مجوهرات «بوغوصيان»... رحلة قصور تصل إلى العالم من طريق الحرير

الإبداع قد يُخلَق من الحجر

من كل قصر وجزئية فيه استلهم حرفيو دار «بوغوصيان» مجوهرات تصرخ بالفخامة والإبداع (بوغوصيان)
من كل قصر وجزئية فيه استلهم حرفيو دار «بوغوصيان» مجوهرات تصرخ بالفخامة والإبداع (بوغوصيان)
TT

مجوهرات «بوغوصيان»... رحلة قصور تصل إلى العالم من طريق الحرير

من كل قصر وجزئية فيه استلهم حرفيو دار «بوغوصيان» مجوهرات تصرخ بالفخامة والإبداع (بوغوصيان)
من كل قصر وجزئية فيه استلهم حرفيو دار «بوغوصيان» مجوهرات تصرخ بالفخامة والإبداع (بوغوصيان)

القصور والمباني المعمارية، لم تكن يوماً مجرد سكن لأصحابها. كانت تعبيراً عن مدى ازدهار عهدهم وتطلعاتهم السياسية. كما كانت بمعمار فريد شهد على السلطة والقوة ورؤية بعيدة المدى. هذا ما اكتشفه ألبرت بوغوصيان خلال رحلاته.

ألبرت، هو من الجيل السادس لعائلة بوغوصيان المعروفة بمجوهراتها الرفيعة. تأسست في عام 1868 في أرمينيا، ثم انتقلت إلى حلب بسوريا في أوائل القرن العشرين، ثم بيروت، وأخيراً إلى جنيف.

يقول إن السفر يجري في عروق العائلة. بدأ مع الجد الكبير، مؤسس الدار أوفانيس بوغوصيان الذي كان يحرّكه حسّه التجاري وفضوله الفني. كانت طريق الحرير آنذاك هي المسار الذي يسلكه المستكشفون والتجار من الغرب بحثاً عن كنوز الشرق. هذه الطريق نفسها تقفى أثرها ألبرت بعد مرور قرنين من الزمن تقريباً. فقد ورث عن جده فضوله لاكتشاف ثقافات بعيدة يغرف من منابعها ما يُغني تصاميم الدار ويُثْريها.

القاعة البيضاء في قصر غولستان ألهمت بزخرفاتها وإضاءتها طقماً يحاكي التحفة الفنية (بوغوصيان)

خلال هذه الرحلات، وصل إلى قناعة بأن عظمة المعمار وفنيته الهندسية والحرفية أرقى أشكال الفنون التي يمكن الاستلهام منها. أول تجربة له كانت في قصر تاج محل. كان عمره لا يتعدى الثامنة عشرة، ولم ينس لحد الآن كيف انبهر بزخرفاته وجمالياته. كانت اللحظة التي وقف فيها أمام أسواره وحتى قبل أن يدخله، حاسمة. أثْرت حسه الفني والمهني على حد سواء. يقول إنها لحظة علمته كيف يمكن أن تعكس القصور فناً عابراً للأجيال، ليس لصلابة الحجر الذي بُنيت بها، بل لكمية الحرفية والفنية التي تغطي الجدران والأسقف والأرضيات. استخلص منها أن الإبداع يمكن فعلاً أن يُخلق من الحجر.

مرت سنوات وعقود على هذه الرحلة، زار خلالها قصوراً أخرى كثيرة أكدت له صحة إحساسه الأول؛ لهذا كانت مجموعة المجوهرات التي تم طرحها هذا العام بعنوان رحلة عبر القصور مسألة وقت فقط.

قصر الريجنسي بمدينة برايتون ألهم مجموعة من المجوهرات بطبيعته ومعماره (بوغوصيان)

اختزل فيها تجاربه وقناعاته. استغرق تصميمها وتنفيذها 4 سنوات، تمخَضت عن ولادة 70 قطعة تشمل خواتم وأقراط أذن وعقود وأساور. كل طقم منها مستوحى من قصر من قصور تاريخية رائعة، وبالتالي فإن كل جزئية فيها تُجسِّد زخرفة عمود في بهو قصر، أو نقشات جص في سقف، أو مشربية صغيرة يخترقها الضوء في آخر، وهكذا. فيها كلها، طوع المعادن الثمينة واستعمل الأحجار بسخاء.

عقد مستوحى من قصر غولستان (بوغوصيان)

بالنسبة له، فإن لكل قصر قصة، ولكل جزئية فيه أبطالها وأحجارها الكريمة، سواء كانت المقرنصات المزخرفة في قصر الباهية بمراكش، أو المرايا والزجاج في قصر غولستان في طهران، أو البوابات الكبرى في قصر جايبور وغيرها.

قصر تشيانلونغ

قاعة من قاعات قصر تشيانلونغ الذي يشكّل جزءاً من المدينة المحرّمة في بكين (بوغوصيان)

تأثير قصر تشيانلونغ تجسَّد في قلادة تتوسطها زهرة طافية بزخرفات صينية كلاسيكية (بوغوصيان)

مثلاً، ظهرت تفاصيل قصر تشيانلونغ الذي أمر الإمبراطور تشيانلونغ ببنائه في عام 1771، والذي يشكل جزءاً من المدينة المحرّمة في بكين، في قطع عدة، منها قلادة Tranquil Magnolia «مانغوليا هادئة» تتوسطها زهرة مركزية تستحضر الزخرفة الصينية الكلاسيكية للفرع المزهر، محفورة من أم اللؤلؤ، تبدو وكأنها تطفو داخل القطعة مرصعة بالماس وملونة بالأخضر.

القصر الكبير

جانب من القصر الكبير الذي يظهر فيه بوذا والتنين من الذهب انعكست على مجوهرات من الماس الأصفر والأبيض (بوغوصيان)

بُني في بانكوك عام 1782 مقرّاً لإقامة ملوك سيام، ظهر في مجموعة Shimmering Rays ليعكس شدّة اللمعان الذي يتميز به القصر إلى جانب الأعمدة وصور التنين التي تزين الكثير من أركانه. حرفيو الدار ركزوا على بريقها الذهبي، الذي يسطع مثل أشعة الشمس، باستعمال الماس الأصفر والأبيض.

قصر برسيبوليس

قصر برسيبوليس الواقع في جبال زاغروس بإيران لا يزال حاضراً في شتى الفنون بأطلاله وألوانه (بوغوصيان)

يقع في جبال زاغروس بإيران وشُيِّد في القرن السادس قبل الميلاد. أطلاله لا تزال شاهدة على منصاته وسلالمه العالية. ترجمت دار «بوغوصيان» الطوب المستخدم في بناء لوحاته الجدارية وبواباته مزججاً بالأزرق والأصفر في عقد «بوابة بابل» Babylon Gate. غني عن القول أن القطعة تتميّز بأشكال هندسية جريئة واستخدام التماثل لإضفاء طابع رسمي. وتعكس أحجار اللازورد المنحوتة والفيروز والمرجان، تباين الظلال الزرقاء والبرتقالية من العمارة.

بينما تُترجم مجموعة لوتس اللازورد Lapis Lotus الزهرة التي تظهر في النقوش البارزة للقصر، بالماس والفيروز واللازورد والعقيق وي برسيبوليس، لتعكس التجدّد.

قصر غلستان

مجموعة متاهة المرايا لقصر غولدستان اعتمدت تقنية النحت بكل الألوان لتعكس المرايا واللوحات (بوغوصيان)

شُيِّد وسط طهران في القرن السادس عشر، ويُعرف باسم «قصر حديقة الورود»، ويغلب عليه طابع المعمار التقليدي في عصر القاجار. كانت قاعة المرايا الشهيرة أكثر ما شد انتباه حرفيي «بوغوصيان». يقول ألبرت إن هذه القاعة استغرق بناؤها أربع سنوات، وتجسدت عبقرية المهندسين والحرفيين في هذه المرايا التي غطت كل الجوانب، وهو ما عبَّر عنه في مجموعة Mirror Maze «متاهة المرايا». مجموعة تغلب عليها تقنية النحت وأحجار الياقوت الأحمر والوردي والأزرق، الزمرد، الفيروز، والماس هندسة القاعة واللوحات المزخرفة بالزجاج الملوّن.

أمارنا

«بردية الملكة» في قصر أمارنا (بوغوصيان)

لم ينس ألبرت زيارة «أمارنا» المدينة التي بُنيت في عهد الفرعون أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. انبهر بأطلال القصر الشمالي، الذي بُني لزوجته نفرتيتي، وكيف برزت فيه أساليب الفنون المصرية القديمة لهذه الفترة، مع تحوّل واضح نحو أسلوب أكثر حرية وعفوية. وتُظهر شظايا من لوحات تُعزى إلى «الغرفة الخضراء» في قصر أمارنا تفسيراً لنقوش البردي التقليدية، بشكل هندسيّ أكثر تجريداً.

طقم يغلب عليه اليشم الأخضر والزمرد والماس والسفير في إشارة إلى «الغرفة الخضراء» في «أمارنا» (بوغوصيان)

من هذه الإيحاءات، ولدت مجموعة «بردية الملكة» Queen’s Papyrus مصنوعة من اليشم الأخضر، والزمرد والماس، حيث تشير الألوان الخضراء إلى «الغرفة الخضراء» في أمارنا وتاريخ الزمرّد الذي استُخدم حتى في مصر القديمة منذ عام 1500 قبل الميلاد. ويمنح التزاوج بين الزمرد البراق واليشم الأخضر غير المصقول، إحساساً بالمفاجأة يعكس التحوّل الإبداعي في فترة بناء أمارنا، وكذلك التباين بين القطع الحادّ لرؤوس البردي والشعور الأكثر استدارة في القاعدة.

قصر الباهية

تجسَّدت زخرفات الأسقف والخشب في قصر باهية في مجوهرات دافئة بتقنيات حرفية عالية (بوغوصيان)

أما رياض الألوان في مراكش، فكان له أيضاً تأثير على المخيلة الإبداعية. فالقصر الذي شُيِّد في أواخر القرن التاسع عشر من قِبل سي موسى، الوزير الأكبر للسلطان مولاي الحسن الأول، صُمّم على مساحة ثمانية هكتارات وزُخرف بحرفية عالية وفق التقاليد المغربية اليدوية. تبرز هذه الزخارف في كل تفاصيلها، بدءاً من المقرنصات إلى أسقف خشب الأرز المطلية.

وهذا ما عكسته مجموعة Mosaic Haven «ملاذ الفسيفساء» بلونها الأحمر الغني، والمستوحاة من أعمال الشبك الخشبي للفناء والسقف. ويعرض السوار والأقراط أيضاً تقنيات فائقة التعقيد من أعمال الشبك، مع التلاعب بفكرة الألوان المتباينة في النمط المستخدم في القصر نفسه من خلال طبقتين من اليشم الأخضر، والأوبال الوردي، والفيروز، مغلفتين بالياقوت البنفسجي، والماس الأصفر، وعقيق الإسبسارتين.

القلعة الحمراء

في ورش بوغوصيان تم تطوير تقنية فريدة للترصيع لمحاكاة الجدران والأسقف في قصر الحمراء (بوغوصيان)

يُعدّ قصر الحمراء من أشهر نماذج فنّ العمارة الإسلامية. يقع على تلة السبيكة فوق مدينة غرناطة الإسبانية، شاهداً على الوجود العربي في أوروبا بين القرنين الثامن والخامس عشر. بُني قصر الحمراء في القرن الثالث عشر، ولا يزال نصباً تذكارياً يزوره الكثير من الناس حتى يومنا هذا. ويبرز جمال وزخرفة القصر بشكل خاص في المقرنصات، التي تمثّل المستويات السبعة للسماء.

في ورش بوغوصيان تم تطوير تقنية فريدة لترصيع الماس الأبيض والأصفر في طقم Seven Realms، لمحاكاة السقف الخشبي الأصلي في قاعة السفراء، وتبدو فيه الماسات بأشكالها المختلفة وكأنها تطفو، في تعبير تجريدي عن الأنماط الهندسية الموجودة داخل القاعة.


مقالات ذات صلة

عزة فهمي... تحمل عشقها للغة الضاد والتاريخ العربي إلى الرياض

لمسات الموضة (عزة فهمي) play-circle 00:24

عزة فهمي... تحمل عشقها للغة الضاد والتاريخ العربي إلى الرياض

من تلميذة في خان الخليلي إلى «معلمة» صاغت عزة فهمي طموحها وتصاميمها بأشعار الحب والأحجار الكريمة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أساور من مجموعة «إيسانسييلي بولاري» مزيَّن بتعويذات (أتولييه في إم)

«أتولييه في إم» تحتفل بسنواتها الـ25 بعنوان مستقل

«أتولييه في إم» Atelier VM واحدة من علامات المجوهرات التي تأسست من أجل تلبية جوانب شخصية ونفسية وفنية في الوقت ذاته.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة جانب من جلسات العام الماضي في الرياض (هارودز)

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

في ظل ما تمر به صناعة الترف من تباطؤ وركود مقلق أكدته عدة دراسات وأبحاث، كان لا بد لصناع الموضة من إعادة النظر في استراتيجيات قديمة لم تعد تواكب الأوضاع…

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)

عزة فهمي... تحمل عشقها للغة الضاد والتاريخ العربي إلى الرياض

TT

عزة فهمي... تحمل عشقها للغة الضاد والتاريخ العربي إلى الرياض

(عزة فهمي)
(عزة فهمي)

في ليلة دافئة من ليالي مدينة الرياض وقبل نهاية عام 2024 بأشهر قليلة، سطعت النجوم لتنافس بريق حضور تتقدمه يسرا وهند صبري وفاطمة البنوي إلى جانب باقة من الشخصيات المبدعة والمؤثرة في مجالات الفن والترف والجمال. المناسبة كانت افتتاح أول محل رئيسي لنجمة أخرى هي عزة فهمي.

فنانة تعتز بكل ما هو عربي أصيل وتُروجه للعالم في أجمل حالاته. فهي ترى الجمال في مشربيات البيوت القديمة وفي غموض الفراعنة كما في قصور المماليك وأشعار الشعراء وأغاني أم كلثوم وتفتُّح الورود وأجنحة الطيور. أي كل شيء يتحرك لتلتقطه عيناها. تختزل كل هذا في حليٍّ تحكي ألف قصة وقصة بخط عربي واضح، يزيد من جماله توظيفها فيه للفضة والذهب والأحجار الكريمة. كانت أول من فعل ذلك في العالم العربي لتتحول إلى مدرسة.

عزة فهمي مع النجمة يسرا في محلها الجديد بالرياض (عزة فهمي)

رباعيات صلاح جاهين

تقول إن فترة السبعينات من القرن الماضي كانت حقبة مهمة في تكوينها الفني. كان شعراء من أمثال عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وصلاح جاهين ضمن دائرة أصدقائها إلى جانب فنانين من مجالات أخرى مثل النحت والتصوير والسينما. تتذكر أن أول بيت شعر استعملته كان للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، وكان على سلسلة مفاتيح. أتبعته بمجموعة لرباعيات صلاح جاهين، لقيت صدى كبيراً، وفق ما تقول: «كانت هذه الرباعيات تلخص فلسفة الدنيا كلها. كل شخص كان بيلاقي نفسه في رباعية معينة، وهو ما أشعرني كم أنا محظوظة أني من هذه البقعة من العالم لما تحتويه من كنوز ثقافية فنية قديمة وحديثة على حد سواء».

عقد من مجموعة «ثريا» مستوحى من الطراز العثماني تتوسطه كلمة «سعادة»... (عزة فهمي)

حب مصر

هذا التفنن السردي الذي تصبه في مجوهراتها، ورثت جانباً كبيراً منه عن والدها، الذي تقول إنه «كان قارئاً نهماً وعاشقاً للثقافة العربية على وجه الخصوص... منه تعلمت أن أحب مصر، شعبها، وعمارتها، وأرضها».

ومع كل هذا الحب لمصر، كان توسعها خارجها مسألة وقت فقط. فمن ورشة صغيرة في حلوان ثم في «بولاق الدكرور» المنطقة الشعبية المواجهة للمهندسين بالقاهرة، بدأت تصاميمها تنتشر وتشد انتباه العالم، لا سيما بعد أن تزينت بها مثيلات لايدي غاغا وغلين كلوز وناعومي كامبل وقبلهن يسرا وسعاد حسني وأسمهان ونعيمة عاكف وسامية جمال وغيرهن كثيرات، فضلاً عن استقبال متاحف مثل «السميسونيان» في واشنطن إبداعاتها.

بادلتها لغة الضاد الحب ذاته، إذ لمست تصاميمها وتراً حساساً لدى كل امرأة تفهم الشعر وتسمع أغاني الحب، وتريد أن تتزين بهويتها أو فقط أن تجعل من مجوهراتها مفتاحاً لأحاديث ممتعة في سهراتها الطويلة.

بداية الشغف

تتذكر عزة أن الطريق لم يكن معبَّداً بالورود، لكنه كان واضحاً أمامها. شعرت منذ الصبا أن حسها الفني لا يضاهيه سوى طموحها الكبير للتميز، لهذا استقالت من عملها الحكومي لتتفرغ لممارسة فنها. ولكي تُتقنه ويأتي بالمستوى المطلوب، استعانت في البداية بـ«معلمي» خان الخليلي. تتعلم منهم وتتعامل معهم. لكن حتى هؤلاء، أدركت بعد وقت أن طموحاتها تفوق إمكاناتهم وتقنياتهم. ما كان يدور في خيالها من أفكار وصور تريد أن تجسدها في قلادات أو أساور أو أقراط وخواتم كان جديداً عليهم. تقول في مذكراتها «أحلام لا تنتهي»: «كان أمل حياتي أن أدرس في الكلية الملكية لفنون الحلي والمجوهرات بلندن حتى أصقل موهبتي وأتمرس في تنفيذ أفكاري وترتيب تلك الصور التي تتراكم في خيالي بشكل متسارع».

سوار من مجموعة «ثريا» مستوحى من الطراز العثماني تتوسطه كلمة «سعادة»... (عزة فهمي)

تحقق الحلم وتعلمت في عاصمة الضباب فنون التصميم وتطبيق النظريات بشكل علمي وتقني. والأهم تعلمت كيف تنفذ التصاميم بنفسها، وهذا يعني أنها تحررت من أسْر الاعتماد على الغير. تشير في مذكراتها: «حينها فقط، شعرت أني أستطيع تنفيذ تصميمات معقَّدة وجديدة وأنا في غاية السعادة».

من تلميذة إلى معلمة

كانت دراستها ثم تخرجها نقطة تحول مهمة في مسيرتها، إذ منحتها القدرة والثقة على التعامل مع الحرفيين بندية. تقول: «قبل لندن كنت عندما أطلب منهم أحياناً تنفيذ رسمة معقدة بعض الشيء يأتيني ردهم: مينفعش يا باشمهندسة». يُسهبون في تبرير الأسباب، فيُفحمونها، لتقف مكتوفة اليد. لكن بعد لندن تغيَّر كل شيء؛ «أصبحت لديّ الثقة في أن أردّ عليهم، وأنا متسلحة بقدرتي على تنفيذها بنفسي». كانت تقوم بذلك على مرآهم لـ«أبرهن لهم أن كل شيء ممكن». وهكذا تحولت التلميذة إلى معلمة، وتغير لقبها لدى الحرفيين من «باشمنهدسة» إلى «الأسطى المعلم».

أقراط أذن من مجموعة «حكايات النيل» مكتوب عليها كلمة «الوصال» للتعبير عن الحب الأبديّ (عزة فهمي)

تتحسر على تلك الأيام وهي تقول كم أنها تفتقد العمل بيدها: «لقد أخذتني مشاغل الحياة وأصبحت مجرد مصممة لا منفِّذة». ثم تستطرد قائلةً بنظرة رضا إنها كسبت نفسها في المقابل.

في دردشة حميمة معها على ضفاف نهر النيل منذ نحو عام تقريباً، ذكرت لي أنها الآن أكثر هدوءاً وتصالحاً مع نفسها، إذ باتت ترى العالم من منظور مفعم بالسكينة والإيجابية، بعد أن ابتعدت عن توترات الحياة وضغوطها. تنصحني باليوغا التأملية وهي تعدِّد لي محاسنها وتأثيراتها، وتقول إنها لا تستغني عنها أبداً. بل تؤكد أن سفرها لممارستها والتمرس فيها في أماكن مختلفة من العالم، بات تقليداً سنوياً لا تحيد عنه.

كلامها عن هذا الهدوء النفسي والروحي الذي ارتقت إليه، لا يُشعرك بأنه خفف الشعلة الإبداعية بداخلها ولا تعصبها لعروبتها. لا تزال «الأسطى المعلم» حتى بعد أن سلَّمت جانباً كبيراً من أمور عملها لابنتيها، فاطمة وأمينة غالي.

فاطمة، وهي كبرى بناتها، تقوم منذ سنوات بدور الرئيس التنفيذي لما تتمتع به من دراية بإدارة الأعمال وتعرف تماماً ما تحتاج إليه علامة «عزة فهمي» من تطوير من دون المساس بجيناتها.

أمينة غالي ابنة عزة فهمي مع ضيفاتها في الرياض (عزة فهمي)

أما أمينة غالي، صغرى بناتها، فالتحقت بالعمل مع والدتها في عام 2005. رافقتها كظلها لثلاث سنوات تقريباً، تتعلم منها كل صغيرة وكبيرة وتتشرب منها مبادئ الدار وأسسها قبل أن تصبح المديرة الفنية حالياً. لكنّ فاطمة وأمينة تعترفان بأن والدتهما لا تزال القائد الذي لا يقبل بأنصاف الحلول. أما عزة فتقول بنبرة فخر إنهما إضافة رائعة لها «نحن من جيلين مختلفين لكن يكمل بعضنا بعضاً بشكل متناغم».

الهوية العربية... خط أحمر

ما يُثلج الصدر في هذه المسيرة، إلى جانب أن عزة لا تزال تمسك بكثير من خيوط الدار بيد فنانة وأم، أنها لا تتهاون في أي شيء يرتبط بما هو عربي أو مصري، من ثقافة وفنون وتقاليد وتاريخ. ربما الآن أكثر من أي وقت سابق نظراً إلى توسعها في مناطق مختلفة من العالم.

افتتاح أول متجر رئيسي لعزّة فهمي في المملكة العربية السعودية حدث يعزّزها جسراً يربط بين التراث والفخامة (عزة فهمي)

لا تُنكر أن وجودها في لندن لسنوات، في «بيرلنغتون أركايد» بمنطقة «مايفير»، كان محطة رئيسية لعلامتها، إلا أن افتتاح أول محل رئيسي في مركز المملكة التجاري بمدينة الرياض، له نكهة أخرى. فهو إنجاز استراتيجي تعتز به، نظراً للشعبية التي تحظى بها في المنطقة منذ عقود. فلها فيها زبونات مخلصات قدَّرن فنّها منذ السبعينات. تشرح أن هذه الخطوة هي ثمرة لشراكة عمرها 14 عاماً تقريباً مع شركة «عطّار المتحدة»، التي فهمت جينات «عزة فهمي» واقتنعت بها، وهو الأمر الذي يتجلى في كل تفصيلة من تفاصيل ديكورات المحل، من الألوان والنقشات إلى الثريات مروراً بطاولات العرض والقطع المعروضة عليها بكل حب.

احترم مصممو ديكور المحل الجديد أن تصاميمها بمثابة جسر يجمع العراقة بالأصالة (عزة فهمي)

فالمحل يتنفس جيناتها وفلسفتها إلى جانب الفخامة التي يفرضها المكان ومدينة الرياض. ما يُحسب لمصممي الديكور استيعابهم أن المتجر سيكون بمثابة جسر يربط بين التراث والفخامة، وهذا ما جعل تصميمه يتعدى كونه مجرّد مساحة أنيقة وشاسعة لعرض الحليّ والمجوهرات الرفيعة، بل جاء امتداداً لرؤية عزّة والتزامها بالحرفية بوصفها تراثاً ثقافياً عابراً للأجيال.

كلمة «حب» التي تظهر في كثير من القطع المنزلية كما في قطع مجوهرات مثلاً لم تأتِ من فراغ، فهي تعكس شخصيتها وأسلوبها في التصميم على حد سواء. هي التي تكرر دائماً أنها لا تستطيع أن تقوم بأي شيء لا تحبه «لأنني أعرف مسبقاً أنه لن يكون جيداً وسيفتقر إلى شيء مهم».

قلادة من مجموعة «حكايات النيل» التقى فيها الآرت ديكو مع التراث المصري (عزة فهمي)

بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لافتتاح محل رئيسي في الرياض، فإن الافتتاح نفسه لم يكن مجرد مناسبة اجتماعية تضم نجوم المجتمع والفن والمال والأعمال فحسب. كان احتفالاً برحلة عزّة فهمي على مدى 55 عاماً، متتبعاً أهم محطاتها الإبداعية من خلال مجموعات أيقونية وأخرى جديدة مثل مجموعة «حكايات النيل» التي عُرضت أول مرة في يوم الافتتاح، وقالت عزة فهمي إنها تُجسد قصصاً ملهمة من التراث المصري الأصيل، تجمع الماضي بالحاضر. كل قطعة منها تحاكي لوحة فنية في ظاهرها، وتسرد حكاية من حكايات الحب الأبديّ في مضمونها وكلماتها.