«قرية الصيفي»... عناق التراث والحداثة في بيروت

العمران طابعه شرقي ممزوج بعناصر أوروبية من عصر النهضة

وُلدت «الصيفي فيلدج» من الحاجة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب (الشرق الأوسط)
وُلدت «الصيفي فيلدج» من الحاجة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب (الشرق الأوسط)
TT

«قرية الصيفي»... عناق التراث والحداثة في بيروت

وُلدت «الصيفي فيلدج» من الحاجة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب (الشرق الأوسط)
وُلدت «الصيفي فيلدج» من الحاجة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب (الشرق الأوسط)

الهدوء، غامرُ المكان، يُخرجه من وقوعه في عمق بيروت. كأنه على مسافة من الزحمة، وهو بجوارها؛ ومن أبواق السيارات والضغوط والمزاج المتقلّب بفعل ثقل المدينة. نحن هنا في «الصيفي فيلدج» المُنسلخة عن الصخب على بُعد أمتار منه. هندستها المعمارية تُشعر زائر شوارعها بفنّ التصميم الأوروبي. الورد في الأرجاء، يتفتّح ويُعتنى به، فيتواطأ مع الجمال العمراني لتأكيد الفرادة.

القرية، جارةُ «ساحة الشهداء» التاريخية، مساحة للأناقة الهندسية والسكن الراقي. المحال هنا وهناك؛ تُظهر واجهاتها المعروض في الداخل، بجانب مطاعم يقصدها باحثون عن تجربة تتجاوز الصحن وما يُملأ به، إلى الإحاطة بالمكان ومفهومه وبُعده.

وُلدت «الصيفي فيلدج» من الحاجة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد الحرب (الشرق الأوسط)

يعود المدير التجاري العام لشركة «سوليدير» والمدير العام لأسواق بيروت أديب النقيب إلى أصل الفكرة: «وُلدت من الحاجة الماسَّة لإعادة إعمار وسط المدينة بعد دمار الحرب. الهدف كان إنشاء حيّ سكني يجمع بين التراث اللبناني والحداثة ليكون نموذجاً لمشروع إعادة الإعمار، مع التركيز على خَلْق بيئة جاذبة للسكان والزوّار».

منذ البداية، تصدَّر تطوير المناطق السكنية في أطراف وسط المدينة، منها الصيفي ووادي أبو جميل، الأولوية؛ لعلَّ ذلك يساعد في إعادة الحياة إلى المنطقة. يستعيد أديب النقيب مع «الشرق الأوسط» مشهد المباني التي لم تدمَّر وكانت قابلة للإصلاح وللترميم، لينشأ من خلالها مفهوم «الصيفي فيلدج»: «كان المخطَّط أن يتكوّن المشروع من 16 مبنى، يضمّ الواحد 7 طبقات موزَّعة على 4 مجموعات. ثم أُنشئت مبانٍ جديدة لتمتزج بأسلوبها وألوانها مع المباني المرمَّمة، وتظلّ وفية لطابع المنطقة الأصلي».

صُمِّمت المباني بأسلوب يحاكي البيوت التقليدية اللبنانية العصيّة على السقوط بفعل الحرب. ذلك ولَّد تحدياً لدى «سوليدير»، «فالحفاظ على الطابع الهندسي والعمراني للصيفي لم يكن سهلاً، خصوصاً في قلب مدينة مزدحمة مثل بيروت». يتابع أنّ الاهتمام شمل أيضاً تصميم الشوارع الضيّقة، «مما يقلّل من سرعة السيارات؛ ولتكون جاذبة وملائمة للمشاة، وهادئة للسكان».

الهندسة المعمارية تُشعر الزائر بفنّ التصميم الأوروبي (الشرق الأوسط)

ولكن مَن هم سكان «قرية الصيفي»؟ «هم من جميع مناحي الحياة والمجتمع والمناطق اللبنانية، ومن مختلف المجالات والأعمال والمهن»، يجيب أديب النقيب. يسكنون أبنية تتميّز بطابعها الشرقي الممزوج بالعناصر الإيطالية والأوروبية من عصر النهضة، لجهة الزخرفة الخارجية. ولجهة التصميم الداخلي، يشرح أنها «تتّخذ الطابع اللبناني - المتوسّطي المتميِّز بالإضاءة الوفيرة والأقواس». الأبنية مفتوحة نحو الداخل بدلاً من الخارج، حيث يجمعها الفناء الخلفي (Courtyard) حوله.

الورد يتواطأ مع الجمال العمراني لتأكيد الفرادة (الشرق الأوسط)

وتشكّل الأسطح ذات اللون الأحمر المتوسّطي، والنوافذ المقوَّسة، والزخارف البسيطة، وألوان الباستيل المتناغمة؛ اللغة المعمارية لـ«الصيفي فيلدج». يشرح: «تضمّ المنطقة الساحة المركزية، وهي نقاط التقاء مثالية للقاطنين، وتحيط بها مساحات تجارية على مستوى الأرض تشمل متاجر البيع المختلفة، من الثياب والمفروشات والإكسسوارات والفنّ الحرفي ذات التصميم العصري، ومركز تجميل، ودار حضانة، إلى المقاهي والمطاعم ذات المطابخ العالمية. الحيّ مجهّز أيضاً ببنية تحتية حديثة، تشمل مواقف للسيارات، وأماكن مخصَّصة للترفيه والتسلية، مثل النوادي الرياضية والـ(كونسبت ستور)».

بيئة جاذبة للسكان والزوّار (الشرق الأوسط)

الكهرباء 24/24، وخدمات الصيانة مستمرّة، كما خدمات السلامة العامة والأمن والنظافة، وفق المدير التجاري العام لشركة «سوليدير». تلك التركيبة، هل صُمِّمت لتُشبه مكاناً آخر أو بإلهام من فرادة هندسية شبيهة؟ ردُّه: «تحقيق رؤية طَموحة ومميَّزة للمشروع كان الهدف. فـ(قرية الصيفي) تتميّز بخصوصيتها الفريدة ولا تُشبه أي مشروع آخر. مصدر الإلهام كان التراث اللبناني والمعمار التقليدي والعراقة، فالمزج بين الأصالة والحداثة أعطى الهوية الخاصة، ومكَّن السكان والزوّار من الاستمتاع بجوّ تراثي مع جميع وسائل الراحة الحديثة».

يتسوّق قاصدوها ويستمتعون بالتجربة، يؤكد أديب النقيب. «فالمطاعم تقدّم أطباقاً متنوّعة من المطابخ العالمية، والمقاهي تحمل طابعها الخاص، لتُشكّل أماكن مثالية للاسترخاء والتمتُّع بالأجواء الهادئة والفريدة والمنظَّمة». وهل المكان للأثرياء فقط؟ ينفي: «هو وجهة مفتوحة، بدليل اختيار المطاعم والمقاهي على مستوى الأسعار المختلفة التي تُناسب الجميع، لخلق بيئة ترحيبية تُلبّي حاجات الزوّار، من السكان أو السياح».

«الصيفي فيلدج» تتميّز بخصوصيتها الفريدة ولا تُشبه أي مشروع آخر (الشرق الأوسط)

ويرى العكس أيضاً في هذا السؤال: هل «الصيفي فيلدج» هي الوجه المتناقض لبيروت الازدحام والصخب؟ «بل الوجه المميَّز والفريد والنظامي للعاصمة المزدحمة والصاخبة. في حين أنّ أجزاء كبيرة من المدينة تعجّ بالحركة والضوضاء، تُقدّم القرية أجواء نابضة بالحياة ومريحة وفريدة بشكل هادئ وأنيق».


مقالات ذات صلة

مغيب الشمس من سطوح بيروت... استثنائية التجربة البصرية

سفر وسياحة مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)

مغيب الشمس من سطوح بيروت... استثنائية التجربة البصرية

تحلو الجلسة المُطلَّة على مشهد يُبهج النفس ويهدِّئ همَّ الأيام. في بيروت، تتعدَّد الأماكن المشرفة على العاصمة ببحرها ومبانيها وأفقها البعيد حيث تتوارى الشمس

فاطمة عبد الله (بيروت)
الاقتصاد يقوم عدد من مقدمي طلبات التأشيرات في مركز التأشيرات بالرياض بإكمال إجراءات طلباتهم (الشرق الأوسط)

نمو طلبات تأشيرات «شنغن» في السعودية بنسبة 23 % هذا العام

كشفت شركة «في إف إس غلوبال» عن أن الطلب على تأشيرات «شنغن» في السعودية شهد نمواً ملحوظاً بنسبة 23 في المائة هذا العام.

فتح الرحمن يوسف (الرياض)
سفر وسياحة فيروز حاضرة في ثنايا فندق القاصوف (الشرق الاوسط)

«القاصوف»... صفحات من تاريخ لبنان الذهبي

يُعدُّ فندق «القاصوف» في بلدة ضهور الشوير، من الأقدم في لبنان والشرق الأوسط، شهرته ملأت الدنيا، وشغلت الناس على مدى سنوات طويلة، قبل أن تدمّره الحرب.

فيفيان حداد (بيروت)
سفر وسياحة يسمح فقط بحمل الشاحن في حقائب اليد (شاترستوك)

لماذا يمكن أن يُفسد وضع الشواحن المحمولة داخل الحقائب رحلتك؟

من الممكن أن يتسبب الشاحن المحمول (Power Bank) في انطلاق أجهزة الإنذار، ومن ثم خضوعك لفحص إضافي عند نقاط التفتيش الأمنية بالمطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق أظهر مقطع الفيديو اهتزاز المقعد (غيتي)

حظر زوجين بدآ شِجاراً مع راكبة صينية بسبب مقعدها المائل

حظرت شركة الطيران الوطنية في هونغ كونغ، «كاثي باسيفيك»، زوجين من رحلاتها بعد شجار بدآه مع مسافرة صينية بسبب مقعدها المائل أمامهما، حسب «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)

مغيب الشمس من سطوح بيروت... استثنائية التجربة البصرية

مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)
مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)
TT

مغيب الشمس من سطوح بيروت... استثنائية التجربة البصرية

مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)
مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)

تحلو الجلسة المُطلَّة على مشهد يُبهج النفس ويهدِّئ همَّ الأيام. في بيروت، تتعدَّد الأماكن المشرفة على العاصمة ببحرها ومبانيها وأفقها البعيد حيث تتوارى الشمس مُسلِّمة لليل رسم المشهد الجمالي. إنه «الروف توب»، وهو يتجاوز كونه طاولة لجَمْعة، أو احتساء مشروب، أو تناول لقمة، فيتيح حَبْك علاقة مع الفضاء الأوسع، وفكرة المدينة، والهواء المتسلِّل إلى الروح فيُسعدها.

يعلم قاصدو السطوح بأنّ شيئاً آخر غير النكهة واللمَّة سيجمع. المكان هو المتعة الأولى. لأنه مُطلّ، ومُنطلق. لا تحدّه جدران ولا يأسره المشهد الواحد. الآتون إلى «Clap» مثلاً يتطلّعون إلى احتضان بيروت بنظرة. هذا المطعم الأنيق الواقع في الطبقة الثامنة من مبنى جريدة «النهار» في وسط المدينة، لا يقدّم تجربة طعام راقية فحسب، بل لحظة فاخرة تتوهَّج بإمكان الإحاطة بالمشهد البيروتي واكتمال الإطلالة على ما مرَّت به.

غروب الشمس في بيروت موعد يومي يحتفل به اللبنانيون (شاترستوك)

على مسافة من «ساحة الشهداء» التاريخية، تصطفّ الطاولات وسط إضاءة هادئة تُرخي المزاج. التصميم الداخلي أنيق، وإنما مَن يقصدونه يشاؤون اختبار المساحة الخارجية. منها، تبدو المدينة في متناول اليد، كأنها حقاً للجميع، ومتاحة لغزل عشاقها.

أجواء «Clap Beirut» وطعامه، وضعاه في المركز 47 بين أفضل 50 مطعماً في العالم بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2022. الكوكتيلات أيضاً تتضاعف لذّتها وهي تُرتَشف على وَقْع صمود بيروت وتغلّبها الأسطوري على المحن.

مشهد الغروب يؤكد استثنائية التجربة البصرية (حساب «C-Lounge» في «فيسبوك»)

وسبق أن شغل الطبقةَ الثامنة من مبنى «النهار» عنوانٌ آخر للمكان المنشرح، هو «Iris»، لينتقل عام 2018 إلى سطح جناح «سي سايد» في الواجهة البحرية لبيروت. مساحة تمنح زائرها إحساساً بالحرّية. وإن قلَّ ارتفاعه عمّا كان عليه سابقاً، لا يزال جارَ البحر، لا يبخل بمدّ العين بمنظر مُشتهى للمدينة وليلها.

هذه المساحات الحرّة، مميّزة بترّاسها الشاسع لإتاحة الإشراف على كل ما لا يظهر دون الارتفاعات وفَضْلها. أرائك كبيرة وأخرى أصغر قليلاً، تتكئ على الكراسي، فتمنح الجالس وضعية مريحة. الآتون قبل مغيب الشمس، يستدركون معنى الدقائق الجميلة الفاصلة بين الضوء والعتمة. الأمكنة المرتفعة، تجعل مشهد الغروب مُنتَظراً ومقصوداً، فتنطبع صورته في البال ويُحفَظ على الهواتف لهواة الفيديو والصورة. يحدُث ذلك وسط جوّ شبابي نابض وطاقة مفعَمة مُعزَّزة بحضور طاغٍ للموسيقى وحماساتها. الكوكتيلات والأطباق العالمية، بينما الشمس تغيب والليل يتسلّل على مهل، قبل اقتحام الأمسية، هما مزيج اللحظة التي تُحسَب والتذوّق الذي يجعل الطَعم يُعلِّم.

الآتون إلى «الروف توب» يشاؤون احتضان بيروت بنظرة (حساب «SPINE» في «فيسبوك»)

مُرتَفع آخر ينبض بالحياة ويشير إلى خصوصية التجربة العصرية. في «SPINE» بشمال وسط بيروت، تتراءى المدينة على ارتفاع شاهق. فالمكان يقع في الطبقة الـ12 من «G1 تاور». ديكوره المُصمَّم على أشكال مربّعات ومستطيلات، يُرخي شعوراً بالفضاء المُجرَّد والحدود العصيّة على الإمساك بها. هذه لمسة «وهم» تتيحها الأضواء والتلاعُب بالظلّ، ما يمنح المكان طابعه الخاص.

لحظة فاخرة تتوهَّج بإمكان الإحاطة بالمشهد البيروتي (حساب «Clap» في «فيسبوك»)

حيازته جائزة التصميم مرات، وتحلّيه بإمكان رؤية أفق بيروت وبحرها بزاوية 360 درجة، يؤكد استثنائية التجربة البصرية. الإضاءة روح المكان وعصاه السحرية، بها يكسب التحدّي. وهي تتواطأ مع قائمة الطعام وأصناف الكوكتيلات لجَعْل الأناقة، هي الأخرى، وجبة رئيسية.

يتقدَّم الليل، لتتداخل مئات الألوان بالأنغام المُبهجة، وتعلو الأيدي المُصفِّقة، ويتمايل الراقصون على إيقاعات «الدي جاي» المتصاعدة كأنّ الفضاء كلّه لها.

وبجوار البحر؛ على مسافة قريبة من منارة بيروت الشهيرة، وبجانب كورنيش عين المريسة المزدحم، يرتفع «C-Lounge» ليتيح مشاهدة الغروب عن قُرب. هنا أيضاً تتداخل الموسيقى مع مكوّنات المائدة من طعام وشراب، لتشكِّل، مع جمال الإطلالة البانورامية على الأبيض المتوسّط، ثلاثية تريح الروح وتهدّئ ما تعكّره الأيام الصعبة.

«الروف توب» يتيح حَبْك علاقة مع فكرة المدينة (حساب «Clap» في «فيسبوك»)

على الطبقة السادسة من فندق «باي فيو هوتيل بيروت»، يقع تراس يشرف على مدينة لا تستريح. تبدو الأمواج كأنها تُفشي أسرار مَن لجأوا إليها وهم حزانى، فتُخبر عن كسر الخاطر، والأحضان التي بردت؛ وتحمل أخبار مَن عبروا الأفق وهي ترسو على رمال الشاطئ.

الغروب هو الوقت المفضَّل لزيارة هذه الأماكن. يبدو قرص الشمس متوهّجاً، وهو يفارق هذا الجزء من الأرض، لينتشل مَن هم في الطرف الآخر من سبات الليل. في بيروت أماكن كثيرة أخرى تمنح أسطحتُها قاصديها فرصة للإعجاب بالمشهد. الوارد في هذه السطور بعضٌ من خيارات تتنوَّع. محبّو السطوح يفضّلونها على المُغلق. بانشراحها، وارتفاعها، تُحمّلهم أجنحة وتُشعرهم بالتحليق خارج مختلف أشكال الأقفاص.