وسط قلق إقليمي كبير، وفي حكم تاريخي غير مسبوق، أُدينت الشيخة حسينة واجد، رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة والتي تمتعت بنفوذ سياسي كبير لعقود، بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية». وبناءً على ذلك، صدر بحقها حكم بالإعدام - غيابياً - من قبل محكمة أنشأتها هي نفسها عام 2009، لملاحقة خصومها السياسيين، وفق زعم هؤلاء الخصوم. ويخشى كثيرون الآن أن يسطّر هذا الحكم فصلاً جديداً في دائرة الاغتيالات والتصفيات السياسية والصراعات على السلطة في البلاد. ما يخفف نسبياً من مخاطر الحكم أن حسينة ليست في بنغلاديش حالياً، بل تعيش في الهند منذ أكثر من سنة، بمنأى عن متناول المحكمة التي أصدرت الحكم ضدها. وللعلم، حسينة، التي هي ابنة الشيخ مجيب الرحمن، مؤسس بنغلاديش وأول رؤسائها، اتهمت بارتكاب «جرائم حرب» وإصدار أوامر باستخدام القوة المميتة، بعد 15 شهراً من استقالتها وفرارها إلى الهند في مواجهة انتفاضة قادها طلاب، وأسفرت – بحسب تقارير – عن مقتل ما لا يقل عن 1400 شخص.
يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أصدرت محكمة الجرائم الدولية، داخل بنغلاديش، المؤلفة من ثلاثة قضاة برئاسة القاضي محمد غلام مرتضى مزمدار، حكماً بالإعدام - غيابياً - بحق رئيسة البلاد السابقة الشيخة حسينة واجد، في أعقاب إدانتها بـ«ارتكاب جرائم ضد الإنسانية»، إبان انتفاضة يوليو (تموز) من العام الماضي.
وجاء الحكم بالإعدام ضدها بناءً على اتهامها بأنها أمرت بإطلاق النار، ما أدى إلى مقتل ستة متظاهرين عُزّل في العاصمة دكا، يوم 15 أغسطس (آب) العام الماضي. ولقد صدر أيضاً حكم بالإعدام بحق وزير الداخلية البنغلاديشي السابق أسد الزمان خان كمال. وفي المقابل، صدر حكم بحق المفتش العام السابق للشرطة شودري عبد الله المأمون، الذي أصبح «شاهد دولة»، بالسجن خمس سنوات. وأمرت المحكمة كذلك بمصادرة ممتلكات كل من حسينة وكمال.
ردّ حسينة... وتداعيات الحكم
رداً على الحكم، أصدرت الشيخة حسينة بياناً وصفت فيه الحكم بأنه «دليل» على «النية الإجرامية الوقحة لشخصيات متطرّفة داخل حكومة مؤقتة غير منتخبة»، في إشارة مباشرة إلى الزعيم المؤقت الدكتور محمد يونس. وتابعت الرئيسة السابقة في بيانها «إنني أنكر تماماً التهم الموجهة إليّ... وأشعر بالحزن على كل الأرواح التي فُقدت في يوليو (تموز) وأغسطس، من كلا طرفي الانقسام السياسي، لكن لا أنا ولا أي من القادة السياسيين أصدرنا أوامر بقتل المتظاهرين». وجدير بالذكر، هنا، أنه سبق للرئيسة السابقة أن وصفت المحكمة بأنها «محكمة صورية»، واتهمت محمد يونس بأنه يعمل «واجهة لدوائر مصالح سياسية متطرفة».
من جهة ثانية، يمثل هذا الحكم تحوّلاً دراماتيكياً في المشهد السياسي البنغلاديشي، لكونه أحدث انقساماً حاداً في الآراء على مستوى البلاد. وفي حين يراه البعض عدالة طال انتظارها، يراه آخرون «تصفية سياسية» ذات خلفيات ودوافع انتقامية.
هذا، ولقد فُرضت إجراءات أمنية مشددة في دكا عقب إعلان الحكم، واندلعت احتجاجات واسعة، وحرائق متعمدة، ووقعت انفجارات أدت إلى وقوع ضحايا في أنحاء متفرقة من بنغلاديش. واستمرت الاضطرابات في مختلف أنحاء البلاد، مع اشتعال احتجاجات واسعة، وتسجيل هجمات حرق متعمدة، وانفجارات، تسببت في وقوع عدد من الضحايا. ولا تزال التوترات السياسية محتدمة، مع تباين ردود فعل أحزاب المعارضة إزاء الحكم.دوامة لا تنتهي من الانتقام السياسيتاريخياً، لا بد من الإشارة إلى أنه لم تجف تماماً بعد الدماء التي أريقت مع ولادة بنغلاديش عام 1971، إذ ظلت البلاد التي كانت تعرف حينذاك بـ«باكستان الشرقية» نهباً للاغتيالات السياسية وصراعات السلطة. ويرى محللون أن حكم الإعدام الصادر بحق حسينة جزء لا يتجزأ من التاريخ الطويل للانتقامات السياسية في بنغلاديش، الذي يرتبط بعداوتها السياسية مع خصومها، وآخرهم رئيس الوزراء الحالي
واشنطن لم تعلق بشكل مباشر على حكم الإعدام، لكنها أكدت ضرورة اتباع السلطات البنغلاديشية الإجراءات القانونية الواجبة
الدكتور محمد يونس.
وفي تعليق للأكاديمي الهندي سانجاي أستاذ الدراسات الجنوب ـ آسيوية في جامعة جواهر لال نهرو بنيودلهي، قال إن هذه «ليست أول حالة استهداف سياسي؛ إذ تعود جذور الصراع إلى عداوة شخصية اشتعلت منذ عام 2007، وانقسامات آيديولوجية، وتنافس حزبي قديم.... ويأتي الحكم ضد حسينة بمثابة الفصل الأحدث في هذا المسار».
وأردف بهاردواج: «الشيخة حسينة، بطريقة ما، قد ذاقت من الكأس ذاتها»، ملمحاً إلى وضع حسينة «غريمتها» البيغوم خالدة ضياء، زعيمة الحزب الوطني البنغلاديشي، قيد الإقامة الجبرية عام 2020.
ويذكر أن نجل خالدة، طارق رحمن، الذي يعيش في لندن منذ عام 2008 ويشغل منصب القائم بأعمال رئيس الحزب، كان كذلك من بين المستهدفين سابقاً عبر إجراءات قانونية مسيّسة، بحسب ما يقول سياسيون.
الصعود والحكم والسقوط السريع
وُلدت الشيخة حسينة عام 1947، وهي الابنة الكبرى للزعيم المؤسس لبنغلاديش، الشيخ مجيب الرحمن. وبعد اغتيال معظم أفراد عائلتها في انقلاب عسكري عام 1975، نجت هي وشقيقتها فقط لأنهما كانتا خارج البلاد.
بعدها امتدت فترات حكمها، على رأس حزب أبيها «رابطة عوامي» (يسار الوسط) من 1996 إلى 2001، ثم من 2009 حتى عام 2024. وشهدت البلاد عبر هذه السنوات تحولات في الاقتصاد، وقطاع الملابس الجاهزة، والدبلوماسية الإقليمية، لكن المنتقدين اتهموها بالتسلط المتزايد، والإخفاء القسري لمعارضين، وقمع البعض الآخر.
أما سقوطها فجاء سريعاً، إذ بدأت الاحتجاجات على خلفية خلاف حول حصص التوظيف، ثم تحوّلت إلى حركة جماهيرية تطالب باستقالتها. ويوم 5 أغسطس 2024، فرت حسينة إلى الهند على متن هليكوبتر عسكرية، بينما كانت الحشود المبتهجة تقتحم القصر الرئاسي. ومنذ ذلك الحين، تحكم بنغلاديش إدارة مؤقتة بقيادة محمد يونس، الحائز جائزة نوبل. ولقد منعت هذه الإدارة «رابطة عوامي» من خوض الانتخابات المقرر تنظيمها في فبراير (شباط) 2026.
تداعيات جيوسياسية
على المستوى الإقليمي، يحمل الحكم تداعيات جيوسياسية كبرى؛ إذ طلبت بنغلاديش رسمياً من الهند تسليم حسينة ووزير الداخلية السابق، اللذين يعيشان في المنفى منذ فرارهما خلال الانتفاضة، بعدما حكمت محكمة الجرائم الدولية بإعدامهما. وذهبت وزارة الخارجية البنغلاديشية إلى حد التحذير من أن إيواء حسينة من قبل أي دولة يُعد «عملاً عدائياً للغاية وتجاهلاً للعدالة».
أنيل تريغونايات، الدبلوماسي الهندي السابق، يصف لـ«الشرق الأوسط» حالة الاستقطاب الراهنة في بنغلاديش بأنها «خطيرة»، ويحذر من أن مثل هذا الحكم قد يزعزع الاستقرار ليس فقط في بنغلاديش، بل في شبه القارة الهندية بأكملها. وللعلم، رغم مواجهتها ضغوطاً دبلوماسية، التزمت السلطات الهندية الصمت حتى الآن، ولم تصدر أي رد رسمي سوى تأكيد تسلمها للطلب.
فمن جهة، لا ترغب الهند في الظهور وكأنها منحازة تماماً إلى جانب حسينة، مع أن عليها إعادة النظر في جميع ركائز علاقتها مع بنغلاديش، مع الأخذ في الاعتبار الضغوط السياسية الداخلية والاعتبارات الجيوالسياسية الإقليمية. ومن جهة ثانية، فإن رفض طلب التسليم قد يؤدي إلى توتر في العلاقات بين الهند وبنغلاديش، وربما يزيد من حدة الاضطراب السياسي في بنغلاديش.
ومن ثمّ، يتوقع مراقبون ألا تترك هذه الأزمة تبعاتها على الوضع الداخلي في بنغلاديش فحسب، بل يخشون من تعقيدها الحالة الدبلوماسية الإقليمية، خصوصاً العلاقات بين بنغلاديش والهند، والتأثير على الأوضاع الجيوسياسية في جنوب آسيا، وسط مخاوف من وقوع اضطرابات وعدم استقرار المؤسسات.
خيارا الهند الصعبان
أيضاً، يرى محللون أن الهند تواجه الآن خياراً صعباً: فإما حماية حليفة سابقة دعمت مصالحها الأمنية لأكثر من عقد، أو الحفاظ على علاقات عملية مع حكومة يونس، التي تقترب بوضوح من الصين وباكستان. ومما يذكر أن إدارة حسينة حافظت لسنوات على مصالح الأمن الداخلي الهندية، عبر قمعها الجماعات المعادية للهند، والتعاون مع الوكالات الهندية. كذلك كافحت تصاعد الأصولية الإسلامية عبر استيعاب قوى محافظة متشددة، مثل «حفظة الإسلام»، وملاحقة المتعاونين، ومعظمهم من جماعة «الجماعة الإسلامية».
أما بالنسبة للصين، فقد وصفت السلطات في بكين الحكم بأنه «شأن داخلي يخص بنغلاديش»، رافضةً الإدلاء بمزيد من التعليقات. وأعربت بكين عن أملها في «استقرار وتنمية» بنغلاديش - نهج محايد صُمم بعناية بغية الحفاظ على العلاقات مع الحكومة المؤقتة. ويعزز النفوذ الصيني المتزايد في بنغلاديش، بما في ذلك الصفقات المرتقبة على معدات عسكرية مثل طائرات «جيه – 10 سي» المقاتلة، الثقل الاستراتيجي لبكين.
رد فعل واشنطن
واشنطن أيضاً، لم تعلق بشكل مباشر على حكم الإعدام، لكنها أكدت على ضرورة اتباع الإجراءات القانونية الواجبة. ومعلوم أنه سبق للسلطات الأميركية نفي أي تورط لها في إسقاط حسينة عام 2024، واصفةً هذه الادعاءات بأنها «كاذبة بكل بساطة». وحثت منظمات حقوقية، منها «هيومان رايتس ووتش»، واشنطن وحكومات أخرى على مراقبة أي انتهاكات محتملة للإجراءات القانونية الواجبة في المحاكمات.
الصين وباكستان تسدّان الفراغ
مع ذلك، شرعت الحكومة البنغلاديشية المؤقتة بقيادة يونس، في تغيير مسارها بعيداً عن سياستها الخارجية السابقة، متجهة نحو مُغازلة الصين وباكستان علناً. ووقّعت بنغلاديش عدة اتفاقيات ثنائية مع الصين في مجالات التجارة والبنية التحتية والتعليم والثقافة، بينما قد يبدو اهتمام دكا بشراء 20 طائرة مقاتلة صينية الصنع من طراز «جيه - 10 سي» متعجلاً في ظل الظروف الحالية.
واللافت أن الزيارات الرفيعة المستوى بين بنغلاديش وباكستان - بما في ذلك زيارات وزير الخارجية إسحاق دار ووزير الداخلية محسن نقفي - تمخضت عن اتفاقيات متعددة، بما في ذلك إلغاء التأشيرات. كما أن رسو السفينة البحرية الباكستانية «بي إن إس سيف» في ميناء تشيتاغونغ البنغلاديشي عزّز، بصورة استثنائية، العلاقات العسكرية بين البلدين منذ عقود.
وحديثاً، أهدى رئيس وزراء بنغلاديش، قائد الجيش الباكستاني كتاباً يصور شمال شرقي الهند باعتباره جزءاً من «بنغلاديش الكبرى»، ما أثار القلق في وقت تفقد الهند عمقها السياسي والاستراتيجي الكبير داخل بنغلاديش.
من جهتهم، يرى مراقبو بنغلاديش أن نيودلهي ليس لديها حافز كبير لتعزيز العلاقات مع يونس، الذي تَعدّه استغل فترة ولايته لرعاية مصالحه الشخصية، في المقام الأول. وقد أصدر أمراً إدارياً بالتخلص من جميع القضايا الضريبية المعلقة ضد شركاته، إضافة إلى الحصول على تراخيص لجامعة غرامين، بحسب ما يقول خصومه.

«الجرائم الدولية»... محكمة انقلبت على مؤسسها
> تتجلى المفارقة في أن «محكمة الجرائم الدولية» في بنغلاديش جاءت إلى الوجود على يد أحدث «ضحاياها»، أي الشيخة حسينة نفسها، لمعاقبة مرتكبي جرائم مروعة مثل القتل والاغتصاب، وكذلك من عاونوا باكستان على ارتكابها خلال حرب تحرير بنغلاديش عام 1971. إذ أسست المحكمة بموجب «قانون محاكم الجرائم الدولية» لعام 1973، الذي أقرته حكومة «رابطة عوامي» بزعامة الشيخ مجيب الرحمن بعد الاستقلال بفترة وجيزة. ومع أن القانون ظل قائماً منذ عام 1973، لم تُجرَ أي محاكمات بناءً عليه طوال عقود، بسبب الاضطرابات السياسية المتكررة والانقلابات العسكرية وتغير الحكومات. غير أن حكومة الشيخة حسينة أعادت تفعيل «المحكمة» رسمياً في مارس (آذار) 2010 إثر عودة حزب «رابطة عوامي» إلى السلطة عام 2009 عبر نجاح انتخابي كبير. وجرى تفعيل المحكمة استجابةً لمطالب طويلة الأمد من منظمات المجتمع المدني، خاصةً عائلات ضحايا عام 1971. وجرى تصميم المحكمة بعدّها محكمة محلية ذات معايير دولية، وليست هيئة دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا السابقة. وعلى مدار 15 سنة، أصدرت «محكمة الجرائم الدولية» 57 حكماً، بدءاً من إعدام زعيم «الجماعة الإسلامية» عبد القادر ملا عام 2013. وقد نفذت حتى الآن ستة أحكام إعدام. مع ذلك، واجهت المحكمة انتقادات بسبب استخدامها ضد المعارضين السياسيين، خاصة قادة «الجماعة الإسلامية» و«الحزب الوطني البنغلاديشي». وشملت الاتهامات الموجهة للمحكمة التدخل السياسي والمحاكمات المتسرعة. وبعد الإطاحة بحسينة في أغسطس 2024 - في حركة طلابية يُزعم أن «الجماعة الإسلامية» اخترقتها - أعادت الحكومة المؤقتة بقيادة يونس توجيه المحكمة لمقاضاة قادة ومسؤولي «رابطة عوامي»، على خلفية حملة القمع التي شنتها في يوليو وأغسطس. وفي هذه الأثناء، أعلن «المجلس الدولي للحقوقيين» عن مخاطبة لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، طالباً التدخل العاجل لحماية حق الشيخة حسينة في الحياة والمحاكمة العادلة. وبالطبع، تأتي هذه الخطوة وسط قلق دولي واسع النطاق بشأن حكم الإعدام الصادر بحق حسينة. وأعلن المجلس، أيضاً، عزمه على التوجه قريباً بنداء عاجل إلى الأمم المتحدة لحماية حقوق حسينة الأساسية. جدير بالذكر، أن هذه المنظمة منفصلة تماماً عن كلٍّ من محكمة العدل الدولية ولجنة الحقوقيين الدولية. وذكر ستيفان دوجاريك، الناطق باسم الأمم المتحدة، بأنه على الرغم من كونها «لحظة مهمة» لضحايا أعمال العنف التي شهدتها بنغلاديش عام 2024، فإن فرض عقوبة الإعدام أمرٌ مؤسف... «ونحن نعارض استخدام عقوبة الإعدام في جميع الظروف». وحقاً، جاء الحكم القضائي ليفاقم حالة الاستقطاب السياسي في بنغلاديش. إذ تواجه الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها مطلع عام 2026، حالة من الشك الشديد مع حظر «رابطة عوامي» فعلياً ونفي حسينة. كما قد يعقد المستقبل السياسي المبهم آفاق الحكم الديمقراطي ويعطل المصالحة، ويؤثر سلباً على المشهد الدبلوماسي الإقليمي. إذ يُعدّ حكم الإعدام الصادر بحق الشيخة حسينة أكثر من مجرد حدث قانوني محلي، لكونه نقطة تحول جيوسياسية قد تُعيد تعريف العلاقات الخارجية لبنغلاديش، وتُشكّل تحدياً للدور الإقليمي المهيمن للهند، وتُشجّع على توسيع نفوذ الصيني والباكستاني، وتُؤثّر على الاستقرار السياسي والأمني في جنوب آسيا على امتداد السنوات المقبلة.


