أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

في ميلاده الـ40 يؤكد أن الأزمة التي لا تقتل تقوِّي

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
TT

أسبوع لندن للموضة يسترجع أنفاسه... ببطء

عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)
عرض ريتشارد كوين كان مفعماً بالأمل والتفاؤل... وهو ما ترجمه بالورود والألوان الفاتحة (أ.ف.ب)

هل كان يكفي الحضور المكثف للنجوم والمشاهير من أمثال عرّابة الموضة أنا وينتور، والمغني هاري ستايلز، والمغنية تشارلي إكس سي إكس، والعارضة المخضرمة جيري هول، أن يعيد لأسبوع لندن بريقه، أو يُنقذه من الركود الذي يعاني منه منذ عدة مواسم؟ الجواب وبكل بساطة أن أسبوع لندن كان ولا يزال يعتمد على نفسه. لربيع وصيف 2025 الأسبوع الماضي أكد مرة أخرى أن قوته تكمن في أبنائه وروحهم المتمردة أولاً وأخيراً.

مجموعة كبيرة من المشاهير تتوسطهم أنا وينتور حضروا أسبوع لندن بشكل مكثف (أ.ف.ب)

لا يختلف أي متابع على أن أسبوع لندن يمر منذ فترة بمرحلة عصيبة جعلته باهتاً وبارداً مقارنة بغيره. أسابيع الموضة العالمية الأخرى؛ باريس وميلانو ونيويورك، استطاعت أن تتخطى الأزمة الاقتصادية العالمية بخطوات أسرع منه. أما هو، فظل يتخبط بين شح الإمكانات وتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

حتى دار «بيربري» التي كانت تُزوِّده بما يكفي من شحنات قوة وبريق، تشهد حالياً تراجعاً كبيراً في المبيعات والإيرادات، ورغم التحاق المصمم دانييل لي بها، وكل الآمال التي عُقدت عليه ليرتقي بها إلى مصاف الكبار، برفع أسعار منتجاتها، لم يحقق الأهداف المطلوبة منه؛ ليس لأنه يفتقد الإبداع، بل فقط لأن التوقيت ليس في صالحه، إضافة إلى أن استراتيجية رفع الأسعار لم تخدمه. المشكلة أن الدار تناست أن قوتها تكمن في مخاطبتها الطبقات المتوسطة المتعطشة لدخول نادي الأناقة.

في عرض «بيربري» عاد المصمم دانييل لي إلى البدايات ولعب على وظيفية الأزياء بلغة عصرية (بيربري)

استدركت الدار الموقف. ولأن المصمم دانييل لي مشهود له بالموهبة والإبداع، وجّهت انتباهها إلى الجانبين التسويقي والإداري؛ إذ عيّنت جاشوا شولمان رئيساً تنفيذياً جديداً لها، على أمل أن يُحقق لها ما حققه في دار «كوتش» التي عمل فيها رئيساً تنفيذياً، ولا سيما أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين العلامتين. عرض الدار لربيع وصيف 2025، والذي أقيم في آخر يوم من أيام الأسبوع اللندني، أعطى إشارات قوية بالاتجاه الجديد. كانت الأزياء والأكسسوارات بنكهة تجارية، وفي الوقت ذاته عملية بالمعنى الوظيفي، تستحضر بدايات الدار. لكن دانييل لي أضفى عليها لمساته العصرية لتخاطب شريحة الشباب، من خلال القصات والتفاصيل، مثل السحابات التي ظهرت في أجزاء كثيرة والجيوب المتعددة التي لم يكتفِ بها المصمم في السترات والمعاطف، بل شملت البنطلونات التي امتدت فيها إلى أسفل الساق لتصل إلى الكاحل.

جنوح مصممي لندن للغرابة وإحداث الصدمة لم يختفِ تماماً (أ.ف.ب)

لكن ما يُحسب لأسبوع لندن دائماً هو روح التحدي التي يتحلى بها ولم تفارقه في أي فترة من فتراته. تشعر أحياناً أنه يتلذذ بالأزمات ويستمد منها أكسجين الابتكار. هذا العام يحتفل بميلاده الـ40. تاريخه يشهد أنه مر بعدة تذبذبات، لم تقضِ عليه بقدر ما زادته عزماً. في معرض استعادي للأسبوع، عُلّقت مقولة كتبتها محررة الأزياء كاثرين صامويل في عام 1993 تقول: «أثبت مصممو أسبوع لندن أن الشخصية البريطانية تزيد قوة في المواقف الصعبة».

اللافت أن المعرض لا يُسلط الضوء على النجاحات والإنجازات التي حققها الأسبوع بقدر ما يركّز على الأوقات الصعبة التي أثرت عليه، بدءاً من الركود في الثمانينات، إلى أحداث 11 سبتمبر (أيلول) والأزمة المالية في عام 2008، وأخيراً وليس آخراً الأزمة الحالية. فيها كلها، أكّد أن الإبداع يولد من رحم الأزمات، وأن مصمميه لا يستسيغون الهدوء أو السكينة. شارك في الأسبوع الحالي 72 مصمماً مال بعضهم للعصري بنكهة تجارية تباينت جرعاتها، وبعضهم جنح للغرابة بشكل غير آبه للتسويق؛ لأنهم يتوجهون لشريحة معينة وقليلة.

ريتشارد كوين قدم تشكيلة حالمة وفخمة كان واضحاً توجهه فيها إلى زبونات منطقة الشرق الأوسط (أ.ف.ب)

لكن غالبيتهم شحذوا ملكاتهم الإبداعية لبث التفاؤل والأمل بأن العاصفة مهما طالت ستمر بسلام. هذه الطاقة الإيجابية ظهرت في تشكيلة ريتشارد كوين في فساتين طبعتها ورود ضخمة وتصاميم تتراقص على نغمات كلاسيكية تستحضر حفلات النجوم والنخبة في ثلاثينات القرن الماضي. بفخامتها وتطريزاتها الغنية، كان واضحاً أنه يخاطب بها زبونات الشرق الأوسط. هذه الإيجابية ظهرت أيضاً في عروض روكساندا وجي دبليو أندرسون و«توغا» وإيرديم، وهلم جرا من الأسماء.

في عرض جي دبليو أندرسون، مثلاً، تجلت في تنورات قصيرة واسعة بشكل مبالغ فيه، وفساتين قصيرة يبدو بعضها وكأنه مصنوع من قماش تم تقطيعه بالتساوي بشكل مستطيل، ثم تجميعه من جديد.

لعب المصمم إيرديم على الازدواجية بين الذكوري والأنثوي بأسلوب سردي وفني جديد (إيرديم)

روح الدعابة التي سادت عرض أندرسون، غابت في تشكيلة «إيرديم». فهو بطبعه جاد يحب التاريخ ويستقي منه دائماً قصصاً ملهمة. هذه المرة ترجم رواية «بئر العزلة» (The well of Loneliness) للكاتبة رادكليف هول، بأسلوب جمع فيه التفصيل الذكوري بالتصميم الأنثوي في تداخل يحاكي الـ«هوت كوتور». فالرواية تحكي قصة امرأة عاشت كرجل طوال حياتها. تلبس ملابسه وتصممها في شارع «سافيل رو» الشهير. والطريف أن أمرها لم يُكشف حتى مماتها. رغم أنه كان من السهل وقوعه في المحظور ويقدم ترجمة حرفية، فإن إيرديم نجح في تقديم درس عن كيف يمكن أن يكتسب التفصيل الرجالي نعومة من دون أن يُرسل أي إيحاءات معينة.

لين فرنكس... الأم الروحية للأسبوع

انطلق أسبوع لندن على يد لين فرنكس، أقوى وأشهر امرأة في عالم العلاقات العامة إلى حد أنها ألهمت شخصية بطلته إيدينا مونسون التي لعبتها باقتدار الممثلة جينفر سوندرز في مسلسل «أبسولوتلي فابيلوس» (Absolutely Fabulous)، وهو واحد من المسلسلات الناجحة لحد الآن. يمكن القول إنها من أرست قواعد مهنة العلاقات العامة في بريطانيا. ولأنها كانت تمتلك وكالة تمثل مجموعة من المصممين البريطانيين وعارضات الأزياء، راودتها فكرة تأسيس منصة تستعرض مواهبهم وقدراتهم للعالم، أسوة بأسابيع نيويورك وباريس وميلانو. وهكذا وُلدت فكرة إطلاق أسبوع لندن للموضة في عام 1984. ما إن نجحت في إقناع عملائها ومعارفها لتمويله، حتى بدأت بالبحث عن مكان مناسب، وجدته في حديقة «معهد الكومنويلث» بهولاند بارك. هناك نصبت خيمة كبيرة احتضنت أول موسم لأسبوع طبعته لحد الآن جينات شبابية تميل إلى التمرد والاختلاف الصادم أحياناً. بعد ثلاث سنوات، تغير المكان إلى ما أصبح يعرف الآن بقاعة «ساتشي» بالقرب من محطة «سلوان سكوير».

كان هذا نقلة إيجابية غيّرت مصير الموضة؛ إذ وفّر المكان مساحة أكبر، وبدأ يجذب أنظار مشاهير مثل الأميرة الراحلة دايانا، والمغني بوي جورج، وحتى مادونا أنذاك، الأمر الذي شجع على دخول ممولين جدد، ومن ثم زيادة ميزانيته.

هذا النجاح تطلب مكاناً أكبر، توفر في قاعة «أولميبيا»، ودخل خريطة الموضة العالمية بشكل رسمي. بين عامي 1988 و1989، مثلاً، شهد الأسبوع أول ظهور لكل من ناعومي كامبل وكايت موس قبل أن يسطع نجمهما للعالمية.

40 عاماً من النجاحات والتذبذبات

المصمم الآيرلندي الأصل واكب أسبوع لندن منذ تأسيسه في عام 1984 (رويترز)

لم يشهد أي أسبوع التذبذبات التي شهدها أسبوع لندن ولا عزيمته على البقاء، منذ انطلاقه في عام 1984. بدأ متواضعاً لكن جامحاً بفورة الشباب. كان كل المصممين المشاركين حديثي التخرج في معاهد تعلموا فيها أن الإبداع هو الجوهر، وكل شيء سواه يجب ألا يدخل في حساباتهم مهما كان الثمن الذي سيدفعونه. وهكذا جنّدوا جموحهم الإبداعي لدعم الأسبوع.

أعطى المصمم إيرديم درساً في كيف يمكن تنعيم التفصيل الذكوري (إيرديم)

لكن هذا الصعود سرعان ما تعرض للكبوة الأولى في التسعينات بسبب الأزمة الاقتصادية. في هذه الفترة بدأت تتسلل قوى جديدة في باريس وميلانو ونيويورك، تُرجّح الجانب التجاري أكثر، الأمر الذي وضع لندن في مأزق. لم يكن لمصمميها إلمام بهذا الجانب ولا قابلية لتقبّل فكرته. كانوا متشبّعين بفكرة أن الابتكار يأتي على حساب أي شيء آخر.

تقلُّص الميزانية لم يثنِ المسؤولين عن الاستمرار. ففي عام 1993، تم إطلاق مشروع «نيو جين»، أو الجيل الجديد، لدعم المصممين الشباب الذين لا تتوفر لهم إمكانات مادية للاستمرار، وكان من أوائل من استفادوا منه مصمم جديد اسمه ألكسندر ماكوين، وبعده كثيرون مثل إيرديم وغيره. كل من أتوا بعد لين فرنكس احترموا فكرتها أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتميز بها الأسبوع عن باقي أسابيع الموضة العالمية هي احتضان الشباب. وبالفعل لا تزال العاصمة البريطانية ولّادة للنجوم لحد الآن. لا تحتضنهم وتفتح لهم أبوابها فحسب، بل تصدّرهم أيضاً إلى باريس.

ريتشارد كوين عاد إلى الثلاثينات ليستقي منها تصاميم خاصة بالحفلات والأعراس (رويترز)

لكن شتان بين أزمات الماضي وأزمة اليوم. فهي الآن أكثر تعقيداً؛ لأنها عالمية أثرت على صنّاع الموضة في كل مكان، الأمر الذي جعل المنافسة أكثر شراسة لنيل قسط من الأرباح. كل العواصم في فترة من الفترات صارعت للبقاء والنجاح، حتى من ينضوون تحت مجموعات ضخمة مثل «إل في إم إش» و«كيرينغ» و«ريشمون». الفرق أن هؤلاء لديهم الإمكانات التي تغطي أي تباطؤ في النمو أو الخسارة لسنوات، في حين أن أغلب المصممين في بريطانيا شباب مستقلون. «روكساندا» مثلاً كانت ستُعلن إفلاسها لولا تدخل مستثمرين مؤخراً.

كيف يواجه المسؤولون الأزمة؟

بعد أربعين عاماً، كان لا بد أن يستوعب المشرفون على مجلس الموضة البريطانية أن الابتكار والأفكار الجديدة لا يكفيان. كان الحل هو تبني مفهوم الاستدامة والحث على إعادة النظر في سلوكيات الاستهلاك للحد من سلبياتها، وخصوصاً أن الجيل الصاعد الذي تُعوّل عليه مستاء من فكرة أن الموضة من بين أكثر القطاعات تلويثاً للبيئة.

من هذا المنظور افتتح الأسبوع هذا الموسم، بعروض لأزياء مستعملة بالتعاون مع منصة «إي باي» و«مؤسسة أوكسفام الخيرية» وموقع بيع السلع المستعملة الليتواني «فينتد» (Vinted)، وهو ما علّقت عليه ماريان جيبلز من موقع «فينتد» بقولها إن مواجهة الأفكار المسبقة ضرورية؛ «إذ يمكن أن تكون الأزياء المستعملة أنيقة وبأسعار معقولة».

المصممة والناشطة البريطانية كاثرين هامنيت (77 عاماً) أيضاً شاركت في هذه العروض المستدامة بأحد قمصانها الشهيرة التي تحمل رسالة: «لا مزيد من ضحايا الموضة»، بعد مرور 40 عاماً على أول عرض لها خلال أسبوع الموضة في عام 1984.


مقالات ذات صلة

استخدمت الأموال لجلسات التدليك والفنادق الفخمة... منع ناعومي كامبل من إدارة مؤسسة خيرية

يوميات الشرق عارضة الأزياء البريطانية الشهيرة ناعومي كامبل تبكي متأثرة بعد منحها لقباً رفيعاً في باريس (أ.ف.ب)

استخدمت الأموال لجلسات التدليك والفنادق الفخمة... منع ناعومي كامبل من إدارة مؤسسة خيرية

مُنعت عارضت الأزياء البريطانية الشهيرة ناعومي كامبل، من أن تكون أمينة مؤسسة خيرية لمدة 5 سنوات بعد أن وجدت هيئة رقابية سوء إدارة خطيراً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة اكتسب الريش هذه المرة مرونة وديناميكية شبابية (آسبري لندن)

الأميرة نورة الفيصل تضخ «آسبري لندن» بالحيوية

تأمل «آسبري» أن تحقق لها هذه المجوهرات نفس النجاح المبهر الذي حققته كبسولة الحقائب في العام الماضي. كانت الأسرع مبيعاً في تاريخها الممتد لأكثر من 200 عام.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

بنطلون الجينز الواسع... كيف تلبسينه على طريقة النجمات؟

يجمع الأناقة بروح بوهيمية، لكن للأسف لا يناسب الكل؛ لهذا يحتاج إلى بعض الحيل كي تتمكن صغيرات الحجم تحديداً من الاستمتاع به، مثلهن مثل عارضات الأزياء.

جميلة حلفيشي (لندن)
يوميات الشرق رائد الفضاء الألماني ماتياس مورر ارتدى بدلة التمارين الأنيقة البيضاء التي كان كاردان قد صممها قبل 7 عقود (رويترز)

الكشف عن زي رائد فضاء بتوقيع بيير كاردان

في الدار التي ما زالت تحمل اسمه في باريس، عرضت للصحافة أمس بدلة للفضاء كان مصمم الأزياء الفرنسي بيير كاردان قد رسم خطوطها في ستينات القرن الماضي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق جمانا الراشد الرئيس التنفيذي للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام وباتريك شلهوب رئيس مجموعة شلهوب (الشرق الأوسط)

«هي هَبْ» تتعاون مع «الشلهوب» لإطلاق «ملتقى العناية بالبشرة بدون فلتر»

أعلنت مجموعة شلهوب عن تعاونها مع مؤتمر «هي هَبْ» بنسخته الرابعة لإطلاق ملتقى العناية بالبشرة «بدون فلتر»، الفريد من نوعه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

جاذبية كامالا هاريس وأناقتها تقلقان دونالد ترمب

اكتسبت كامالا جمالاً وأناقة زعزعا ثقة غريمها دونالد ترمب بشكل واضح (أ.ب)
اكتسبت كامالا جمالاً وأناقة زعزعا ثقة غريمها دونالد ترمب بشكل واضح (أ.ب)
TT

جاذبية كامالا هاريس وأناقتها تقلقان دونالد ترمب

اكتسبت كامالا جمالاً وأناقة زعزعا ثقة غريمها دونالد ترمب بشكل واضح (أ.ب)
اكتسبت كامالا جمالاً وأناقة زعزعا ثقة غريمها دونالد ترمب بشكل واضح (أ.ب)

إذا اتفقنا أن الأزياء تعكس شخصية صاحبها ورؤيته وطموحاته، فإن ظهور كامالا هاريس بثلاث إطلالات متتالية من دار «كلوي» الفرنسية، يشير إلى أنها نجحت في جس نبض الشارع وثقافة العصر، وبأنها عازمة على الاستفادة من كل ما توفره الموضة العالمية من راحة وثقة حتى تتمكن من التفرغ للأجندة السياسية.

من يتابع حركاتها وتحركاتها في الآونة الأخيرة، يُدرك أن الأناقة أصبحت واحدة من أوراقها الرابحة لما تثيره من ثناء وإعجاب. الواضح فيها أنها توصلت إلى الوصفة الناجحة التي راوغت غيرها من السياسيات. وصفة تجمع الثقة بالأناقة والأنوثة بالقوة. كل هذا من دون أن تخض المألوف والسيناريو المكتوب للسياسيات تحديداً.

حتى عهد قريب، وتحديداً قبل أن يتنحى الرئيس جو بايدن عن سباق الرئاسة وتقدمها للواجهة، كانت صورتها رسمية وجادة إلى درجة الرتابة. كان من السهل والطبيعي أن تُقارن بمستشارة ألمانيا السابقة أنجيلا ميركل أو هيلاري كلينتون. كلهن يعتمدن التايور المكون من جاكيت وبنطلون كزي رسمي. لكن كامالا كسرت القالب وفاجأت عالم الموضة. جاءت تايوراتها أكثر تفصيلاً على مستوى السترة، بينما يميل البنطلون إلى الاتساع من أسفل وبطول يغطي الحذاء، فضلاً عن اختيارها بلوزات أو قمصان من الحرير أو الموسلين. كل هذه التفاصيل تفوح منها رائحة باريسية، تخفف من رسميتها ورتابتها وتضفي عليها نعومة تعكس ثقافة العصر.

ردة فعل ترمب... غاضبة

تأثير هذه القوة الناعمة بلغ حداً زعزع ثقة غريمها دونالد ترمب، الذي اعترف من دون أن يقصد مدحها، أنها تبدو «أجمل» مما هي عليه في الحقيقة وتشبه جميلات مثل إليزابيث تايلور وصوفيا لورين. بل وحتى زوجته ميلانيا ترمب. كان هذا تعليقاً على تصدرها غلاف مجلة «تايم» برسمة توضيحية. غضب ترمب من الصورة، أو بالأحرى من جاذبية غريمته، تجلى في انتقاده للمجلة والصورة على حد سواء في خطابات ومقابلات متتالية أجراها في غضون أيام.

فصلت دار «كلوي» هذا الفستان لها خصيصاً لحضور الحفل الذي يقيمه البيت الأبيض سنوياً (كلوي)

كمالا هاريس بدورها لعبت على هذه النقطة. احتضنت أنوثتها باعتزاز. ضخت بدلاتها بألوان الموضة وابتعدت عن التصاميم التقليدية، مثل البنطلون المستقيم والقصير أحياناً، والذي كانت تعتمده كل من أنجيلا ميركل وهيلاري كلينتون. فضلت في المقابل بنطلوناً بتصميم واسع وطويل تماشياً مع خطوط الموضة الحالية.

في سيرتها الذاتية التي نُشرت عام 2017 برَرت هيلاري كلينتون اختياراتها بأنها تعود إلى كونها امرأة تقتحم عالم الرجال: «كامرأة تترشح للرئاسة، أردت أن أختلف عن الرجل لكن بشكل مألوف وغير صادم، وبالتالي كان اختياري للبدلة زياً رسمياً، وسيلة لعدم تشتيت الناظر: فطالما لم يكن هناك شيء يمكن قوله أو التعليق عليه فيما يخص شكلي، فإن الناس ستركز على ما كنت أقوله أكثر».

اختياراتها أكثر خبرة وذكاءً من هيلاري كلينتون التي كانت تميل إلى الرسمية الكلاسيكية خوفاً من الانتقاد (إ.ب.أ)

وبهذا، سلّطت هيلاري كلينتون الضوء على أن جدية المرأة تقاس بمظهرها الذي يوضع تحت المجهر أكثر من مظهر الرجل، وهو ما جعلها تلعب على المضمون بما في ذلك وفاؤها لمصممين أميركيين ولتصاميم كلاسيكية.

كامالا لم تتجاهل أهمية ما كتبته هيلاري، لكنها لم تتقيد به، بحيث خرجت عن المألوف من دون أن تخضه. فهي لم تعتمد إطلالات جريئة أو صادمة، إلا أنها في الوقت ذاته سخَرت الموضة لخدمة أنوثتها وأجندتها كأول امرأة ملونة قد تدخل البيت الأبيض كرئيسة للولايات المتحدة الأميركية. أما كيف حققت هذه المعادلة في الآونة الأخيرة تحديداً؟ فبجمعها الكلاسيكية بالمعاصرة والقوة بالنعومة، وبهذا مسكت العصا من النصف، مستعينة بمصممة لها الطموحات نفسها هي شيمينا كامالي، مصممة دار «كلوي» الجديدة.

إطلالات متنوعة

ما يُحسب لها أنها لم تحاول التمويه على كونها امرأة. بالعكس، تألقت في المناسبات الكبيرة، بفساتين سهرة فخمة، مثل الفستان على شكل «كاب» الذي صممته دار «كلوي» خصيصاً لها لحضور العشاء الرسمي في البيت الأبيض.

ويبدو واضحاً أن «كلوي» أصبحت ملاذ كامالا والمفضلة لديها في المناسبات المهمة، وكأن بينها وبين مصممة الدار شيمينا كامالي اتفاقاً ضمنياً على اختراق عالم الرجل والتفوق عليه بسلاح القوة الناعمة. فمثلها تعمل شيمينا بهدوء وثقة منذ أن التحقت بالدار الفرنسية في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وهي تحقق لها نجاحات ملموسة. شعارها أن «كلوي» لا تستهدف التغيير بالمعنى الثوري. بل فقط منح المرأة القوة والثقة بطرح تصاميم مبتكرة ومنطلقة.

عندما صعدت إلى المنصة ببدلتها هذه كان كل شيء فيها يضج بالأناقة واللياقة لأن البدلة فُصِلت على مقاسها (كلوي)

في الشهر الماضي، مثلاً صممت لكامالا البدلة التي خرجت عن السيناريو المكتوب لأي مرشح للرئاسة. كانت بلون وصفته الدار بالبني المستلهم من جوز الهند. لكنه كان أقرب إلى اللون الجملي، بدرجة أغمق من البدلة البيج التي ظهر بها باراك أوباما في عام 2014 وأثارت الكثير من الجدل والاستهجان من قبل الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، إلى حد أن السياسي السابق بيتر كينغ علَق عليها في لقاء أجرته معه «سي إن إن»، بقوله إنها «بدلة تعكس افتقار أوباما للجدية».

لكن شتان بين الحالتين. كامالا أثارت الإعجاب أكثر من أي شيء آخر. فقد وضعت إصبعها على النبض، خصوصاً وأنها صعدت منصة المؤتمر، على موسيقى أغنية بيونسي «فريدم» Freedom بابتسامتها الواسعة وكأنها تتحدى كل من تسول له نفسه نعتها بعدم الجدية وقراءة العصر.

كامالا هاريس في الليلة الأخيرة من المؤتمر الوطني الديمقراطي في شيكاغو ببدلة وقميص من «كلوي» (أ.ف.ب)

في ليلة تلقيها ترشيح الحزب الديمقراطي لها، اختارت إطلالة مكونة من بدلة وقميص أيضاً من «كلوي». الاثنان بلون أزرق غامق لكن بخامات مختلفة نتج عنها تناقض متناغم أضفى على وجهها رونقاً وبريقاً.

كان بإمكانها أن تختار أي مصمم أميركي على عادة السياسيات أو زوجات سياسيين، مثل جيل بايدن أو نانسي بيلوسي أو هيلاري كلينتون اللواتي يملن إلى رفع الراية الأميركية والاستعانة بمصممين مثل رالف لورين في مثل هذه المناسبات، إلا أنها وضعت الدبلوماسية السياسية جانباً، ورجّحت كفة الأناقة والراحة حتى وإن كانت ستأتيها من الجهة الأخرى من الأطلسي.

من جهتها، لم تبخل عليها شيمينا كامالي لحد الآن، بثلاث إطلالات نالت الرضا وأظهرت الوجه الجميل لمن قد تكون أول رئيسة للولايات المتحدة الأميركية قريباً. فصّلت بعضها على مقاسها وأجرت على أخرى تغييرات تماشياً مع مقاييس جسمها. البدلة ذات اللون الجملي، مثلاً ظهرت في العرض بسترة مزدوجة الأزرار، بينما ظهرت بها كمالا بصف أزرار واحد، حتى تُضفي عليها بعض الرشاقة، خصوصاً وأنها لا تتمتع بمقاس عارضات أزياء.

من هي شيمينا كامالي؟

ولدت في عام 1981 بألمانيا، ودرست في معهد «سانترال سانت مارتن» الشهير بلندن. كانت من بين الطلبة المتفوقين حيث تخرجت منه بمرتبة الشرف في عام 2007، وهو ما فتح لها أبواب دار «كلوي» وهي كمتدربة في عهد المصممة البريطانية فيبي فيلو. لم تكن تتصور أن يتحقق حلمها وتعود إليها في شهر أكتوبر الماضي مديرة فنية خليفة للمصممة غابرييلا هيرست. سيرتها الذاتية تقول إنها عملت في مجال الأزياء لمدة 20 سنة. فبعد سنواتها الأولى مع «كلوي» انتقلت للعمل مع علامات أخرى مثل «ألبرتا فيريتي» و«سترينسي».

استطاعت شيمينا كامالي وفي فترة وجيزة أن تضخ تصاميم الدار بروح بوهيمية منطلقة لكن عصرية (كلوي)

في عام 2013 عادت إلى «كلوي» للعمل مع البريطانية كلير وايت كيلر، وفي عام 2016، استعانت بها دار «لانفان» بعد خروج الراحل ألبير إلباز منها. بعدها التحقت بـ«سان لوران» للعمل مع مديرها الفني أنطوني فاكاريللو، وفي عام 2023 انتقلت إلى لوس أنجليس للعمل مستشارة فنية مع علامة «فرايم» المتخصصة في الدينم. بعد خروج غابرييلا هيرست من «كلوي»، كانت الخيار الطبيعي والأول، وحسب بعض الشائعات، فإنها تسلمت العمل حتى قبل إعلان خروج غابرييلا رسمياً من الدار.

تصاميم الدار لخريف وشتاء 2024 تضج بالأناقة والشبابية وتلك اللمسة الناعمة التي رافقت الدار منذ تأسيسها في عام 1956 (كلوي)

كان اختيارها موفقاً، ليس لأنها تشرّبت ثقافة الدار وأسلوبها البوهيمي فحسب، بل لأنها استطاعت خلال فترة قصيرة جداً أن تعيد للدار بريقها القديم، وسُمعتها كدار باريسية تقدر المرأة أولاً وأخيراً. فكل المصممين الذي توالوا عليها بعد تقاعد مؤسستها غابي أغيون، وباستثناء الراحل كارل لاغرفيلد، كن مصممات، مثل ستيلا ماكارتني وفيبي فيلو وهنا ماغيبون، وكلير وايت كيلر وغابرييلا هيرست وأخيراً وليس آخراً شيمينا كامالي. في تشكيلتها لخريف وشتاء 2024، أكدت هذه الأخيرة حرصها على أن تستمر في تقديم أزياء تخدمها، أناقة وراحة، لكن بروح بوهيمية بلغة العصر.