حكم الإعدام على الشيخة حسينة « زلزال» يهزّ بنغلاديش

قلق إقليمي من تداعيات محتملة

الشيخة حسينة (آ ف ب)
الشيخة حسينة (آ ف ب)
TT

حكم الإعدام على الشيخة حسينة « زلزال» يهزّ بنغلاديش

الشيخة حسينة (آ ف ب)
الشيخة حسينة (آ ف ب)

وسط قلق إقليمي كبير، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أُدينت الشيخة حسينة واجد، رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة والتي تمتعت بنفوذ سياسي كبير لعقود، بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية». وبناءً على ذلك، صدر بحقها حكم بالإعدام - غيابياً - من قبل محكمة أنشأتها هي نفسها عام 2009، لملاحقة خصومها السياسيين، وفق زعم هؤلاء الخصوم. ويخشى كثيرون الآن أن يسطّر هذا الحكم فصلاً جديداً في دائرة الاغتيالات والتصفيات السياسية والصراعات على السلطة في البلاد. ما يخفف نسبياً من مخاطر الحكم أن حسينة ليست في بنغلاديش حالياً، بل تعيش في الهند منذ أكثر من سنة، بمنأى عن متناول المحكمة التي أصدرت الحكم ضدها. وللعلم، حسينة، التي هي ابنة الشيخ مجيب الرحمن، مؤسس بنغلاديش وأول رؤسائها، اتهمت بارتكاب «جرائم حرب» وإصدار أوامر باستخدام القوة المميتة، بعد 15 شهراً من استقالتها وفرارها إلى الهند في مواجهة انتفاضة قادها طلاب، وأسفرت – بحسب تقارير – عن مقتل ما لا يقل عن 1400 شخص.

يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أصدرت محكمة الجرائم الدولية، داخل بنغلاديش، المؤلفة من ثلاثة قضاة برئاسة القاضي محمد غلام مرتضى مزمدار، حكماً بالإعدام - غيابياً - بحق رئيسة البلاد السابقة الشيخة حسينة واجد، في أعقاب إدانتها بـ«ارتكاب جرائم ضد الإنسانية»، إبان انتفاضة يوليو (تموز) من العام الماضي.

وجاء الحكم بالإعدام ضدها بناءً على اتهامها بأنها أمرت بإطلاق النار، ما أدى إلى مقتل ستة متظاهرين عُزّل في العاصمة دكا، يوم 15 أغسطس (آب) العام الماضي. ولقد صدر أيضاً حكم بالإعدام بحق وزير الداخلية البنغلاديشي السابق أسد الزمان خان كمال. وفي المقابل، صدر حكم بحق المفتش العام السابق للشرطة شودري عبد الله المأمون، الذي أصبح «شاهد دولة»، بالسجن خمس سنوات. وأمرت المحكمة كذلك بمصادرة ممتلكات كل من حسينة وكمال.

ردّ حسينة... وتداعيات الحكم

رداً على الحكم، أصدرت الشيخة حسينة بياناً وصفت فيه الحكم بأنه «دليل» على «النية الإجرامية الوقحة لشخصيات متطرّفة داخل حكومة مؤقتة غير منتخبة»، في إشارة مباشرة إلى الزعيم المؤقت الدكتور محمد يونس. وتابعت الرئيسة السابقة في بيانها «إنني أنكر تماماً التهم الموجهة إليّ... وأشعر بالحزن على كل الأرواح التي فُقدت في يوليو (تموز) وأغسطس، من كلا طرفي الانقسام السياسي، لكن لا أنا ولا أي من القادة السياسيين أصدرنا أوامر بقتل المتظاهرين». وجدير بالذكر، هنا، أنه سبق للرئيسة السابقة أن وصفت المحكمة بأنها «محكمة صورية»، واتهمت محمد يونس بأنه يعمل «واجهة لدوائر مصالح سياسية متطرفة».

من جهة ثانية، يمثل هذا الحكم تحوّلاً دراماتيكياً في المشهد السياسي البنغلاديشي، لكونه أحدث انقساماً حاداً في الآراء على مستوى البلاد. وفي حين يراه البعض عدالة طال انتظارها، يراه آخرون «تصفية سياسية» ذات خلفيات ودوافع انتقامية.

هذا، ولقد فُرضت إجراءات أمنية مشددة في دكا عقب إعلان الحكم، واندلعت احتجاجات واسعة، وحرائق متعمدة، ووقعت انفجارات أدت إلى وقوع ضحايا في أنحاء متفرقة من بنغلاديش. واستمرت الاضطرابات في مختلف أنحاء البلاد، مع اشتعال احتجاجات واسعة، وتسجيل هجمات حرق متعمدة، وانفجارات، تسببت في وقوع عدد من الضحايا. ولا تزال التوترات السياسية محتدمة، مع تباين ردود فعل أحزاب المعارضة إزاء الحكم.دوامة لا تنتهي من الانتقام السياسيتاريخياً، لا بد من الإشارة إلى أنه لم تجف تماماً بعد الدماء التي أريقت مع ولادة بنغلاديش عام 1971، إذ ظلت البلاد التي كانت تعرف حينذاك بـ«باكستان الشرقية» نهباً للاغتيالات السياسية وصراعات السلطة. ويرى محللون أن حكم الإعدام الصادر بحق حسينة جزء لا يتجزأ من التاريخ الطويل للانتقامات السياسية في بنغلاديش، الذي يرتبط بعداوتها السياسية مع خصومها، وآخرهم رئيس الوزراء الحالي

واشنطن لم تعلق بشكل مباشر على حكم الإعدام، لكنها أكدت ضرورة اتباع السلطات البنغلاديشية الإجراءات القانونية الواجبة

الدكتور محمد يونس.

وفي تعليق للأكاديمي الهندي سانجاي أستاذ الدراسات الجنوب ـ آسيوية في جامعة جواهر لال نهرو بنيودلهي، قال إن هذه «ليست أول حالة استهداف سياسي؛ إذ تعود جذور الصراع إلى عداوة شخصية اشتعلت منذ عام 2007، وانقسامات آيديولوجية، وتنافس حزبي قديم.... ويأتي الحكم ضد حسينة بمثابة الفصل الأحدث في هذا المسار».

وأردف بهاردواج: «الشيخة حسينة، بطريقة ما، قد ذاقت من الكأس ذاتها»، ملمحاً إلى وضع حسينة «غريمتها» البيغوم خالدة ضياء، زعيمة الحزب الوطني البنغلاديشي، قيد الإقامة الجبرية عام 2020.

ويذكر أن نجل خالدة، طارق رحمن، الذي يعيش في لندن منذ عام 2008 ويشغل منصب القائم بأعمال رئيس الحزب، كان كذلك من بين المستهدفين سابقاً عبر إجراءات قانونية مسيّسة، بحسب ما يقول سياسيون.

الصعود والحكم والسقوط السريع

وُلدت الشيخة حسينة عام 1947، وهي الابنة الكبرى للزعيم المؤسس لبنغلاديش، الشيخ مجيب الرحمن. وبعد اغتيال معظم أفراد عائلتها في انقلاب عسكري عام 1975، نجت هي وشقيقتها فقط لأنهما كانتا خارج البلاد.

بعدها امتدت فترات حكمها، على رأس حزب أبيها «رابطة عوامي» (يسار الوسط) من 1996 إلى 2001، ثم من 2009 حتى عام 2024. وشهدت البلاد عبر هذه السنوات تحولات في الاقتصاد، وقطاع الملابس الجاهزة، والدبلوماسية الإقليمية، لكن المنتقدين اتهموها بالتسلط المتزايد، والإخفاء القسري لمعارضين، وقمع البعض الآخر.

أما سقوطها فجاء سريعاً، إذ بدأت الاحتجاجات على خلفية خلاف حول حصص التوظيف، ثم تحوّلت إلى حركة جماهيرية تطالب باستقالتها. ويوم 5 أغسطس 2024، فرت حسينة إلى الهند على متن هليكوبتر عسكرية، بينما كانت الحشود المبتهجة تقتحم القصر الرئاسي. ومنذ ذلك الحين، تحكم بنغلاديش إدارة مؤقتة بقيادة محمد يونس، الحائز جائزة نوبل. ولقد منعت هذه الإدارة «رابطة عوامي» من خوض الانتخابات المقرر تنظيمها في فبراير (شباط) 2026.

تداعيات جيوسياسية

على المستوى الإقليمي، يحمل الحكم تداعيات جيوسياسية كبرى؛ إذ طلبت بنغلاديش رسمياً من الهند تسليم حسينة ووزير الداخلية السابق، اللذين يعيشان في المنفى منذ فرارهما خلال الانتفاضة، بعدما حكمت محكمة الجرائم الدولية بإعدامهما. وذهبت وزارة الخارجية البنغلاديشية إلى حد التحذير من أن إيواء حسينة من قبل أي دولة يُعد «عملاً عدائياً للغاية وتجاهلاً للعدالة».

أنيل تريغونايات، الدبلوماسي الهندي السابق، يصف لـ«الشرق الأوسط» حالة الاستقطاب الراهنة في بنغلاديش بأنها «خطيرة»، ويحذر من أن مثل هذا الحكم قد يزعزع الاستقرار ليس فقط في بنغلاديش، بل في شبه القارة الهندية بأكملها. وللعلم، رغم مواجهتها ضغوطاً دبلوماسية، التزمت السلطات الهندية الصمت حتى الآن، ولم تصدر أي رد رسمي سوى تأكيد تسلمها للطلب.

فمن جهة، لا ترغب الهند في الظهور وكأنها منحازة تماماً إلى جانب حسينة، مع أن عليها إعادة النظر في جميع ركائز علاقتها مع بنغلاديش، مع الأخذ في الاعتبار الضغوط السياسية الداخلية والاعتبارات الجيوالسياسية الإقليمية. ومن جهة ثانية، فإن رفض طلب التسليم قد يؤدي إلى توتر في العلاقات بين الهند وبنغلاديش، وربما يزيد من حدة الاضطراب السياسي في بنغلاديش.

ومن ثمّ، يتوقع مراقبون ألا تترك هذه الأزمة تبعاتها على الوضع الداخلي في بنغلاديش فحسب، بل يخشون من تعقيدها الحالة الدبلوماسية الإقليمية، خصوصاً العلاقات بين بنغلاديش والهند، والتأثير على الأوضاع الجيوسياسية في جنوب آسيا، وسط مخاوف من وقوع اضطرابات وعدم استقرار المؤسسات.

خيارا الهند الصعبان

أيضاً، يرى محللون أن الهند تواجه الآن خياراً صعباً: فإما حماية حليفة سابقة دعمت مصالحها الأمنية لأكثر من عقد، أو الحفاظ على علاقات عملية مع حكومة يونس، التي تقترب بوضوح من الصين وباكستان. ومما يذكر أن إدارة حسينة حافظت لسنوات على مصالح الأمن الداخلي الهندية، عبر قمعها الجماعات المعادية للهند، والتعاون مع الوكالات الهندية. كذلك كافحت تصاعد الأصولية الإسلامية عبر استيعاب قوى محافظة متشددة، مثل «حفظة الإسلام»، وملاحقة المتعاونين، ومعظمهم من جماعة «الجماعة الإسلامية».

أما بالنسبة للصين، فقد وصفت السلطات في بكين الحكم بأنه «شأن داخلي يخص بنغلاديش»، رافضةً الإدلاء بمزيد من التعليقات. وأعربت بكين عن أملها في «استقرار وتنمية» بنغلاديش - نهج محايد صُمم بعناية بغية الحفاظ على العلاقات مع الحكومة المؤقتة. ويعزز النفوذ الصيني المتزايد في بنغلاديش، بما في ذلك الصفقات المرتقبة على معدات عسكرية مثل طائرات «جيه – 10 سي» المقاتلة، الثقل الاستراتيجي لبكين.

رد فعل واشنطن

واشنطن أيضاً، لم تعلق بشكل مباشر على حكم الإعدام، لكنها أكدت على ضرورة اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. ومعلوم أنه سبق للسلطات الأميركية نفي أي تورط لها في إسقاط حسينة عام 2024، واصفةً هذه الادعاءات بأنها «كاذبة بكل بساطة». وحثت منظمات حقوقية، منها «هيومان رايتس ووتش»، واشنطن وحكومات أخرى على مراقبة أي انتهاكات محتملة للإجراءات القانونية الواجبة في المحاكمات.

الصين وباكستان تسدّان الفراغ

مع ذلك، شرعت الحكومة البنغلاديشية المؤقتة بقيادة يونس، في تغيير مسارها بعيداً عن سياستها الخارجية السابقة، متجهة نحو مُغازلة الصين وباكستان علناً. ووقّعت بنغلاديش عدة اتفاقيات ثنائية مع الصين في مجالات التجارة والبنية التحتية والتعليم والثقافة، بينما قد يبدو اهتمام دكا بشراء 20 طائرة مقاتلة صينية الصنع من طراز «جيه - 10 سي» متعجلاً في ظل الظروف الحالية.

واللافت أن الزيارات الرفيعة المستوى بين بنغلاديش وباكستان - بما في ذلك زيارات وزير الخارجية إسحاق دار ووزير الداخلية محسن نقفي - تمخضت عن اتفاقيات متعددة، بما في ذلك إلغاء التأشيرات. كما أن رسو السفينة البحرية الباكستانية «بي إن إس سيف» في ميناء تشيتاغونغ البنغلاديشي عزّز، بصورة استثنائية، العلاقات العسكرية بين البلدين منذ عقود.

وحديثاً، أهدى رئيس وزراء بنغلاديش، قائد الجيش الباكستاني كتاباً يصور شمال شرقي الهند باعتباره جزءاً من «بنغلاديش الكبرى»، ما أثار القلق في وقت تفقد الهند عمقها السياسي والاستراتيجي الكبير داخل بنغلاديش.

من جهتهم، يرى مراقبو بنغلاديش أن نيودلهي ليس لديها حافز كبير لتعزيز العلاقات مع يونس، الذي تَعدّه استغل فترة ولايته لرعاية مصالحه الشخصية، في المقام الأول. وقد أصدر أمراً إدارياً بالتخلص من جميع القضايا الضريبية المعلقة ضد شركاته، إضافة إلى الحصول على تراخيص لجامعة غرامين، بحسب ما يقول خصومه.

 

مشهد من الاضطرابات التي تسببت في التغيير السياسي في بنغلاديش (إ ب ا)

«الجرائم الدولية»... محكمة انقلبت على مؤسسها

> تتجلى المفارقة في أن «محكمة الجرائم الدولية» في بنغلاديش جاءت إلى الوجود على يد أحدث «ضحاياها»، أي الشيخة حسينة نفسها، لمعاقبة مرتكبي جرائم مروعة مثل القتل والاغتصاب، وكذلك من عاونوا باكستان على ارتكابها خلال حرب تحرير بنغلاديش عام 1971. إذ أسست المحكمة بموجب «قانون محاكم الجرائم الدولية» لعام 1973، الذي أقرته حكومة «رابطة عوامي» بزعامة الشيخ مجيب الرحمن بعد الاستقلال بفترة وجيزة. ومع أن القانون ظل قائماً منذ عام 1973، لم تُجرَ أي محاكمات بناءً عليه طوال عقود، بسبب الاضطرابات السياسية المتكررة والانقلابات العسكرية وتغير الحكومات. غير أن حكومة الشيخة حسينة أعادت تفعيل «المحكمة» رسمياً في مارس (آذار) 2010 إثر عودة حزب «رابطة عوامي» إلى السلطة عام 2009 عبر نجاح انتخابي كبير. وجرى تفعيل المحكمة استجابةً لمطالب طويلة الأمد من منظمات المجتمع المدني، خاصةً عائلات ضحايا عام 1971. وجرى تصميم المحكمة بعدّها محكمة محلية ذات معايير دولية، وليست هيئة دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة. وعلى مدار 15 سنة، أصدرت «محكمة الجرائم الدولية» 57 حكماً، بدءاً من إعدام زعيم «الجماعة الإسلامية» عبد القادر ملا عام 2013. وقد نفذت حتى الآن ستة أحكام إعدام. مع ذلك، واجهت المحكمة انتقادات بسبب استخدامها ضد المعارضين السياسيين، خاصة قادة «الجماعة الإسلامية» و«الحزب الوطني البنغلاديشي». وشملت الاتهامات الموجهة للمحكمة التدخل السياسي والمحاكمات المتسرعة. وبعد الإطاحة بحسينة في أغسطس 2024 - في حركة طلابية يُزعم أن «الجماعة الإسلامية» اخترقتها - أعادت الحكومة المؤقتة بقيادة يونس توجيه المحكمة لمقاضاة قادة ومسؤولي «رابطة عوامي»، على خلفية حملة القمع التي شنتها في يوليو وأغسطس. وفي هذه الأثناء، أعلن «المجلس الدولي للحقوقيين» عن مخاطبة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، طالباً التدخل العاجل لحماية حق الشيخة حسينة في الحياة والمحاكمة العادلة. وبالطبع، تأتي هذه الخطوة وسط قلق دولي واسع النطاق بشأن حكم الإعدام الصادر بحق حسينة. وأعلن المجلس، أيضاً، عزمه على التوجه قريباً بنداء عاجل إلى الأمم المتحدة لحماية حقوق حسينة الأساسية. جدير بالذكر، أن هذه المنظمة منفصلة تماماً عن كلٍّ من محكمة العدل الدولية ولجنة الحقوقيين الدولية. وذكر ستيفان دوجاريك، الناطق باسم الأمم المتحدة، بأنه على الرغم من كونها «لحظة مهمة» لضحايا أعمال العنف التي شهدتها بنغلاديش عام 2024، فإن فرض عقوبة الإعدام أمرٌ مؤسف... «ونحن نعارض استخدام عقوبة الإعدام في جميع الظروف». وحقاً، جاء الحكم القضائي ليفاقم حالة الاستقطاب السياسي في بنغلاديش. إذ تواجه الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها مطلع عام 2026، حالة من الشك الشديد مع حظر «رابطة عوامي» فعلياً ونفي حسينة. كما قد يعقد المستقبل السياسي المبهم آفاق الحكم الديمقراطي ويعطل المصالحة، ويؤثر سلباً على المشهد الدبلوماسي الإقليمي. إذ يُعدّ حكم الإعدام الصادر بحق الشيخة حسينة أكثر من مجرد حدث قانوني محلي، لكونه نقطة تحول جيوسياسية قد تُعيد تعريف العلاقات الخارجية لبنغلاديش، وتُشكّل تحدياً للدور الإقليمي المهيمن للهند، وتُشجّع على توسيع نفوذ الصيني والباكستاني، وتُؤثّر على الاستقرار السياسي والأمني في جنوب آسيا على امتداد السنوات المقبلة.



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.