هل تُصدق أن مفهوم السياحة كما نعرفه الآن وُلد في القرن السادس عشر؟ وهل يمكن أن يخطر ببالك ولو من بعيد أن من زرع بذرة التقاط صور «سيلفي» وأطلق شرارتها هم نخبة من الطبقات الأرستقراطية الإنجليزية في ذلك الوقت؟ هذا ما أكدته لنا دار «فان كليف أند آربلز» بالدليل القاطع في مجموعتها الأخيرة من المجوهرات الرفيعة في باريس. عنوانها «لو غران توغ برواية فان كليف أند آربلز (Le. Grand Tour raconté par Van Cleef & Arpels)» وهي مجموعة تستعير الكثير من الإرث الذي تركه هؤلاء الأرستقراطيون المغامرون، مسجلاً عبر لوحات فنية ووثائق وروايات.
تكتشف سريعاً أن الفرق بين مفهوم «السيلفي» آنذاك واليوم مثل الفرق بين السماء والأرض. هدف هؤلاء حين كانوا يُكلّفون رسامين لتسجيل حضورهم في لوحات تُظهرهم أمام مآثر أو أعمال فنية عظيمة، لم يكن استعراضاً بقدر ما كان توثيقاً لتحولات ثقافية وفنية واجتماعية. كانوا سابقين لأوانهم، وكان لهم الفضل في نشر ثقافات الغير. هم أيضاً من كان وراء بناء متاحف مثل المتحف البريطاني في لندن، عام 1753، و«لو ميزيم» في باريس عام 1793، الذي أعيدت تسميته لاحقاً بـ«متحف اللوفر»، وفتحها للعموم في وقت كانت فيه الأعمال الفنية الأوروبية سجينة القصور وبيوت الأثرياء.
دار «فان كليف أند آربلز» انطلقت من هذه الظاهرة التي اشتهرت بـ«الجولة الكبرى» وأصبحت تقليداً تمارسه الطبقات المخملية بشغف. كانت تنطلق من لندن باتجاه إيطاليا مروراً بباريس وألمانيا وجبال الألب.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حظيت هذه الجولات بشعبية أكبر، بحيث جذبت عدداً أكبر من الشباب الأرستقراطي بدأوا يعدونها جزءاً من تكوينهم الشخصي والاجتماعي على حد سواء. فمن جانب تصقل شخصيتهم وتوسع عقولهم، ومن جانب آخر تضمن دخولهم إلى المجتمع الراقي بخطى واثقة. كانت تستغرق ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام وتتطلب المرور بجبال الألب بكل ما تعنيه من وعورة وخطورة. فوسائل النقل لم تكن قد تطورت بعد. ومع ذلك عدُّوها مغامرة حضارية وملحمةً شخصيةً في الوقت ذاته. كانوا يعودون بلوحات يظهرون فيها بأزياء أنيقة تعكس ثقافة البلد الذي رسمت فيه اللوحة، أو أمام معالم مروا منها لإثبات قيامهم بهذه الجولة. مع الوقت لم تعد قصراً على النخبة. دخل غمارها فنانون ومثقفون رغم تكلفتها العالية، ومع تطوّر وسائل النقل والاتصالات تطور مفهومها السياحي إلى ما هو عليه اليوم.
بالنسبة لـ«فان كليف أند آربلز» فإن Le Grand Tour أو الجولة الكبرى، وضع أسس ثقافة جديدة ساهمت من بين أشياء كثيرة، في نشر الذوق الرفيع، أو ما يعرف بـ«Grand Goût (2)» في مختلف أرجاء أوروبا، كما في نشوء الكلاسيكية الجديدة على حساب أسلوب الروكوكو الذي كان سائداً حينذاك. روعة الطبيعة وتنوعها كما ساهم هؤلاء في تصويرها ساهما أيضاً في تطوير نظرياتٍ وحركات فنية جديدة منها السامية Sublime، ثم الحركة الرومانسية.
من كل هذا استلهمت دار «فان كليف أند آربلز» مجموعتها الجديدة. وظَفت فيها كل الأساليب الفنية، من «النيو كلاسيكية» والروكوكو والرومانسية إلى تقنيات الفسيفساء وغيرها. حتى اختيارها لعنوان «لو غران توغ برواية فان كليف أند آربلز» (Le Grand Tour raconté par Van Cleef & Arpels) كان لتكريم الإرث الحضاري والإنساني، الذي خلَفته هذه الجولات.
تعرفت الدار الفرنسية على هذه الظاهرة أول مرة، بعد أربع سنوات من تأسيسها في عام 1910، عندما نشر الشاعر والكاتب الفرنسي أندريه سواريز رواية بعنوان Le Voyage du Condottière وصف فيها رحلته عبر المراكز الثقافية في البندقية وفلورنسا ونابولي، وخرج منها ببحث استطلاعيّ عن عظماء النهضة مثل ليوناردو دافنشي وبوتيتشيلي ومايكل أنجلو، وغيرهم. لخَص سواريز «الجولة الكبرى» بأنها عمل فني قائم بذاته، وهو ما فتح شهية الدار على المزيد من الاستكشاف، ليصل أوجه هذا العام. قلادات تحاكي المنحوتات وأقراط أذن تجسد لوحات من عصر النهضة؛ في حين أعادت أساور عريضة تفسير مشاهد لمواقع معروفة في روما القديمة، بأسلوب الفسيفساء العتيقة.
سبعون إبداعاً تُمثِل فيه كل قطعة دعوةً لاكتشاف قدرة الدار على الابتكار ومدى ارتباطها بالفنون. لا تخفي «فان كليف أند آربلز» أن المجموعة تتكئ على إرث خلفه هؤلاء الأرستقراطيون، بل تُعلن ذلك بصوت عالٍ، مؤكدةً أن له فضلاً كبيراً في تحفيز حرفييها على الخوض في تقنيات جديدة. وتضيف أن أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها أتاحت لهم الفرصة للسفر عبر الخيال والتاريخ لصياغة قطع تحاكي بتفاصيلها وألوانها ودقتها أعمال الفنانين الكبار.
تشعر وأنت تتجول بين هذه القطع أنك تقرأ صفحات من التاريخ والجغرافيا يلتقي فيها الماضي بالحاضر. قطع تشهد على عهد الملك لويس الرابع عشر، وأخرى على كلاسيكية تستمدّ إلهامها من العصور القديمة، أو من عصر النهضة، وأخرى عادت إلى المنبع، مدينتيْ هيركولانيوم وبومبي، اللتين دفنهما ثوران بركان جبل فيزوف، لتغرف منها أفكاراً وزخرفات.
قسمتها «فان كليف أند آربلز» إلى خمس مجموعات، أو بالأحرى خمس وجهات وأزمنة. تبدأ من لندن التي كان ينطلق منها هؤلاء المستكشفون متجهة نحو باريس ومنها إلى إيطاليا مروراً ببادن بادن وجبال الألب.
كانت الجولة الكبرى تبدأ دائماً من لندن. وبما أنها اشتهرت بصناعة خزف ويدجوود، غلب على عقد «جوزياه» اللونان الأزرق والأبيض. يتكوّن العقد من دورين من الماس، أحدهما بماسات مستديرة والآخر بماساتٍ بقطع الباغيت، يفصل بينهما صفّ من الماس بقطع الباغيت. تمّ تنفيذ صفوف الماس لتعانق منحنى خط العنق تتدلى منه كشرائط من الحرير بالنظر إلى اهتمام الدار بالموضة. بعدها تتشابك خطوط الماس لتحضن حجريَّ سافير بيضاويين يزنان 25.10 و21.78 قيراط. ما يزيد من قيمة العقد أن حجريَّ السافير قابلان للفصل ليتسنّى لصاحبته أن تزيّن بهما الأقراط
من مشهد تغنت فيه جورج ساند في عام 1881 بجمال جبال الألب استلهم هذا البروش. فمع رحيل فصل الشتاء، تتفتح أشجار الصنوبر والبنفسج مؤذنةً بموعد تجدّد الطبيعة. في تلك اللحظات، تستفيق زهرة الذنيان الجبلية برقة في أولى الأيام الدافئة الجميلة. من هذه الصورة يأتي بروش «إيتوال دي غلاسييه» ليتغنى بجمال هذه النبتة البرية النادرة التي تتفتح براعمها في المرتفعات العالية، وتزهر كلّ سنة بشكل بتلات بيضاء مخملية جسدها حجر الماس. شُغل كلّ عنصر من عناصر هذه القطعة بدقة وعناية بالاعتماد على الماس الأبيض والأصفر والسافير الأزرق، مما زاد من بريق الانعكاسات الضوئية.
من وحي جبال الألب، يتألّق عقد «ريجينا مونتيوم» بحجرين في وسطه. الأول عبارة عن حجر تورمالين بقطع الوسادة، يتخذ موقعه في قلب عقد التشوكر، فوق حجر تورمالين آخر بالقصة البيضاوية، ويستكمل قلادةً قابلة للفصل. يتلاعب الحجران على اللونين الأخضر والأزرق، يعزّزهما بريق الماس ودرجات من الأزرق والبنفسجي لأحجار السافير والأكوامارين والتنزانيت. يستحضر الطقم كاملاً الشاعرية التي تصحب المناظر الطبيعية الجبلية الثلجية - مثل تلك الموجودة في بحيرة لاك دي كاتر كانتون التي يمكن مشاهدتها من مون ريجي في سويسرا، التي وصفها ليو تولستوي على النحو التالي في قصته القصيرة لوسرن (1857):
«عندما صعدت إلى غرفتي، وفتحت النافذة المواجهة للبحيرة، أبهرني جمال مياهها والجبال والسماء منذ اللحظة الأولى وُذهلت لما رأيت... تمتدّ البحيرة بين السواحل التي تتميّز بدرجات متفاوتة من اللون الأخضر... وفي الخلفية، بدت مرتفعاتها المبنية من الصخور وقممها الشاحبة المغطاة بالثلوج. وبدا المشهد غارقاً في أجواء زرقاء سماوية منعشة وشفافة... ».
بعد عبور جبال الألب، تصل «فان كليف أند آربلز» إلى إيطاليا. تزور البندقية وروما وفلورنسا ونابولي، ومن كل واحدة تستمد الخطوط الهندسية والألوان البراقة التي ظهرت في أربعة أساور، يحتفل كلّ منها بمعالم مدينة. تضيف الدار أنها استلهمتها من أساور الرباط أو bandeaux التي كانت رائجةً في العشرينات من القرن الماضي. هنا يستعيد شكلها الخارجي تركيبات على طراز الفسيفساء، تُجسِد معالم إيطالية شهيرة أو مناظر استعمل في تزيينها وتجسيدها الياقوت والزمرّد وأحجار السافير الملون والإسبنيل والعقيق والتورمالين. وتكشف الأقسام الخلفية منها هياكل مخرَمة تتيح انعكاسات الضوء عليها.
من روما القديمة وآثارها التاريخية يستمد عقد «كابريتشيو» بأقراطه توهجه وتصميمه. يتميز بدورين من الماس، يستعيدان قبب الماضي المعماري العريق للمدينة، ويعزّزهما صفّ من الذهب الأصفر، وخمسة أحجار من الزمرّد من زامبيا صممت على شكل البندلوك. وتماشياً مع تقليد الدار في ابتكارها للمجوهرات القابلة للتحويل، يمكن إزالة أحجار الزمرد لتزيين زوج من الأقراط المطابقة، أو ارتداؤها على سلسلة مرصّعة بالماس تعرف باسم ميروار دو. لا يختلف القسم الخلفي للعقد عن الخارجي. فهو أيضاً يتميز بوفرة من الأحجار ذات أحجام مختلفة صاغها الحرفيون على شكل أوراق شجر غنية
يمثّل عقد «بياتزا ديفينا» دعوةً للسفر إلى بوابات روما، وتحديداً ساحة القديس بطرس، التي تشتهر بمعمارها الباروكي. منها يستعير هذا العقد شكله ومنحنياته، حيث تجتمع حلقات من الذهب الأبيض المرصعة بالماس، والمزينة بأحجار الزمرّد والسافير، لتتشكّل بنيته بانسيابية تامّة. وتتخلّل هذه البنية المتشابكة أربع عشرة حلية بشكل بندلوك من الذهب الوردي والماس، بالتناوب مع الزخارف التي يجمع كل منها بين ماسة بقطع الإجاصة وحجر زمرّد. وفي وسط العقد، تستعرض الميدالية حجر زمرد بيضاوي من إثيوبيا محاط بماسات مستديرة. ويتيح الهيكل الرقيق للإطار الذهبي معاينة اللون الأخضر المتوهج، مع العلم أنه يمكن استبدال بالميدالية، وفق مزاج من ترتديها، ميدالية ثانية مرصّعة بالماس في وسطها، تتناغم مع الأقراط.