في زمنٍ تتسارع فيه الموضة، وتختفي فيه الفواصل بين العواصم، يطل القفطان المغربي ليؤكد أنه ليس مجرد زي تقليدي، بل خطاب جمالي متجدد قادر على عبور الأزمنة والثقافات... هذا ما أكده العرض الذي قدمته مؤخراً المصممة المغربية لمياء عقيل. كان في جدة؛ المدينة التي تخطو بثبات نحو أن تكون منصة إقليمية للموضة، وكان استثنائياً جمع بين الأصالة والابتكار... اختتمه بقفطان أخضر وأبيض مستوحى من ألوان العلم السعودي، في لفتة رمزية تتجاوز البعد الجمالي لتعبّر عن الامتداد الثقافي بين المغرب والسعودية.
من «الجلابة» إلى «القفطان العصري»
لمياء عقيل بدأت خطواتها الأولى مع تصميم «الجلابة» والعباية، بوصفهما رمزاً للراحة والعملية والأناقة، قبل أن يقودها شغفها بالتصميم إلى القفطان المغربي، حيث وجدت في هذا الزي التراثي فضاءً أوسع للتجريب والابتكار. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «قصصي الأولى كانت مع الجلابة والعباية. أما اليوم فهذه تجربتي الثانية مع القفطان المغربي بعد عرضي الأول في الدار البيضاء، واخترت أن يكون العرض الثاني لي في السعودية».

قدمت عقيل في العرض 15 قفطاناً، صُممت جميعها بلمسات عصرية تلبي مختلف الأعمار والمناسبات. المصممة علقت: «هي قفاطين تقديمية، لكنها بأسلوب حديث فيه تغيير في القصّات وتنوع يظهر في أشكال القصة والتطريز».
قفطان سعودي الهوى
القطعة التي اختتمت العرض كانت الأشد لفتاً للأنظار بما تتضمنه من معاني محبة: قفطان بألوان العلم السعودي. تقول عقيل إنها أرادته مُعبراً «عن الامتداد والاعتزاز». وتتابع: «لهذا تعمدت أن أصممه خصيصاً لهذه المناسبة وأختتم به العرض بوصفه عربون محبة». كان التجاوب مع هذه اللفتة إيجابياً، خصوصاً أنها وضعت القفطان في قلب الحوار الثقافي بين بلدين وسيلةً للتعبير عن الهوية المشتركة والانفتاح المتبادل.

شهر كامل من التفاصيل
القفطان بالنسبة إلى عقيل ليس مجرد ثوب، بل عمل فني يستغرق وقتاً طويلاً لينضج. تشرح أنه يحتاج في العادة شهراً كاملاً ليكتمل؛ لأن التطريز يجري مباشرة على القماش على يدَيْ حرفي يُعرف في المغرب باسم «المعلم». وأحياناً أخرى تحتاج القطعة إلى رسامة مختصة تضع الشكل على «التوب»، ثم يبدأ التطريز بدقة فائقة.
الابتكار بالنسبة إلى عقيل ليس ترفاً، بل ضرورة، فهي تقدم القفطان المغربي بأسلوب جديد، وتدخل دائماً عناصر عصرية لكي تجمع بين الأصالة والإبداع. كما أن «الحفاظ على التراث المغربي الأصيل مهم، مع ضرورة تجديده والإبداع فيه بدل استنساخه. فالسوق مليئة بالتصاميم، ويجب أن تكون لكل مصممة بصمة خاصة».

القفطان في مرآة التجارب العالمية
تجربة القفطان لا يمكن النظر إليها بمعزل عن مسار عالمي طويل جعل من الأزياء التقليدية رموزاً ثقافية عابرة للحدود. «الكيمونو» الياباني، مثلاً، خرج من حدود طوكيو وكيوتو ليصبح قطعة يتبناها مصممون عالميون، مثل جون غاليانو (John Galliano)، وألكسندر ماكوين (Alexander McQueen). «الساري» الهندي بدوره صعد إلى منصات العرض الأوروبية والأميركية، مقدماً صورة عن الهوية الهندية الممزوجة بالحداثة.
في السياق نفسه، تعيش العباءة الخليجية اليوم مرحلة تحوّل لافتة، حيث أعادت دور أزياء في دبي والرياض صياغتها لتصبح عنصراً في الموضة العالمية، لا مجرد زي محلي.

«القفطان» المغربي يسير على النهج ذاته، لكنه يمتلك خصوصية مختلفة؛ إذ إنه من أول الأزياء العربية التي انتقلت باكراً إلى العالمية. كما قالت عقيل: «الحمد لله أن القفطان المغربي وصل إلى العالمية. تجده في كل مكان وفي جميع المناسبات المهمة».
جدة... بوابة إلى العالمية
أن تختار لمياء عقيل جدة لتقديم عرضها الثاني، فهذا ليس مجرد قرار جغرافي، بل هو إشارة إلى أن السعودية تتحول إلى مركز إقليمي للموضة، من خلال مؤسسات مثل «هيئة الأزياء»، ومنصات مثل «أسبوع الموضة السعودي». ما لا يختلف عليه اثنان أن جدة والرياض أصبحتا محط أنظار المصممين الدوليين. عرض عقيل، الذي جاء ضمن فعاليات «المعرض السعودي الثالث للموضة والمنسوجات»، الذي استقطب أكثر من 550 عارضاً من 25 دولة، وبحضور تجاوز 10 آلاف زائر من المصممين والمستثمرين ورواد الأعمال وعشاق الموضة، جاء ليؤكد أن القفطان المغربي يمكن أن يجد في السعودية جسراً نحو العالمية؛ تماماً كما وجد «الكيمونو» في باريس، و«الساري» في لندن ونيويورك.
«القفطان» اليوم يقف أمام فرصة تاريخية، فإذا ما استُثمر في تطويره وتسويقه وحمايته بوصفه تراثاً غير مادي، فإنه يمكن أن يتحول إلى ما يشبه «العلامة الجغرافية» التي ترتبط بالمغرب لكنها تعكس في الوقت ذاته هوية عربية واسعة، مما يجعل تجربة لمياء عقيل ليست مجرد عرض، بل بداية لرحلة جديدة ومثيرة في ساحة الموضة العربية والعالمية.
















