا ينقص أي منها أي شيء مثل الليمون أو الملح، وهذا ما يعلل النسبة الإيجابية العالية (4.9) من أصل (5) على محرك البحث غوغل بحسب الزبائن الذين زاروا المطعم.

الروبيان المشوي مع الارز (الشرق الاوسط)

الطاهي الرئيسي في «عناب براسري» هو الطاهي المعروف بديع الأسمر الذي يملك في جعبته خبرة تزيد على 40 عاماً، حيث عمل في كثير من المطاعم الشهيرة، وتولى منصب الطاهي الرئيسي في مطعم «برج الحمام» بلبنان.

يشتهر المطعم أيضاً بطبق المشاوي، وكان لا بد من تجربته. الميزة كانت في نوعية اللحم المستخدم وتتبيلة الدجاج، أما اللحم الأحمر فهو من نوع «فيليه الظهر»، وهذا ما يجعل القطع المربعة الصغيرة تذوب في الفم، وتعطيها نكهة إضافية خالية من الدهن.

حمص باللحمة (الشرق الاوسط)

المطعم مقسَّم إلى 3 أقسام؛ لأنه طولي الشكل، وجميع الأثاث تم استيراده من لبنان، فهو بسيط ومريح وأنيق في الوقت نفسه، وهو يضم كلمة «براسري»، والديكور يوحي بديكورات البراسري الفرنسية التي يغلب عليها استخدام الخشب والأرائك المريحة.

زبائن المطعم خليط من العرب والأجانب الذين يقطنون في منطقة فولهام والمناطق القريبة منها مثل شارع كينغز رود الراقي ومنطقة تشيلسي.

بقلاوة بالآيس كريم (الشرق الاوسط)

في نهاية العشاء كان لا بد من ترك مساحة ليكون «ختامه حلوى»، فاخترنا الكنافة على الطريقة اللبنانية، والبقلاوة المحشوة بالآيس كريم، والمهلبية بالفستق الحلبي مع كأس من النعناع الطازج.

المطاعم اللبنانية في لندن متنوعة وكثيرة، بعضها دخيل على مشهد الطعام بشكل عام، والبعض الآخر يستحق الوجود والظهور والمنافسة على ساحة الطعام، وأعتقد أن «عناب» هو واحد من الفائزين؛ لأنه بالفعل من بين النخبة التي قل نظيرها من حيث المذاق والسخاء والنكهة وروعة المكان، ويستحق الزيارة.