القصور والمباني المعمارية، لم تكن يوماً مجرد سكن لأصحابها. كانت تعبيراً عن مدى ازدهار عهدهم وتطلعاتهم السياسية. كما كانت بمعمار فريد شهد على السلطة والقوة ورؤية بعيدة المدى. هذا ما اكتشفه ألبرت بوغوصيان خلال رحلاته.
ألبرت، هو من الجيل السادس لعائلة بوغوصيان المعروفة بمجوهراتها الرفيعة. تأسست في عام 1868 في أرمينيا، ثم انتقلت إلى حلب بسوريا في أوائل القرن العشرين، ثم بيروت، وأخيراً إلى جنيف.
يقول إن السفر يجري في عروق العائلة. بدأ مع الجد الكبير، مؤسس الدار أوفانيس بوغوصيان الذي كان يحرّكه حسّه التجاري وفضوله الفني. كانت طريق الحرير آنذاك هي المسار الذي يسلكه المستكشفون والتجار من الغرب بحثاً عن كنوز الشرق. هذه الطريق نفسها تقفى أثرها ألبرت بعد مرور قرنين من الزمن تقريباً. فقد ورث عن جده فضوله لاكتشاف ثقافات بعيدة يغرف من منابعها ما يُغني تصاميم الدار ويُثْريها.
خلال هذه الرحلات، وصل إلى قناعة بأن عظمة المعمار وفنيته الهندسية والحرفية أرقى أشكال الفنون التي يمكن الاستلهام منها. أول تجربة له كانت في قصر تاج محل. كان عمره لا يتعدى الثامنة عشرة، ولم ينس لحد الآن كيف انبهر بزخرفاته وجمالياته. كانت اللحظة التي وقف فيها أمام أسواره وحتى قبل أن يدخله، حاسمة. أثْرت حسه الفني والمهني على حد سواء. يقول إنها لحظة علمته كيف يمكن أن تعكس القصور فناً عابراً للأجيال، ليس لصلابة الحجر الذي بُنيت بها، بل لكمية الحرفية والفنية التي تغطي الجدران والأسقف والأرضيات. استخلص منها أن الإبداع يمكن فعلاً أن يُخلق من الحجر.
مرت سنوات وعقود على هذه الرحلة، زار خلالها قصوراً أخرى كثيرة أكدت له صحة إحساسه الأول؛ لهذا كانت مجموعة المجوهرات التي تم طرحها هذا العام بعنوان رحلة عبر القصور مسألة وقت فقط.
اختزل فيها تجاربه وقناعاته. استغرق تصميمها وتنفيذها 4 سنوات، تمخَضت عن ولادة 70 قطعة تشمل خواتم وأقراط أذن وعقود وأساور. كل طقم منها مستوحى من قصر من قصور تاريخية رائعة، وبالتالي فإن كل جزئية فيها تُجسِّد زخرفة عمود في بهو قصر، أو نقشات جص في سقف، أو مشربية صغيرة يخترقها الضوء في آخر، وهكذا. فيها كلها، طوع المعادن الثمينة واستعمل الأحجار بسخاء.
بالنسبة له، فإن لكل قصر قصة، ولكل جزئية فيه أبطالها وأحجارها الكريمة، سواء كانت المقرنصات المزخرفة في قصر الباهية بمراكش، أو المرايا والزجاج في قصر غولستان في طهران، أو البوابات الكبرى في قصر جايبور وغيرها.
قصر تشيانلونغ
مثلاً، ظهرت تفاصيل قصر تشيانلونغ الذي أمر الإمبراطور تشيانلونغ ببنائه في عام 1771، والذي يشكل جزءاً من المدينة المحرّمة في بكين، في قطع عدة، منها قلادة Tranquil Magnolia «مانغوليا هادئة» تتوسطها زهرة مركزية تستحضر الزخرفة الصينية الكلاسيكية للفرع المزهر، محفورة من أم اللؤلؤ، تبدو وكأنها تطفو داخل القطعة مرصعة بالماس وملونة بالأخضر.
القصر الكبير
بُني في بانكوك عام 1782 مقرّاً لإقامة ملوك سيام، ظهر في مجموعة Shimmering Rays ليعكس شدّة اللمعان الذي يتميز به القصر إلى جانب الأعمدة وصور التنين التي تزين الكثير من أركانه. حرفيو الدار ركزوا على بريقها الذهبي، الذي يسطع مثل أشعة الشمس، باستعمال الماس الأصفر والأبيض.
قصر برسيبوليس
يقع في جبال زاغروس بإيران وشُيِّد في القرن السادس قبل الميلاد. أطلاله لا تزال شاهدة على منصاته وسلالمه العالية. ترجمت دار «بوغوصيان» الطوب المستخدم في بناء لوحاته الجدارية وبواباته مزججاً بالأزرق والأصفر في عقد «بوابة بابل» Babylon Gate. غني عن القول أن القطعة تتميّز بأشكال هندسية جريئة واستخدام التماثل لإضفاء طابع رسمي. وتعكس أحجار اللازورد المنحوتة والفيروز والمرجان، تباين الظلال الزرقاء والبرتقالية من العمارة.
بينما تُترجم مجموعة لوتس اللازورد Lapis Lotus الزهرة التي تظهر في النقوش البارزة للقصر، بالماس والفيروز واللازورد والعقيق وي برسيبوليس، لتعكس التجدّد.
قصر غلستان
شُيِّد وسط طهران في القرن السادس عشر، ويُعرف باسم «قصر حديقة الورود»، ويغلب عليه طابع المعمار التقليدي في عصر القاجار. كانت قاعة المرايا الشهيرة أكثر ما شد انتباه حرفيي «بوغوصيان». يقول ألبرت إن هذه القاعة استغرق بناؤها أربع سنوات، وتجسدت عبقرية المهندسين والحرفيين في هذه المرايا التي غطت كل الجوانب، وهو ما عبَّر عنه في مجموعة Mirror Maze «متاهة المرايا». مجموعة تغلب عليها تقنية النحت وأحجار الياقوت الأحمر والوردي والأزرق، الزمرد، الفيروز، والماس هندسة القاعة واللوحات المزخرفة بالزجاج الملوّن.
أمارنا
لم ينس ألبرت زيارة «أمارنا» المدينة التي بُنيت في عهد الفرعون أخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. انبهر بأطلال القصر الشمالي، الذي بُني لزوجته نفرتيتي، وكيف برزت فيه أساليب الفنون المصرية القديمة لهذه الفترة، مع تحوّل واضح نحو أسلوب أكثر حرية وعفوية. وتُظهر شظايا من لوحات تُعزى إلى «الغرفة الخضراء» في قصر أمارنا تفسيراً لنقوش البردي التقليدية، بشكل هندسيّ أكثر تجريداً.
من هذه الإيحاءات، ولدت مجموعة «بردية الملكة» Queen’s Papyrus مصنوعة من اليشم الأخضر، والزمرد والماس، حيث تشير الألوان الخضراء إلى «الغرفة الخضراء» في أمارنا وتاريخ الزمرّد الذي استُخدم حتى في مصر القديمة منذ عام 1500 قبل الميلاد. ويمنح التزاوج بين الزمرد البراق واليشم الأخضر غير المصقول، إحساساً بالمفاجأة يعكس التحوّل الإبداعي في فترة بناء أمارنا، وكذلك التباين بين القطع الحادّ لرؤوس البردي والشعور الأكثر استدارة في القاعدة.
قصر الباهية
أما رياض الألوان في مراكش، فكان له أيضاً تأثير على المخيلة الإبداعية. فالقصر الذي شُيِّد في أواخر القرن التاسع عشر من قِبل سي موسى، الوزير الأكبر للسلطان مولاي الحسن الأول، صُمّم على مساحة ثمانية هكتارات وزُخرف بحرفية عالية وفق التقاليد المغربية اليدوية. تبرز هذه الزخارف في كل تفاصيلها، بدءاً من المقرنصات إلى أسقف خشب الأرز المطلية.
وهذا ما عكسته مجموعة Mosaic Haven «ملاذ الفسيفساء» بلونها الأحمر الغني، والمستوحاة من أعمال الشبك الخشبي للفناء والسقف. ويعرض السوار والأقراط أيضاً تقنيات فائقة التعقيد من أعمال الشبك، مع التلاعب بفكرة الألوان المتباينة في النمط المستخدم في القصر نفسه من خلال طبقتين من اليشم الأخضر، والأوبال الوردي، والفيروز، مغلفتين بالياقوت البنفسجي، والماس الأصفر، وعقيق الإسبسارتين.
القلعة الحمراء
يُعدّ قصر الحمراء من أشهر نماذج فنّ العمارة الإسلامية. يقع على تلة السبيكة فوق مدينة غرناطة الإسبانية، شاهداً على الوجود العربي في أوروبا بين القرنين الثامن والخامس عشر. بُني قصر الحمراء في القرن الثالث عشر، ولا يزال نصباً تذكارياً يزوره الكثير من الناس حتى يومنا هذا. ويبرز جمال وزخرفة القصر بشكل خاص في المقرنصات، التي تمثّل المستويات السبعة للسماء.
في ورش بوغوصيان تم تطوير تقنية فريدة لترصيع الماس الأبيض والأصفر في طقم Seven Realms، لمحاكاة السقف الخشبي الأصلي في قاعة السفراء، وتبدو فيه الماسات بأشكالها المختلفة وكأنها تطفو، في تعبير تجريدي عن الأنماط الهندسية الموجودة داخل القاعة.