قد يصعب تصديق أنه من رحم الحروب ودمويتها، ولدت قطع أزياء صمدت عبر الزمن، وتحدَت إيحاءاتها المرتبطة بالعنف والظُلم. ليس هذا فحسب، بل دخلت عالم الموضة من أوسع الأبواب. سلاحها هو العملية الوظيفية. ما علينا سوى ذكر المعطف الممطر Trench Coat الذي ابتكره توماس بيربري في القرن الماضي لحماية الجنود البريطانيين من عوامل الطقس وتقلباته في الخنادق، حتى نشعر بالامتنان له ولمطوريه من المصممين من بعده بعد أن أصبح قطعة لا يمكن الاستغناء عنها في خزانة المرأة والرجل على حد سواء. كذلك بنطلون «الكارغو» Cargo pants بجيوبه المتعددة، ونقشاته الحربية، والذي يرافقنا في السفر والنزهات اليومية، وأخيراً وليس آخراً جاكيت الميدان Field Jacket.

جاكيت الميدان
هذا الجاكيت وجد في الإقبال الذي تشهده السترات عموماً هذا الموسم فرصة ليتقدم للصدارة، لافتاً الانتباه بجيوبه المتعددة، والكبيرة. زاد من إشعاعه ظهور ميلانيا ترمب، زوجة الرئيس الأميركي، به مؤخراً.
صور الحرب العالمية الثانية التي وُلد فيها ومن أجلها بعيدة هي الآن عن الأذهان. جيل كامل يقرأ عنها في كتب التاريخ فقط، وبشكلها الحديث، يربطها أغلبهم بصورة مغامر مستكشف، أو أرستقراطي بريطاني في رحلة صيد يبحث فيها عن فريسة. ربما لأنه يشبه في بعض تفاصيله جاكيت السافاري، الذي أبدعه الراحل إيف سان لوران في الستينات من القرن الماضي، وكان الجاكيت العسكري الميداني مصدر إلهامه. إيف، باعتبار أنه مبدع، له نظرة فنية استثنائية، فكك إيحاءاته الحربية، وطوره بأن زاد من طوله، واقترحه بخامات مترفة تليق بأحلى المناسبات للجنسين.
بين ميلانيا والملكة ليتزيا
سبب الحديث عن هذا الجاكيت في الآونة الأخيرة إطلالتان مثيرتان لكل من ميلانيا ترمب والملكة الإسبانية ليتزيا في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. إطلالتان أثارتا الكثير من الفضول والإعجاب، نظراً لتأثيرهما البصري الأنيق.

كان ذلك عندما ظهرت الأولى بجاكيت «الميدان» في اليوم الأخير من زيارتها الرسمية لبريطانيا رفقة زوجها الرئيس دونالد ترمب. كان بتوقيع دار «رالف لوران»، ومصنوعاً من جلد الشامواه، بأربعة جيوب تحترم التصميم الأصلي. تجدر الإشارة إلى أن علامة «رالف لورين» من العلامات المفضلة لدى ميلانيا، لكن اللافت أكثر أنها تحرص منذ ولاية زوجها الثانية على الظهور بإطلالات تعكس القوة والصرامة، وكأنها في حرب مع الآخر.
في الجهة الأخرى، ظهرت الملكة ليتزيا في ثالث يوم من زيارتها مع زوجها الملك فيليبي لمصر بجاكيت بتوقيع المصممة المصرية دينا شاكر، مستوحى من جاكيت السافاري. تميَز باللون الأبيض، ومن الكتان الطبيعي حتى يناسب حرارة القاهرة، وروح المغامرة التي رافقت مستكشفي القارة السمراء والأهرامات. كانت لفتة دبلوماسية من الملكة قبل أن يكون قطعة عملية تتقاطع مع «الجاكيت العسكري» بجيوبها الكبيرة، ومناسبتها للمكان، والزمان.

فالجيوب ربما تكون السمة الملازمة للجاكيت العسكري الميداني، وأكثر ما يُميزه ويمنحه هويته. ثم تأتي خامته، والمواد التي يُصنع منها ثانياً. على الأقل في عالم الموضة. كانت هذه الجيوب، بحجمها وعددها، إلى عهد قريب حكراً على السترات الرجالية، ولا تزال إلى حد كبير. لكن ومنذ بدأ مصممون من أمثال ستيلا ماكارتني وجاكوموس وعلامة «ساكاي» يطرحونها، إلى جانب «رالف لورين» وهي تخاطب امرأة مستقلة تتوخى العملية من دون أن تتنازل عن الأناقة.
الحرب هي البداية
ولدت هذه السترة لدواعٍ حربية صرفة. كان ذلك في عام 1941، وخلال الحرب العالمية الثانية، باعتبار أنها بديل للمعطف الصوفي للحماية من قسوة الخنادق. صدرت آنذاك باسم «M-41» بوصفها قطعة أساسية في الزي العسكري الأميركي، وروعي فيها أن تأتي بقوة عزل عالية من خلال طبقة خارجية مصنوعة من قطن البوبلين، وبطانة من صوف الفلانيل المقاوم للماء والرياح. ورغم ذلك لم تكن مثالية، ولم تُوفر بطانتها عزلاً كافياً، كما لم تحمِ طبقتها الخارجية من المطر تماماً. كان هناك أيضاً تذمر في صفوف الجنود من قلة الجيوب فيها. فهذه كانت ضرورية لحمل الذخيرة، والخرائط، والمستلزمات الطبية. ومع ذلك ظل هذا التصميم معتمداً لعدم توفر بديل آخر حتى عام 1943، مع ظهور «M-43»، النموذج المحسَن.
تميز بطول ممتد يصل إلى الورك، وغطاء رأس قابل للفصل، وجيوب أمامية، وحبل شد حول الخصر، واستخدم قماشاً من قطن الساتان.
نجح في توفير ما يحتاج إليه الجنود لمواجهة قسوة الطقس، والحماية قدر الإمكان. لم يتوقف الجاكيت عن التطور. تصميم «M-50» مثلاً جاء بأزرار داخلية تسهل تركيب البطانة، كما تخلى عن بعض التفاصيل التي كانت تربطه بميادين القتال فقط. تحوّل هنا إلى زي رسمي يمكن ارتداؤه في مناسبات أخرى. بقي أكثر ما يُميِزه جيوبه الأمامية الكبيرة -اثنان على الصدر، واثنان على جانبي الخصر.
تحوله إلى رمز ثقافي
ثم جاء الإصدار الشهير «M-65» الذي ارتداه الجنود الأميركيون خلال حرب فيتنام، بأقمشة مقاومة للرياح والأمطار الغزيرة خلال موسم المونسون.

أصبح في هذه الفترة انعكاساً للتحول الثقافي الذي شهدته الولايات المتحدة الأميركية والعالم أجمع، حيث استعمله المناهضون لحرب فيتنام بوصف أنه رمز لرفض الحرب، والمطالبة بعدالة اجتماعية. كان من بينهم مشاهير من أمثال جين فوندا، وجون لينون، وغيرهما. ثم دخل عالم السينما على أنه سترة ترمز للقوة في أفلام «جيمس بوند»، و«أبوكاليبس ناو» و«رامبو».
في السبعينات، بدأ هذا التصميم يلفت الأنظار إلى جانبيه العملي والجمالي، بعد أن أدخله مصممون مثل رالف لورين عالم الموضة. وبينما اجتهد الراحل إيف سان لوران في إخفاء معالمه الحربية بأن جعله تصميماً خاصاً بالمغامرات واستكشاف ثقافات أخرى، حافظ رالف لورين على شخصيته الأصلية، ربما للحفاظ على انتمائه الأميركي. ركَز أكثر على تجديده بإدخال أقمشة مترفة، أحياناً شفافة ليخفف من صرامته، ومن ثم يضفي عليه النعومة. لا يزال يقوم بهذا لحد الآن، وهو ما ظهر جلياً في تشكيلته لربيع وصيف 2026، والتي قدمها خلال أسبوع نيويورك الأخير.

حالياً، حيث نلمس حنيناً لافتاً للماضي، يتجسّد في رغبة المصممين إعادة تفسير أيقونات من عقود مضت بلغة جديدة، وأناقة معاصرة، فإن هذا الجاكيت لم يغب عن أنظارهم. تلاعبوا عليه من خلال الخامات، واستغنوا عن تفاصيل تتطلبها ميادين الحرب، مثل القلنسوات، واللون الزيتوني، والأربطة على شكل حبال، والقبعات المربوطة بسحابات، وغيرها من التفاصيل الوظيفية. اكتسى في المقابل بألوان أكثر تنوعاً، كما اكتسب خطوطاً ناعمة تحدد الخصر بحزام يراعي متطلبات الموضة، إضافة إلى استعمال أزرار عوض أربطة، وسحابات. بيد أن الجيوب ظلت مكانها. لم تتغير شكلاً، أو عدداً.
«هوكرتي»... تُفصِلها على المقاس

وبما أن جواكيت «الميدان» مثل كل الكلاسيكيات يجب أن تكون على المقاس تنسدل على الأكتاف، وتلامس الخصر بشكل مثالي، كان من البديهي أن توليه علامات متخصصة في التفصيل على المقاس، مثل علامة «هوكرتي» Hockerty، اهتمامها. فهي تقدّم مجموعة أنيقة ومتنوعة لرجل يريد مواكبة الموضة من دون أن تُلغي إرثه التاريخي، وفق ما صرحت به العلامة قائلة: «إن تفسيرنا لهذه السترة يوجه تحية للماضي ويحترمه، لكن يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الحاضر والمستقبل. لهذا كان لا بد أن تأتي أكثر تنوعاً مما كانت عليه في أي وقت مضى».
تشرح العلامة، ومركزها في سويسرا، أنه تم حذف بعض التفاصيل الحربية الصارمة، مثل أصفاد الفيلكرو، والأربطة على شكل حبال «وما شابه من تفاصيل لم تعد هناك من حاجة إليها». صحيح أن «رجل اليوم يريد تصاميم لها تاريخ وجذور قوية، إلا أنه يريدها أيضاً أن تكون عملية وأنيقة يمكنه اعتمادها في عدة مناسبات بأسلوب يمنحه الثقة والراحة... وتظهر رشاقته». طبعاً مع مراعاة أن تناسب القطعة كل المواسم. في الشتاء يمكن استعمالها مع كنزة صوفية سميكة، وفي الربيع مع قميص من القطن أو «تي-شيرت». وفي كل الحالات، فإن الرسالة واحدة: منح الحماية والثقة، وتحقيق السلام.
















