«بورتوبيلو»... حيث تتقاطع الأزمنة وتنبض الذاكرة

بين آلاف العملات ليرة لبنانية تُعيد سرد قصة الماضي

الأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان الباستيل (الشرق الأوسط)
الأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان الباستيل (الشرق الأوسط)
TT

«بورتوبيلو»... حيث تتقاطع الأزمنة وتنبض الذاكرة

الأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان الباستيل (الشرق الأوسط)
الأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان الباستيل (الشرق الأوسط)

هل سبق لك أن شممت عبق الماضي يتسلَّل بين زوايا شارع يعج بالحياة؟

في صباح أحد أيام السبت، قادني هذا السؤال إلى «سوق بورتوبيلو» في حي نوتينغ هيل بلندن، حيث يلتقي عبق الزمن العتيق مع ألوان الحياة الزاهية. لم أكن أعلم ما ينتظرني، لكن حدسي دفعني إلى عالم تتعانق فيه الذكريات مع الحاضر، ويتحول فيه كل ركن إلى صفحة من كتاب حي يروي قصصاً تتجاوز حدود الزمن.

وما إنْ وطئت قدماي الشارع حتى غمرني عبق الزمن، وصدحت أصوات الحكايات المختبئة بين زوايا السوق، حيث يلتقي القديم مع الجديد في سيمفونية من الدهشة والجمال، محفورة في الذاكرة.

السوق وجهة أساسية لهواة المقتنيات القديمة (الشرق الأوسط)

سوق التحف الأوسع في العالم

يُقال إن لكل سوق قصتها، وقصة سوق «بورتوبيلو» تعود إلى قرون مضت. تُعدّ إحدى أشهر الأسواق المفتوحة في أوروبا، إن لم تكن في العالم. ورغم وجود أسواق أقدم مثل «لا بوكويريا» في برشلونة (1217)، و«سوق بولونيا» في إيطاليا من القرن الـ12، فإن «بورتوبيلو» تميَّزت بتحولها الديناميكي من سوق خضار وفواكه في منتصف القرن الـ19 إلى أكبر سوق تحف في العالم.

ومع مرور الوقت، شهدت السوق انطلاقتها الفعلية بعد شق طريق بورتوبيلو عام 1850، وازدهرت تدريجياً مع افتتاح محطة لادبروك غروف عام 1864، مما سهّل الوصول إليها بشكل كبير. وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت وجهة أساسية لهواة المقتنيات القديمة، مع تصاعد ثقافة إعادة التدوير وشغف الناس بكل ما يحمل طابعاً تاريخياً. واليوم، تحولت إلى وجهة ثقافية تجذب أكثر من مائة ألف زائر أسبوعياً، معظمهم يأتون خصيصاً لاقتناء قطع نادرة مثل ساعة جيب فيكتوريّة، أو آلة تصوير عتيقة، أو مجلد خرائط من زمن الإمبراطورية البريطانية.

في السوق أزياء «فينتج» (الشرق الأوسط)

يوم السبت... مهرجان شعبي بألوان عالمية

وفي قلب كل هذا النشاط، يحتل يوم السبت مكانة خاصة. رغم أن السوق تعمل جزئياً على مدار الأسبوع، فإن السبت هو يومها الذهبي.

يقول أحد البائعين المحليين: «هذا النهار هنا يشبه المهرجان، ترى الناس من كل أنحاء العالم يبحثون عن قطعة تروي لهم قصة، هذا هو جمال السوق».

يتحول شارع بورتوبيلو إلى ممر طويل يعجّ بالبشر، يتزاحمون بين مئات الأكشاك التي تعرض كل ما يمكن تخيّله: التحف، والمجوهرات، والأزياء «فينتج»، والكتب القديمة، والأسطوانات الموسيقية، وأدوات المطبخ، وحتى ألعاب طفولة من القرن الماضي.

مع تنقلك بين العارضين، تتنوع الحواس. يطالعك وجه مغنٍّ يعزف على ناصية، وآخر يرقص بجوار عربته الصغيرة، وتتصاعد رائحة الفطائر الإنجليزية، والأطباق العالمية، والقهوة الطازجة لتكمل المشهد.

وعلى الطرف الآخر، تنبعث رائحة دافئة مألوفة: مناقيش الزعتر اللبناني تُخبز على صاج حديدي يشبه ذاك الذي يُستخدم في قرى لبنان. تُقدّمها صاحبة الكشك بابتسامة، فيعيدك الطعم، والبخار المتصاعد من الزعتر والخبز الطازج، إلى صباحات الطفولة، حين كانت البساطة تنطق بالفرح.

رائحة مناقيش الزعتر اللبناني تُخبز على صاج حديدي (الشرق الأوسط)

تنوع ثقافي وفني يسحر العين

لا بد من الإشارة إلى المشهد البصري الذي يسحر العين. فالأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان هادئة، كالأزرق السماوي والوردي والأصفر الفاتح، في حين يعبّر الزبائن عن تنوّع لندن الحقيقي: سيّاح من آسيا، وعشّاق فن من أوروبا، ومحليّون يبحثون عن صفقة العمر في صندوق خشبي متهالك.

وللفن حضور بارز وسط هذا المشهد. رسامون يعرضون لوحاتهم، ومصوّرون يوثّقون اللحظة، وصنّاع مجوهرات يعرضون تصاميمهم اليدوية بلمسة شخصية نادرة في زمن الإنتاج الكبير.

تقول فنانة محلية: «أحب أن أعرض أعمالي هنا لأن السوق تنبض بالحياة، وأجد في الزوار من يتذوق الفن كما يجب».

صانعة مجوهرات تعرض تصاميمها اليدوية (الشرق الأوسط)

السوق في السينما والأدب

ولا تكتمل صورة السوق من دون الإشارة إلى حضورها في السينما والأدب. ففي فيلم «Notting Hill» الشهير، كانت السوق الخلفية الرومانسية للقصة التي جمعت جوليا روبرتس وهيو غرانت.

لكن الحضور الثقافي يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، فقد ذُكرت السوق في أعمال أدبية بريطانية منذ خمسينات القرن الـ20، وظهرت في تقارير صحافية عديدة بوصفها مثالاً حيّاً على تحوّلات لندن الطبقية والثقافية، لا سيما بعد «مهرجان نوتينغ هيل» السنوي الذي انطلق عام 1966 كردّ فعل على التوترات العِرقية في الحي.

ركن لكتب مرَّت بين آلاف الأيدي (الشرق الأوسط)

تجربة لا تُشترى... لكنها تُعاش

عندما تخطو داخل سوق بورتوبيلو، تُدرك أن الأمر أكبر من مجرد تسوُّق. أن تمشي في السوق هو أن تمشي عبر الزمن.

بين التحف المرهقة بالذكريات، والملابس التي تحكي فصول الموضة، والكتب التي مرّت بين آلاف الأيدي... تشعر بأن المكان ليس مجرد سوق، بل أرشيف حيّ لذاكرة لندن بكل تقاطعاتها الاجتماعية والتاريخية، وبنبضها الذي لا يهدأ.

أما بالنسبة لي، فكانت اللحظة الأجمل حين توقّفتُ عند طاولة خشبية قديمة يعرض صاحبها عملات من كلّ أصقاع العالم.

حيث صوّر فيلم «Notting Hill» عام 1999 (الشرق الأوسط)

تنقلت عيناي بين جنيهات إنجليزية، ودراهم خليجية، ودولارات أميركية باهتة اللون... إلى أن لفتني شيء مألوف.

كانت هناك، بين تلك العملات، ليرة لبنانية ورقية تعود لعام 1973، بلونها البنيّ المُعتّق، وتحمل صورة قلعة بعلبك، تماماً كما أتذكّرها في طفولتي.

لحظتُها، أحسست بأن السوق، بكل ضجيجها وتنوّعها، صمتت للحظة، كأن الذاكرة استعادت نفسها في ورقةٍ صغيرة تقاطعت مساراتها مع غربتي صدفةً... لكن بعمق لا يُشترى.

قطع نادرة مثل آلة تصوير عتيقة (الشرق الأوسط)

قبل أن تذهب...

إذا كنت تُخطط لزيارة «سوق بورتوبيلو»، فاجعل يوم السبت خيارك الأول، إذ تبلغ السوق في هذا اليوم أوج نشاطها وحيويّتها. يُفضّل الوصول قبل الساعة العاشرة صباحاً لتفادي الزحام والاستمتاع بالتجربة في هدوء نسبي. أقرب محطات المترو هي «Notting Hill Gate» و«Ladbroke Grove»، وتقع كلتاهما على بُعد خطوات من قلب السوق. ولا تنسَ ارتداء حذاء مريح، فالمشي هنا رحلة طويلة.


مقالات ذات صلة

أبها والطائف في صدارة المصايف السعودية

سفر وسياحة الطائف عروس المصائف ومركزاً لصناعة الورد(هيئة السياحة)

أبها والطائف في صدارة المصايف السعودية

في الوقت الذي لامست فيه درجات الحرارة مستويات قياسية، مسجّلةً 49.3 درجة مئوية في محافظة الأحساء، كانت المرتفعات الجنوبية الغربية تعيش مشهداً مناخياً مختلفاً

أسماء الغابري (جدة)
سفر وسياحة بيوت تراثية في فالوغا (بلدية فالوغا)

فالوغا اللبنانية... وجهة سياحية لهواة السكينة والهدوء والطبيعة الخلابة

تستقطب بلدة فالوغا في قضاء بعبدا اللبنانيين، كما السياح العرب والأجانب. طبيعتها الخلابة وتلالها وهضابها ترسم مشهدية خضراء ساحرة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق جانب من الحملة الترويجية (وزارة السياحة المصرية)

«السياحة» المصرية تطلق حملة لاجتذاب مليون مسافر عربي

تحت شعار «مصر... تنوّع لا يُضاهى»، أطلقت وزارة السياحة والآثار المصرية، حملة إلكترونية جديدة للترويج للمقصد السياحي المصري في السوق العربية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
الاقتصاد «مطار الملك فهد الدولي» في الدمام (واس)

السعودية تطلق رحلات مباشرة من الدمام إلى «مطار هيثرو» في لندن

أعلن «برنامج الربط الجوي» السعودي تدشين رحلات جوية جديدة تربط بين «مطار الملك فهد الدولي» بالدمام و«مطار هيثرو» في لندن، وذلك عبر «الخطوط الجوية السعودية».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
سفر وسياحة سفينة أرويا السياحية (الموقع الرسمي)

بأمواج عربية... «أرويا كروز» تبحر بالسعودية نحو آفاق عالمية

بين أمواج البحر الأحمر الزرقاء وشواطئ المتوسط الحالمة، تبحر «أرويا كروز»، ليست حاملة على متنها آلاف الركاب فقط، بل رؤية طموحاً تسعى لإعادة تعريف السياحة البحرية

أسماء الغابري (جدة)

أبها والطائف في صدارة المصايف السعودية

الطائف عروس المصائف ومركزاً لصناعة الورد(هيئة السياحة)
الطائف عروس المصائف ومركزاً لصناعة الورد(هيئة السياحة)
TT

أبها والطائف في صدارة المصايف السعودية

الطائف عروس المصائف ومركزاً لصناعة الورد(هيئة السياحة)
الطائف عروس المصائف ومركزاً لصناعة الورد(هيئة السياحة)

في الوقت الذي لامست فيه درجات الحرارة مستويات قياسية شرق المملكة، مسجّلةً 49.3 درجة مئوية في محافظة الأحساء خلال ذروة الصيف، كانت المرتفعات الجنوبية الغربية تعيش مشهداً مناخياً مختلفاً تماماً، يُشبه نسمة بردٍ تهب من نافذة جبال السروات. ففي مدينة أبها، انخفضت درجة الحرارة الصغرى إلى نحو 18 مئوية، ليظهر الفارق الحراري الكبير الذي تجاوز 31 درجة مئوية بين منطقتين داخل حدود الوطن نفسه.

هذا التباين اللافت في درجات الحرارة لم يكن وليد المصادفة، بل نتيجة مباشرة لتنوع تضاريس المملكة، واختلاف الارتفاعات بين السهول المنخفضة والمناطق الجبلية. فالطائف، التي تمتد على ارتفاع يصل في بعض مناطقها إلى 2500 متر، تتميّز بجوّها العليل ومناخها اللطيف، في حين تعانق أبها السماء من علوّ يفوق 2300 متر، وتشتهر بضبابها البارد وطبيعتها الغنية التي تجمع بين الجبال والسهول. هذا التنوع البيئي جعل من المدينتين عنواناً لصيف مختلف، ووجهتين رئيسيتين على خريطة السياحة الداخلية.

أصبحت الوجهات الجبلية، مثل أبها والطائف، مصدرَ إلهام ثرياً لصانعي المحتوى السياحي، بما تقدمه من مناظر طبيعية خلابة وأجواء معتدلة تستحق التوثيق. وساهم هذا الزخم الرقمي في تعزيز حضورها على منصات التواصل، وتشجيع مزيد من الزوار على استكشافها.

أشجار الجاكرندا تزين طرق وحدائق أبها (أمارة عسير)

تقول لـ«الشرق الأوسط» صانعة المحتوى السياحي، نجلاء جان: «بينما كانت المدن تستقبل فصل الصيف بحرارة خانقة، كانت أنظار السعوديين والمقيمين تتجه إلى أبها والطائف، حيث تراوحت درجات الحرارة الصغرى بين 18 و23 مئوية. أجواء مشمسة، إلى غائمة جزئياً، مع احتمالات لأمطار خفيفة... رسمت لوحة صيفية فريدة لا تشبه المعتاد في المنطقة».

ومع «رؤية السعودية 2030»، لم تعد هذه المصايف مجرّد مدن يقصدها الناس للتمتع بالجو فقط، بل تحوّلت إلى وجهات متكاملة بعد تنفيذ حزمة من المشروعات السياحية الكبرى. ففي أبها، جرى تطوير شبكة الطرق الداخلية لتسهيل التنقل داخل المدينة وربطها بمحيطها، إلى جانب مشروع تطوير مطار أبها، الذي صُمم بطابع تراثي ليتماشى وهوية المنطقة، ويهدف إلى رفع الطاقة الاستيعابية للزوار. كما أُطلق مشروع وادي أبها الجديد، أحد أضخم المشروعات السياحية في الجنوب، على مساحة 2.5 مليون متر مربع، وبتصميم يركّز على الاستدامة، حيث تخصص 30 في المائة من مساحته للمناطق الخضراء، ويضم 5 مناطق سياحية مختلفة الطابع.

المرتفعات الجبلية وجهة سياحية غنية بالفعاليات الترفيهية والرياضية (هيئة السياحة)

وشملت المشروعات التطويرية أيضاً الطائف، لا سيما تطوير مطار الطائف الدولي، الذي سيستوعب 4 ملايين مسافر سنوياً بحلول عام 2030؛ مما يجعله بوابة رئيسية لحجاج ومعتمري الخارج؛ لقربه من مكة المكرمة، إلى جانب دوره في دعم السياحة الداخلية. كما أُطلقت «مدينة الطائف الجديدة» بمفاهيم حديثة للبنية التحتية والطاقة، وشبكة متكاملة من الطرق والمواصلات، بالإضافة إلى «مشروعات تطوير الشفا والهدا»، وتطوير «حدائق جبل إبراهيم»، مع توسعة الفنادق والمرافق السياحية.

ووفق نجلاء جان، «فلم تعد زيارة المصايف تقتصر على الجلوس في الحدائق والاستمتاع بالمناخ المعتدل، فاليوم تُقدّم أبها والطائف تجارب سياحية متكاملة، تستهدف العائلات والأفراد من مختلف الأعمار. ويمكن للزوار الاستمتاع بالمطاعم المتنوعة، وتجربة رحلات التليفريك، والمغامرات الجبلية، وزيارة المحميات والأسواق التقليدية، والمشاركة في ورشات تعليمية للأطفال».

مناخ معتدل وأمطار خفيفة تلطف صيف أبها (أمارة عسير)

وأشارت نجلاء جان إلى الفعاليات الموسمية والمهرجانات الصيفية المتعددة، مثل «مهرجان أبها الصيفي» و«مواسم الطائف»، التي تجمع بين الفن والثقافة والرياضة. أما المنطقة الجنوبية عموماً، فتتحول في الصيف إلى مسرح مفتوح للأنشطة والعروض التراثية، ضمن فعاليات، مثل «موسم الباحة» و«موسم عسير»، تقدم أنشطة في الهواء الطلق وتجارب لعشاق الطبيعة والمغامرة.

وفي مايو (أيار) 2025، أطلقت وزارة السياحة حملة «لون صيفك» ضمن برنامج «صيف السعودية»، لتشجيع السعوديين والمقيمين على زيارة الوجهات الجبلية، مثل أبها والطائف وعسير والباحة، مع هدف طموح بجذب أكثر من 41 مليون زائر، وتحقيق إنفاق يتجاوز 73 مليار ريال.

وقد أسهمت هذه الحملات في تغيير خيارات كثير من العائلات، التي باتت تفضّل قضاء إجازاتها داخل المملكة بدلاً من السفر إلى الخارج، خصوصاً مع تحسن جودة الخدمات، وسهولة الوصول، وتنوّع الأنشطة. ونتيجة لذلك، شهدت الفنادق والمنتجعات ارتفاعاً ملحوظاً في نسب الإشغال خلال الصيف، وتحوّلت المصايف الجبلية من خيار موسمي محدود إلى وجهات رئيسية تنافس نظيراتها على مستوى عالمي.