«اختراق» في ملف غزة... من دون إجابات قاطعة

وسط سباق بين الشكوك والتفاؤل

المعاناة الإنسانية في غزة (أ ف ب)
المعاناة الإنسانية في غزة (أ ف ب)
TT

«اختراق» في ملف غزة... من دون إجابات قاطعة

المعاناة الإنسانية في غزة (أ ف ب)
المعاناة الإنسانية في غزة (أ ف ب)

اتجهت الحرب في قطاع غزة إلى مسار معاكس، بعد تحقيق اختراق في منتجع شرم الشيخ المصري لتنفيذ مرحلة أولى من اتفاق وقف إطلاق النار، وذلك إثر تعثر ثقيل بالمفاوضات منذ انسحاب فريقَي الولايات المتحدة وإسرائيل في يوليو (تموز) الماضي من مباحثات الدوحة. غير أن هذا الاختراق في ملف غزة لم يُجِب عن كل الأسئلة دفعة واحدة، بل أفصح في مرحلته الأولى عن انسحابات إسرائيلية غير استراتيجية أو مفصلية مع إتمام تبادل الأسرى مرة واحدة؛ وهو ما ساعد بالتعجيل به وسط رغبة أميركية - إسرائيلية في إنجازه أولاً، وفق تقديرات خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط».

المصلحة الأميركية - الإسرائيلية في التعجيل بهذا الاختراق قد لا تتجاوب سريعاً في الإجابة عن أسئلة أخرى متعلقة بملفات وقضايا شائكة، وفق خبراء، وبينهم دبلوماسي مصري سابق تكلموا عن تصوراتهم.

معظم الأسئلة، أو التساؤلات، المرتقبة، حسب الخبراء، تتصل: بكيفية نزع سلاح «حماس» ومستقبلها السياسي، وكيفية إتمام «حل الدولتين»، ومدى قبول مصر ببقاء إسرائيلي دائم على الحدود، أو قبول الفلسطينيين بلجنة دولية للإشراف على القطاع، أو أي خطة «ستعمّر» القطاع؟... أهي التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مسبقاً تحت اسم «ريفييرا الشرق الأوسط» أم الخطة المصرية التي لاقت قبولاً عربياً وإسلامياً ودولياً؟ وهل اتفاق الاثنين المقبل المحتمل سيكون شاملاً أم مرحلياً؟

الخبراء الذين التقتهم «الشرق الأوسط» يرون أن الإجابة عن الأسئلة الشائكة ستكون في المراحل المقبلة، وستكون جدّية واشنطن هي المحدّد الأول. ويؤكد هؤلاء أن جهود الوسطاء، لا سيما في مصر، ستتواصل من أجل المضي في تنفيذ الاتفاق، كما نجحت في مسار شرم الشيخ.

اختراق سريع

ملامح الخطة التنفيذية للمرحلة الأولى، تكشف عن تفاصيل 5 أيام تجيب فيهما فقط عن سؤالين فقط متعلقين بالانسحاب وتبادل الأسرى. وهذا ما توصلت إليه الاجتماعات رفيعة المستوى في مدينة شرم الشيخ المصرية التي بدأت الاثنين، وفق ما يؤكد مصدر مصري مطّلع لـ«الشرق الأوسط».

وفي جدوله: يوم الخميس، الإعلان الرسمي عن الاتفاق، ومصادقة الحكومة الإسرائيلية، ونشر قوائم الأسرى وخريطة الانسحاب للمرحلة الأولى، وبدء الانسحاب الميداني مساءً. ويوم الجمعة، موعد فتح باب الاعتراضات الشكلية أمام المحاكم الإسرائيلية. واليوم السبت استمرار الانسحاب من المناطق المأهولة، وبدء تجهيز الفصائل الأسرى الأحياء وتسليم جثامين الجنود القابلة للتسليم.

الخطة التنفيذية تكشف أيضاً عن وصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة لمتابعة التنفيذ غداً الأحد، وإعلان وقف الحرب على غزة، بينما يعج يوم الاثنين المقبل ببنود، منها تنفيذ عملية التبادل رسمياً بإشراف (مصر وقطر والولايات المتحدة وتركيا)، ومعه تطلق إسرائيل سراح الأسرى الفلسطينيين وتُسلّم عشرات جثامين المقاومين، بينهم عناصر من وحدات النخبة، مع فتح المعابر بالكامل وبدء دخول 400 شاحنة - مساعدات يومياً، ترتفع إلى 600 فأكثر خلال الأيام التالية.

ترحيب مبكّر... أميركي - إسرائيليتختتم الخطة، التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، بانطلاق المفاوضات فوراً حول المرحلة الثانية من الاتفاق؛ من أجل بحث استكمال الانسحاب وضمان وقف دائم للعدوان، من دون أن تكشف عن تفاصيل أخرى أو تجيب عن تساؤلات أخرى.

ولقد جاء الموقف الأميركي - الإسرائيلي مرحّباً بصورة لافتة. وفي منشور على منصّته «تروث سوشال» للتواصل الاجتماعي، أعلن ترمب اتفاق إسرائيل و«حماس»، متابعاً أنه «يعني إطلاق سراح جميع الرهائن قريباً جداً وستسحب إسرائيل قواتها إلى الخط المتّفق عليه». واعتبر الرئيس الأميركي ذلك «الخطوات الأولى نحو سلام قوي ودائم وأبديّ»، بينما أبدى وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في تصريحات لقناة «فوكس نيوز» أول من أمس (الخميس) التزام إسرائيل بخطة ترمب لإنهاء الحرب في غزة، وفق «رويترز».

هذا، وقالت الناطقة باسم الحكومة الإسرائيلية، شوش بدرسيان، للصحافيين، الخميس، إنه «في غضون 24 ساعة بعد عقد اجتماع مجلس الوزراء، سيبدأ وقف إطلاق النار في غزة»، دون تهديدات أو مراوغات كما حصل مع اتفاقات سابقة.

في ضوء ذلك، قال السفير رخا أحمد حسن، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، ومساعد وزير الخارجية الأسبق، إن «الاتفاق خطة ممتازة، لكن هناك مخاوف من بقية المراحل، وبخاصة أن المرحلة الأولى لم تجب عن كل القضايا الشائكة واكتفت بمسارَي تبادل الأسرى وانسحاب أولي».

أيضاً، ثمة أسئلة شائكة لا بد أنها ستُطرح في المرحلة الثانية، حسب السفير رخا أحمد حسن، وهي تتعلق بحضور «حماس» وسلاحها، وكيفية إصلاح السلطة الفلسطينية، والانتخابات الفلسطينية المقبلة ومشاركة الفصائل فيها، والقبول الأميركي بـ«حل الدولتين»، ومدى التزام إسرائيل بالاتفاق، وأي خطة ستكون لها الغلبة في إعمار القطاع... أهي التي طرحت مصر وقبلت عربياً وإسلامياً ودولياً أم خطة ترمب.

المحلل السياسي الفلسطيني، نزار نزّال، يرى أن المرحلة الأولى شهدت توافقات أميركية - إسرائيلية؛ كون القضايا المطروحة الانسحاب الأولي وتبادل الأسرى لا تمثل أي مشكلة لا لترمب أو نتنياهو، وبالتالي كانا أحرص على إنجاحها، وهكذا حدث الاختراق.

غير أن المحلل السياسي الفلسطيني، سهيل دياب، يرى أن الاختراق إنما حدث نتيجة لتنازلات قُدّمت من الطرفين، لا سيما في قضايا إنهاء الحرب، وتموضع الجيش الإسرائيلي، والمساعدات الإنسانية، والضمانات اللازمة لتسليم الأسرى، في مسار دراماتيكي غير متوقع.

دياب يرى أيضاً أن قطار إنجاز الاتفاق «خرج من محطته الأولى وقد لا يتوقف؛ وذلك بسبب حرص أميركا على مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل في المنطقة، خاصةً بعدما باتت الأخيرة - وفق دياب - معزولة دولياً ويجب إخراجها سريعاً من العزلة بهذا الاتفاق».

قضايا شائكة

من جهة أخرى، لا تزال القضايا الشائكة حاضرة في المشهد بعد إعلان الاتفاق، وأبرزها سلاح المقاومة. ولقد قال أسامة حمدان، القيادي في «حماس»، خلال تصريحات له أول من أمس: «لن يقبل أي فلسطيني بتسليم السلاح وشعبنا أحوج ما يكون للسلاح والمقاومة»، وبالذات، بعد كلام ترمب عن نزع سلاح وانسحاب بعد إطلاق سراح الرهائن.

والملاحظ هنا أن ترمب تهرّب في كلامه أيضاً من مسار «حل الدولتين» المتصاعد دولياً، بل قال إنه «لا رأي له» في إمكان حل لدولتين بعد وقف إطلاق النار واتفاق تبادل الأسرى، وإنه سيلتزم بما يتسنى الاتفاق عليه في النهاية.

وفي موضوع متصل، قال قيادي في «حماس» لوكالة «أ.ف.ب» الفرنسية، إنّ الحركة ستفرج عن 20 رهينة ما زالوا أحياء دفعة واحدة في مقابل إطلاق إسرائيل سراح أكثر من ألفي معتقل فلسطيني، هم 250 يمضون أحكاماً بالسجن مدى الحياة و1700 اعتُقلوا منذ بدء الحرب قبل سنتين. وكانت مسألة قوائم المعتقلين من النقاط الحساسة في المفاوضات؛ إذ تشمل أسماء تطالب «حماس» بالإفراج عنها في المرحلة الأولى من الهدنة، وفق المصدر ذاته.

وحسب وسائل إعلام مصرية رسمية، تضمّنت القائمة اسم مروان البرغوثي، القيادي في حركة «فتح» المحكوم بالسجن المؤبد منذ 2004، والذي يُعدّ من أكثر الشخصيات الفلسطينية شعبية؛ إذ يصفه مؤيدوه بـ«مانديلا فلسطين». إلا أن ناطقة باسم الحكومة الإسرائيلية قالت بوجود خلافات بشأن مصيره.

ألغام مرتقبة

السفير رخا أحمد حسن، يعتقد أن المرحلة المقبلة «أمام ألغام كبيرة» وعدد من القضايا الشائكة وغيرها، وهي تحتاج إلى حرص كبير لتلافي أي التفاف إسرائيلي حولها وتخريبها.

نزار نزّال، أيضاً يتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة إجابات عن الأسئلة التي لم يجب عنها هذا الاختراق، مثل البرنامج الزمني لوقف الحرب، ومناقشة إدارة القطاع، والضمانات الفلسطينية المطلوبة لوقف إطلاق نار دائم ونزع السلاح. ويوضح «ثمة أسئلة كبيرة أخرى، مثل كيف يمكن تحاشي تكرار نموذج إسرائيل مع لبنان في غزة (الاستهداف الجوي المتكرّر)، وما مدة بقاء القوات الإسرائيلية على الحدود مع مصر وغيرها؟».

والواقع، أنه رغم ترحيب دولتي «الوساطة»، مصر وقطر، بالمسار الذي انطلق، فإنهما بدتا حريصتين في تصريحات رسمية على إبداء مخاوف عدّة في الشرق الأوسط من «انقلاب» إسرائيلي - أميركي على استكمال المسار، وسط تفاصيل لا تزال مبهمة إزاء التوصل إلى وقف نهائي للحرب وإحياء السلام بالمنطقة.

وعلى الرغم من أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قال في بيان، الخميس، إن اتفاق شرم الشيخ «لا يطوي صفحة حرب فحسب، بل يفتح باب الأمل لشعوب المنطقة في غدٍ تسوده العدالة والاستقرار»، فإنه أكد خلال اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس ترمب «ضرورة المضي قدماً نحو تنفيذ اتفاق وقف الحرب في قطاع غزة بمراحله كافة»، مع أهمية قيام ترمب بدعم التنفيذ ورعايته، وفق بيان للرئاسة المصرية.

للعلم، وجّه السيسي الدعوة للرئيس ترمب للمشاركة في الاحتفالية التي ستُعقد في مصر بمناسبة إبرام اتفاق وقف الحرب في قطاع غزة، باعتباره «اتفاقاً تاريخياً يتوّج الجهود المشتركة لمصر والولايات المتحدة والوسطاء في الفترة الماضية». ووفق بيان للرئاسة، شدّد الرئيس المصري، خلال لقائه مبعوث واشنطن للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وكبير مستشاري ترمب جاريد كوشنر، في قصر الاتحادية، على «ضرورة توقف إطلاق النار في القطاع بشكل فوري دون الحاجة إلى الانتظار لحين التوقيع على الاتفاق ذي الصلة».

فصل جديد؟

من ناحية ثانية، ذكر بيان صحافي للخارجية المصرية أن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي أعرب في اتصالات هاتفية مع نظراء عرب وأوروبيين وآسيويين عن «التطلع لأن يصبح التوصل للاتفاق بداية لفصل جديد في المنطقة ينعم فيه الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي بالأمن والاستقرار ويفتح الباب لسلام عادل ودائم بينهما».

أما وزير الدولة بوزارة الخارجية القطرية محمد الخليفي، فقال في منشور عبر منصة «إكس»، الخميس، إن المرحلة الجديدة من الاتفاق «تمثل بارقة أمل نحو تهدئة مستدامة، وفرصة لإعادة الاعتبار للأبعاد الإنسانية في غزة، في انعكاس واضح لنجاعة الوساطة المشتركة التي اختارت طريق العقل والحكمة بدلاً من العنف والتصعيد».

وشدد السفير رخا أحمد حسن على أن الدور المصري كبير ويقظ ويتحرك في مسارات عدّة من أجل أن يستكمل المسار بنجاح ورأينا مشاركة مصرية، الخميس، في مؤتمر حل الدولتين بفرنسا لتأكيد هذا الخيار، مشدداً على أهمية أن يكون حضور ترمب للتوقيع مرتبطاً بصفقة شاملة وليس اتفاقاً مرحلياً لتلافي أي ثغرة مستقبلية.

ويعتقد نزّال أن الجدية التي ظهرت بها واشنطن بالمرحلة الأولى من الاتفاق لن تكرر في المراحل المقبلة؛ لأنها جاءت أولاً لدعم مصلحة إسرائيل في إطلاق سراح الأسرى وإحباط موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين ودعم حصول ترمب على جائزة نوبل.

ويضيف: «لكن المراحل المقبلة صعبة في غزة وقد لا تشهد تبريداً كاملاً للقتال، وهذا سيزيد من أعباء الوسطاء، لا سيما الوسيط المصري الذي يقوم بدور كبير للغاية من أجل إنهاء الحرب».

بالمقابل، يعتقد سهيل دياب أن ترمب يمضي في خطوة استراتيجية وليست تكتيكية؛ إدراكاً لمصالحه في هذا الإطار مع دول المنطقة، وأنها باتت مهددة، منبهاً بأن مساحة تلاعب نتنياهو بالاتفاق باتت صفرية أمام الموقف الأميركي وضغط الداخل الإسرائيلي وليس أمامه غير التسليم بالمرحلة المقبلة والاستعداد للانتخابات في 2026 باستراتيجية جديدة غير الحرب، خاصة بعد تسلم الأسرى وانتهاء الذريعة الأكبر لاستمرار القتال. شدّد السيسي على «ضرورة توقف النار في القطاع فوراً من دون انتظار التوقيع»



«سقوط الفاشر»... هل يعيد تشكيل السودان؟


النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
TT

«سقوط الفاشر»... هل يعيد تشكيل السودان؟


النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)

لا يمكن النظر إلى «سقوط» مدينة الفاشر بيد «قوات الدعم السريع»، كأنه مجرد حدث «عسكري عابر» فقط، يُصنَّف ضمن عمليات «الكر والفر» بين طرفَي القتال في السودان، لكنه في نظر كثير من المحللين «انعطافة حادة» في الحرب بين الطرفين.

ولا تعدّ الفاشر مجرد عاصمة لولاية شمال دارفور، أو مركز ثقل الإقليم كله، بل تتعدى ذلك، لأهميتها التاريخية، وربما يعدّ «صمودها» الذي استمرّ أكثر من عام ونصف العام بوجه حصار «قوات الدعم السريع»، دليلاً لأهميتها القصوى بالنسبة للسودان ولطرفَي النزاع، ورمزاً لطبيعة الحرب المستمرة منذ أكثر من 18 شهراً، وتعبيراً عن فشل «الدولة المركزية». لقد فتح سقوط المدينة بوابات لأسئلة عدة ومعقّدة، تتعلق بوحدة البلاد، وإعادة توزيع موازين القوى، واحتمالات ولادة نظام جديد، ترسمه الخطابات الموالية للطرفين، التي تفوح من بعضها رائحة الانتصار، ورائحة الهزيمة من الآخر. فخريطة السودان الجديدة، بحسب تصريحات الطرفين، تحدِّدها فوهات البنادق.

تقول الصحافية المتابعة لتطور «أهوال الحرب»، شمائل النور، بحسب صفحتها على منصة «فيسبوك»، إن سيطرة «قوات الدعم السريع» على الفاشر، وبالتالي «كامل إقليم دارفور» تتيح لها موقفاً تفاوضياً أقوى، «يراعي ميزان القوة الجديد على الأرض». وتحذِّر من دخول البلاد في حرب استنزاف طويلة، ومن تقسيم للبلاد على غرار «السيناريو الليبي».

وتقول: «قد يُفتَح الباب لتطبيق السيناريو الليبي، أو إدخال السودان في حرب استنزاف طويلة المدى، إذا تمسّك الطرفان بالحل العسكري».

ويتشابه ما ذهبت إليه شمائل النور، مع ما ذهبت إليه الباحثة المصرية د. أماني الطويل، في مقال نشرته على موقع «مصر 360»، حيث عدّت سقوط الفاشر «تحولاً حاسماً في الحرب السودانية». وقالت إنه لا يقتصر على رمزية الفاشر أو موقعها الجغرافي، بل «يعبِّر عن تغيُّر عميق في موازين القوى»، وتضيف: «الفاشر لم تعد مجرد مدينة، بل تعد مؤشراً على تفكك الدولة المركزية وتحول السودان إلى أقاليم متنازعة».

صورة للأقمار الاصطناعية لجثث في شوارع مدينة الفاشر (أ.ب)

دفاع وهجوم

في خطابه الجماهيري، يوم الاثنين الماضي، أي بعد 3 أيام من سقوط المدينة، عمل قائد الجيش رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، على رسم صورة لقواته بأنها «درع للدولة وممثلة الشعب» بقوله: «هذه محطة من محطات العمليات العسكرية، التي فُرضت علينا كشعب سوداني، وسننتصر لأننا نقاتل من أجل الوطن».

وقال إن قواته انسحبت من المدينة «تجنباً للدمار، والقتل الممنهج للمدنيين». وشدَّد على عدم انتهاء المعركة، «بل هي مرحلة من الحرب، ستُحسم لصالح الشعب السوداني». وجدَّد البرهان وصفه القديم لـ«قوات الدعم السريع» بأنها «ميليشيا مرتزقة»، واتهمها بارتكاب «جرائم على مرأى العالم»، وتوعَّد بـ«القصاص وتطهير الأرض من الدنس».

وحملت لغة البرهان «نبرة دينية - عسكرية»، استدعى فيها قيم الفداء والصبر، لكنها بحسب المحللين تتضمَّن اعترافاً ضمنياً بـ«خلل ميداني» أدى لعجز الجيش عن حماية آخر معاقله في غرب البلاد.

لقد بدا خطاب البرهان دفاعياً وتعبوياً معاً، استند إلى استثارة عواطف «المظلومية، والوحدة الوطنية، والثأر»، وذلك من أجل استعادة روح الصمود، وثقة القواعد الموالية له.

حميدتي والبحث عن الشرعية

وبحثاً عن الشرعية، حاول محمد حمدان دقلو «حميدتي» في خطابه، الأربعاء، عقب سقوط الفاشر، أن يحمل خطابه «لغة المنتصر الواثق»، الذي يحدِّد الأجندة بقوله: «تحرير الفاشر ليس انقساماً للسودان، بل تحول نحو وحدته»، قاطعاً بأن قواته «لا تسعى للسلطة، بل للسلام، وأن مرحلة الحرب انتهت لتبدأ مرحلة السلم».

وركز حميدتي على إظهار قواته بوصفها قوة منضبطة ومؤسسة، وتلتزم بأخلاق الحرب في مواجهة الاتهامات التي وُجِّهت لها بارتكاب فظائع بعد الاستيلاء على المدينة: بقوله: «ممنوع قتل الأسرى، ممنوع الاعتداء على المدنيين... أي جندي يتجاوز سيُحاسب فوراً».

ودعا المنظمات الإنسانية لإغاثة المواطنين، الذين دعاهم للعودة لمساكنهم بعد إزالة الألغام، وتحت تأمين «الشرطة الفيدرالية». ومستعلياً على خصمه، وصف حميدتي ضباط الجيش الذين تدرَّبوا في الكلية العسكرية بأنهم «أبناء كلية العنصرية والكيزان»، وحمَّل الحركة الإسلامية المسؤولية عن إشعال الحرب، ضمن سردية تتأرجح بين البحث عن الشرعية، والخلاص من نظام الإسلاميين.

وأعاد حميدتي تقديم نفسه بوصفه قائدَ دولة وليس قائد قوات متمردة، وتحدَّث عن الحكومة الموازية، الموالية له، حكومة «تحالف تأسيس» التي تتخذ من مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور مقراً لها، وإلى سعيها لتأسيس «جيش جديد ودولة مدنية ديمقراطية» بوصف حكومته مشروعاً بديلاً لتلك الحكومة التي يترأسها البرهان، وتتخذ من بورتسودان الساحلية عاصمة مؤقتة.

«حَيَّ على الجهاد»

على الضفة الأخرى من نهر الحرب الموار، حاول علي أحمد كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، الانتقال بالمعركة من معركة سياسية إلى معركة دينية. ففي خطاب بثَّته منصات الحركة بعد سقوط الفاشر، خاطب كرتي مَن أسماهم «الشهداء الذين صمدوا في الفاشر وبارا»، ودعا إلى «الثأر» ممن أسماهم «الميليشيات السفاكة، ودولة الشر وداعميها»، مؤكداً أن الحركة الإسلامية التي يترأسها «ستظل سداً منيعاً خلف القوات المسلحة».

صورة التقطت بالقمر الاصطناعي قبل أيام لدخان يتصاعد من مدينة الفاشر السودانية (أ.ف.ب)

أعاد كرتي الحرب إلى سياقها العقائدي القديم، عادّاً الجيش «جند الكرامة، وحامي الأرض والعقيدة»، بمواجهة «متآمرين على الإسلام، إقليميين ودوليين»، وهو ما أعاد إلى ذاكرة المراقبين «لغة الجهاد السياسي» التي سادت في البلاد إبان الحرب مع جنوب السودان، والتي جيشت لها حركته تحت الشعارات الجهادية.

المحلل السياسي السوداني محمد لطيف حاول في إفادته لـ«الشرق الأوسط» النظر لمترتبات سقوط الفاشر من زاوية مختلفة، استبعد من خلالها سيناريوهات التقسيم إلى دولتين في الوقت الحالي، لكنه حذَّر من «اللبننة»، بقوله: «قوات الدعم السريع كانت الأكثر ميلاً لإنهاء الحرب، بينما ظل الجيش يعرقل أي هدنة، ما يعني أن التمسك بوحدة السودان في خطاب الجيش للاستهلاك السياسي».

لطيف حذَّر من أن يقود استمرار الحرب إلى تحويل البلاد إلى «كانتونات مسلحة، لا إلى دولتين فقط»، لأن السلاح بات مشرعاً في أيدي الجميع. وهكذا تتسع الفجوة بين موقف كرتي ورؤية لطيف، فجوة بين خطاب الدولة الدينية الذي «يقدس الحرب»، والتحليل السياسي الذي يرى في استمرار الحرب الخطر المحدق الذي يهدد بتفكك الدولة.

صورة للأقمار الاصطناعية لجثث في شوارع مدينة الفاشر (أ.ب)

السودان لن يعود

رسم الصحافي المصري الشهير إبراهيم عيسى في مقطع فيديو تناول فيه تطور الأوضاع في السودان، صورةً قاتمةً للأوضاع في السودان بعد سقوط الفاشر، بقوله: «سقوط الفاشر ليس إلا محطة في طريق تفكك السودان»، وتابع: «السودان لن يعود كما كان، لأن عوامل التمزق كلها قائمة: الإسلام السياسي، والتنوع القبلي، والاستبداد». وعدّ ما حدث ويحدث في دارفور امتداداً لسياسات «الإخوان المسلمين» الذين صنعوا الجنجويد وشرعنوا وجودهم كقوات دعم سريع. وتابع: «لا فرق بين البرهان وحميدتي إلا في موقع السلطة، فكلاهما نتاج لنظام واحد، هو النظام الإسلامي العسكري الذي دمَّر السودان».

المحامي والقيادي في «تحالف تأسيس» حاتم إلياس، قدَّم رؤيةً من داخل تحالفه، بشأن التوازنات الجديدة التي ترتبت على سيطرة «الدعم السريع» على الفاشر، بقوله: «الجيش يعاني حالة ضعف هيكلية منذ سنوات طويلة، نتيجة لتخريبه من قبل نظام الإنقاذ، الذي حوله إلى مؤسسة حزبية تابعة للحركة الإسلامية». وأضاف إلياس: «ما يحدث اليوم، قد يفتح الباب أمام سيناريو أفريقي للتغيير، كما حدث في تشاد وأوغندا وإثيوبيا، حين تصل حركة مسلحة إلى السلطة بالقوة». وحذَّر من نفاد صبر المجتمع الدولي بالقول: «المجتمع الدولي لن ينتظر البرهان، الواقع تحت أجندة الإسلاميين، طويلاً».

وتلمح إفادة إلياس إلى أن سقوط الفاشر ليس مجرد نصر عسكري في معركة ضمن حرب، بل إلى أنه يصنع مساراً أوسع، يتمثل في انهيار المؤسسة العسكرية التقليدية، وصعود «قوات الدعم السريع» بوصفها أداة انتقال سياسي، لا مجرد طرف في حرب.

صورة بالأقمار الاصطناعية تظهر تجمعاً لأشخاص خارج إحدى القرى في شمال شرقي الفاشر بعد سيطرة «الدعم السريع» على المدينة (أ.ف.ب)

تداعيات عسكرية وسياسية

تقول د. أماني الطويل إن سقوط الفاشر، نقل الصراع إلى «حرب استنزاف طويلة المدى»، لم تعد السيطرة المكانية فيها هي معيار القوة. وتتابع: «يصبح السؤال عمّن يملك الأرض، أقل أهمية ممن يملك الحركة والمعلومة».

موقف د. أماني الطويل يقع قريباً من توقعات الخبير العسكري المقدم متقاعد عمر أرباب في إفادته لـ«الشرق الأوسط»، الذي يستبعد إمكانية بسط «قوات الدعم السريع» سيطرتها على كامل ولاية شمال كردفان، وقال: «من الناحية العسكرية، فإن بسط سيطرة (الدعم السريع) على كردفان وارد». لكنه رأى أن استيلاء «الدعم السريع» على عاصمة الولاية، مدينة الأبيض، سيكون مكلفاً للدعم السريع في المرحلة الحالية. وقال: «خطوط الإمداد بين ولاية النيل الأبيض وشمال كردفان، لا تزال متصلة عبر مسار مدينتي كوستي إلى الأبيض، وقطعه شرط أساسي لتقدم الدعم السريع في شمال كردفان».

كردفان في خطر

وتنبأ أرباب بشروع «الدعم السريع» بمحاصرة مدينة الأبيض، عاصمة شمال كردفان وعاصمة الإقليم التاريخية، أو مهاجمتها بالمسيّرات والضربات الخاطفة؛ لزعزعة استقرارها، والحيلولة دون تقديمها الإسناد للقوات الأخرى، مع تكثيف الضغوط على مناطق محاصَرة أخرى في ولايتي جنوب كردفان وغرب كردفان: مدن بابنوسة، والدلنج، وكادوقلي؛ من أجل بسط السيطرة عليها تدريجياً.

وتوافَقَ أرباب مع رصفائه، بأن الحرب ستتحول إلى «حرب استنزاف طويلة»، سيكون عنوانها الأكبر «مسيّرات وضربات خاطفة»، بيد أنه استبعد توجه «قوات الدعم السريع» شرقاً لاستعادة الخرطوم، أو ولايات وسط وشمال البلاد بقوله: «عمليات التوسع شرقاً، ستكون مكلفة، لأن القوات المهاجمة ستبتعد عن خطوط الإمداد، والانتشار في مساحات واسعة سيضعفها».

أفراد من «قوات الدعم السريع» يسيرون وسط جثث أشخاص عُزّل ومركبات محترقة في أثناء هجوم بالقرب من الفاشر (رويترز)

من الناحية الأخرى، لم يستبعد أرباب استغلال الجيش لوجود قوات تابعة لـ«القوة المشتركة» في الصحراء الشمالية، في توجيه ضربات خاطفة ضد مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع»، لزيادة العبء عليها ومنعها من التحرك شرقاً أو شمالاً. ولصعوبة تحقيق أي من الطرفين لانتصار حاسم، أو هزيمة ساحقة، قال أرباب: «الطرفان يبحثان عن موقف تفاوضي أفضل». وأضاف: «سقوف الجيش التفاوضية أعلى من الدعم السريع، لذلك لا أتوقع ذهابه إلى عملية تفاوضية في هذه المرحلة»، وتابع: «الجيش رفض التفاوض في واقع ميداني أفضل من هذا، لذلك لا يُتوقع أن يدخل في تفاوض في ظل الوضع الذي ترتب على سقوط الفاشر».

التدخلات الخارجية

واستبعد الخبير العسكري حدوث تدخل خارجي مباشر لصالح الطرفين، بقوله: «لا يتوقع حدوث تدخل عسكري خارجي مباشر، بل سيكون هناك دعم لوجيستي أو سياسي، والاجتماعات التي تدور في دول الجوار هذه الأيام تشير لذلك».

لكن أرباب يرى فيما أسماه «تقاطع تحالفات الجيش مع بعضها بعضاً»، عائقاً لدعمه، بقوله: «قد يكون دعم بعض التحالفات، خصماً على تحالفات أخرى، ما يقلل الدعم المتوقع للجيش، بل يفتح ذلك الباب لأطراف أخرى لدعم الطرف الآخر، فيتعقَّد المشهد بصورة أكبر».

وهكذا يبدو أن هناك «وطناً يتشظى»، بين أيدي الذين يرون في سقوط الفاشر نهاية للدولة القديمة وبناء دولة جديدة على أنقاضها، والذين يرون أن استمرار الحرب يملك شرعية ماضوية وعقدية. لكن ما يجمعهم جميعاً أن الحرب لم تعد حرباً بين جيش وميليشيا، بل صارت حرباً بين رؤيتين متقاطعتين، أدى حدث سقوط الفاشر ليس فقط إلى «سقوط رمزية مدينة»، بل إلى حرب «الكل ضد الكل، وحوَّلها لمجرد معركة بلا نهاية قريبة».


إقليم دارفور السوداني... تاريخ طويل من الحروب والموت

صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم نشره على حساب «قوات الدعم السريع» السودانية شبه العسكرية على «تلغرام» 26 أكتوبر 2025 يظهر مقاتليها يحملون أسلحة ويحتفلون في شوارع الفاشر بدارفور بعد دخولهم المدينة (أ.ف.ب)
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم نشره على حساب «قوات الدعم السريع» السودانية شبه العسكرية على «تلغرام» 26 أكتوبر 2025 يظهر مقاتليها يحملون أسلحة ويحتفلون في شوارع الفاشر بدارفور بعد دخولهم المدينة (أ.ف.ب)
TT

إقليم دارفور السوداني... تاريخ طويل من الحروب والموت

صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم نشره على حساب «قوات الدعم السريع» السودانية شبه العسكرية على «تلغرام» 26 أكتوبر 2025 يظهر مقاتليها يحملون أسلحة ويحتفلون في شوارع الفاشر بدارفور بعد دخولهم المدينة (أ.ف.ب)
صورة مأخوذة من مقطع فيديو تم نشره على حساب «قوات الدعم السريع» السودانية شبه العسكرية على «تلغرام» 26 أكتوبر 2025 يظهر مقاتليها يحملون أسلحة ويحتفلون في شوارع الفاشر بدارفور بعد دخولهم المدينة (أ.ف.ب)

ترجع جذور الحروب والصراعات في إقليم دارفور السودانيإلى توترات تاريخية بين المجموعات الزراعية والرعوية، تطورت بعد ذلك إلى حروب سياسية ضد الحكومات المركزية تحت ذريعة «المظالم السياسية والاقتصادية»، لا سيما أن الإقليم الكبير – تقدر مساحته بمساحة دولة فرنسا – كان قد انضم إلى السودان بعد عام 1916، بعد أن كان «سلطنة» مستقلة تحت سلطة سكانه من قبيلة «الفور» الذين تسمى بهم.

يؤرخ للحروب والصراعات التي يشهدها الإقليم بثمانينات القرن الماضي، متأثرة بالحروب الإقليمية، خاصة الحرب الليبية التشادية، التي سهلت دخول الأسلحة النارية لتذكي بها الحروب بين المجموعات الزراعية والرعوية، وجماعات النهب المسلح التي انتشرت في الإقليم إثر موجة الجفاف التي اجتاحت الإقليم.

وتضافرت عوامل بيئية مثل الجفاف والتصحر، وإهمال الحكومات المركزية المتعاقبة، للإقليم، أدت لزيادة التنافس على الموارد الطبيعية الشحيحة، ما جعل مجموعات سكانية من أصول أفريقية تطالب بتحسين البنى التحتية واقتسام السلطة والثروة.

في 2003 اندلعت أول حرب فعلية، بين حركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة من جهة، والجيش السوداني من الجهة الأخرى، وشنت الحركات المتمردة هجمات عنيفة على مقار الحكومة، تحت ذريعة اضطهاد السكان من أصول غير عربية.

جاء رد فعل الحكومة الإسلامية في الخرطوم، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، بتسليح ميليشيات من مجموعات ذات أصول عربية، حملت اسم «الجنجويد»، ووظفتها في محاربة حركات التمرد.

ووصلت موجة العنف ذروتها خلال الفترة (2003-2005)، ونتج عنها مقتل أكثر من 300 ألف شخص وتشريد الملايين حسب الأمم المتحدة، ووجهت المحكمة الجنائية الدولية، اتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الرئيس السابق عمر البشير، ووزير دفاعه وقتها عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الدولة بالداخلية في ذلك العهد أحمد محمد هارون.

في نوفمبر (تشرين الثاني) أدين أحد قادة ميليشيا «الجنجويد» الموالي للجيش السوداني، علي كوشيب، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بعد أن سلم نفسه طواعية إلى لاهاي، فيما لا يزال البشير ومساعدوه يرفضون المثول لأمر المحكمة، بل ويقودون التعبئة في الحرب الحالية.

ولوقف الحروب، وقعت عدة اتفاقيات سلام مع الحركات المسلحة، ومنها اتفاقية «أبوجا» بنيجيريا 2006، قبلتها فصائل ورفضتها أخرى، واتفاقية جوبا سلام السودان 2020، بعد سقوط نظام البشير، وعلى عهد الحكومة الانتقالية، ووفقاً لها شاركت الحركات المسلحة في الحكم الانتقالي، وواصلت بعد انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وأثناء الحرب اختارت القتال مع الجيش ضد «قوات الدعم السريع».


سانايي تاكاييتشي... أبرز قادة تيار اليمين والنسخة اليابانية من «المرأة الحديدية»

سانايي تاكاييتشي
سانايي تاكاييتشي
TT

سانايي تاكاييتشي... أبرز قادة تيار اليمين والنسخة اليابانية من «المرأة الحديدية»

سانايي تاكاييتشي
سانايي تاكاييتشي

عاشت اليابان خلال النصف الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) نقلة نوعية غير مسبوقة في تاريخها السياسي العريق، مع تولي سانايي تاكاييتشي، السياسية اليمينية المحافظة، رئاسة الحكومة في أعقاب فوزها بزعامة «الحزب الديمقراطي الحر». وهو الحزب الكبير الذي غدا عملياً منذ عقد الخمسينات «حزب السلطة» وقلعة «مؤسّستها» ونُخبها النافذة. مجلس النواب (الداييت) انتخب تاكاييتشي (64 سنة)، يوم الثلاثاء 21 أكتوبر، من الجولة الأولى عندما نالت 237 صوتاً، أي أكثر بأربعة أصوات من الغالبية المطلقة المطلوبة. وتحقّق هذا لرئيسة الوزراء الجديدة بعد نجاح حزبها في عقد صفقة ائتلافية مع حزب «إيشين» (الابتكار) اليميني المعتدل الصغير. وللعلم، كان «الحزب الديمقراطي الحرّ» اختار تاكاييتشي زعيمة له يوم 4 أكتوبر خلفاً لرئيس الوزراء والزعيم السابق المستقيل شيغيرو إيشيبا، وسط تراجع شعبيته وخسارته غالبيته البرلمانية. وكذلك فقد الحزب دعم حزب «كوميتو» المعتدل، شريكه في الائتلاف الحكومي السابق منذ 1999.

مثَّل انتصار الزعيمة البريطانية السابقة الراحلة مارغريت ثاتشر في عقد السبعينات من القرن الماضي، شكّل انتصار سانايي تاكاييتشي علامةً مفصليةً في السياسة اليابانية، المعروفة بـ«ذكوريتها» و«تقليديتها» المحافظة.

كذلك، تمثّل الزعيمة الجديدة - مثل ثاتشر عند صعودها - تيار أقصى اليمين في حزبها. وأيضاً مثل الزعيمة البريطانية الراحلة، تُلقَّب تاكاييتشي في اليابان بـ«المرأة الحديدية» لتشدّدها الفكري وابتعادها عن المساومات.

ومن ثم، فإن بين أبرز الأسئلة المطروحة الآن:

هل ستنجح الزعيمة اليابانية الجديدة في تحقيق النجاح السياسي الذي حقّقته «قدوتها» البريطانية الراحلة (التي حكمت أكثر من 11 سنة متصلة)، فتحكم هي أيضاً فترة طويلة وتترك بصماتها على الحياة السياسة اليابانية؟

وهل سيواصل «الحزب الديمقراطي الحرّ» دوره المحوَري... وهو الذي هيمن على معظم الانتخابات اليابانية، وتولى السلطة أغلب الوقت منذ عام 1955؟

أم ستهزم التحديات والمصاعب الداخلية، السياسية والأمنية والاقتصادية، تاكاييتشي، خلال مرحلة تغيرات عالمية بالغة الدقة والحساسية؟

النشأة والبداية

ولدت سانايي تاكييتشي يوم 7 مارس (آذار) 1961 في مدينة ياماتوكوريياما بشمال مقاطعة نارا الواقعة جنوب شرق جزيرة هونشو (كبرى جزر أرخبيل اليابان). وكان أبوها موظفاً في إحدى الشركات المتصلة بشركة «تويوتا» العملاقة لصناعة السيارات، وأمها موظفة في قسم الشرطة المحلي في مقاطعة نارا.

وللعلم، تتاخم هذه المقاطعة، وعاصمتها مدينة نارا الأثرية العريقة، من الشرق مقاطعة أوساكا، حيث إحدى أكبر مدن البلاد وأهم معاقلها الصناعية.

تلقت سانايي تعليمها المتوسط والثاني في إحدى كبريات مدارس نارا الحكومية. وأتاح لها تفوّقها فرصة دخول إحدى جامعتي العاصمة طوكيو الخاصتين العريقتين، جامعة كييو وجامعة واسيدا. إلا أن أهلها رفضوا دفع أقساطها حال أصرت على مغادرة البيت أو الالتحاق بجامعة خاصة، لأنها فتاة. ولذا اضطرت للدخول جامعة كوبي، وهي جامعة حكومية كبيرة، لكن يحتاج السفر إليها من شمال نارا حوالي 6 ساعات.

بعدها، في أعقاب التخرّج ببكالوريوس في إدارة الأعمال، التحقت تاكاييتشي بـ«معهد ماتسوشيتا للإدارة العامة وإدارة الأعمال» لمتابعة دراساتها العليا. وتحت رعاية «المعهد»، الذي أسّسه مؤسس شركة «باناسونيك»، انتقلت إلى الولايات المتحدة عام 1987 للعمل «زميلةً في الكونغرس» ضمن فريق النائبة الديمقراطية باتريشيا شرودر.

عائلياً، أيضاً، تزوّجت تاكاييتشي مرتين من السياسي والبرلماني السابق تاكو ياماموتوت، إذ تزوّجا لأول مرة عام 2004، لكنهما تطلقا عام 2017، ويُقال إن السبب «الاختلافات في الآراء السياسية»، ثم تزوّجا مجدّداً عام 2021.

هذا وسبق لها أن تكلّمت علناً عن معاناتها في الإنجاب، وبالفعل، ليس لديها أطفال بيولوجيون، لكنها زوجة أب لثلاثة أولاد وجدة لأربعة أحفاد من زيجة زوجها السابقة.

إلى معترك السياسة

كانت محطة العمل في الولايات المتحدة مدخلاً لسانايي تاكاييتشي إلى عالم السياسة، بعيداً عن شغفها الشبابي بالموسيقى الصاخبة والدراجات النارية. وفي عام 1989، عادت إلى أرض الوطن لتعمل محلّلة تشريعية مستفيدة من خبرتها العملية في الولايات المتحدة ودرايتها بالسياسة الأميركية، التي أتاحت لها نشر كتب في هذا الموضوع. وأيضاً اقتحمت في ذلك مجال الإعلام كمقدمة أساسية في شبكة «تلفزيون آساهي».

وفي عام 1993، دخلت تاكاييتشي فعلياً الحلبة السياسية عندما انتخبت نائبة برلمانية مرشحةً مستقلةً، إلا أنها انضمت عام 1996 إلى «الحزب الديمقراطي الحر» المحافظ، وظلت في مجلس النواب حتى 2003، ثم مجدّداً منذ عام 2005.

وأثناء فترة ابتعادها عن مجلس النواب، إثر هزيمتها الانتخابية في انتخابات عام 2003 وخسارتها مقعدها في دائرة نارا الأولى، عملت في المجال الأكاديمي مدرّسة للاقتصاد في جامعة كينداي، بمدينة أوساكا، قبل أن تعود إلى الحياة البرلمانية عام 2005.

وضمن تنظيم الحزب، لم تلبث تاكاييتشي أن صارت من أعوان الزعيم ورئيس الوزراء الأسبق الراحل شينزو آبي وجناحه اليميني، الذي هو أكبر أجنحة الحزب وأقواها. وتحت عباءة آبي وبرعايته صعدت سلم المناصب بسرعة، وتولّت عدداً من الحقائب الوزارية في حكومتي آبي وفوميو كيشيدا، بينها حقيبة وزارة الشؤون الداخلية والاتصالات.

حقائبها الوزارية

تولت سانايي تاكاييتشي منذ عام 2006 عدداً من المناصب الوزارية، هي كما يلي:

- وزيرة الدولة لشؤون الابتكار، ووزيرة الدولة لشؤون سلامة الغذاء، ووزيرة الدولة للمساواة الجندرية والشؤون الاجتماعية، ووزيرة الدولة للعلوم والسياسة التكنولوجية، ووزيرة الدولة لشؤون أوكيناوا والمناطق الشمالية (2006 - 2007) في حكومة شينزو آبي.

- وزيرة الشؤون الداخلية والاتصالات (2014 - 2017) في حكومة شينزو آبي.

- وزير الشؤون الداخلية والاتصالات (2019 - 2020) في حكومة شينزو آبي.

- وزيرة الدولة لشؤون الأمن الاقتصادي (2022 - 2024) في حكومة فوميو كيشيدا.

مرحلة ما بعد آبي

بعد اغتيال آبي عام 2022، واصلت صعودها في حكومة حليفه كيشيدا، وأُسندت إليها حقيبة وزارة الدولة للأمن الاقتصادي حتى 2024.

تاكاييتشي الطموحة كانت قد جرّبت حظها بالمنافسة على زعامة الحزب عام 2021، لكنها فشلت عندما احتلت المرتبة الثالثة. غير أن هذه النكسة حفّزتها للتجربة مجدّداً، وحقاً دخلت المنافسة عام 2024 لكنها خسرت بفارق بسيط أمام رئيس الوزراء السابق إيشيبا.

مع هذا، بالحضور والطموح القويين فرضت هذه السياسية اليمينية نفسها على أجنحة الحزب وقياداته النافذة. ولذا، في أعقاب استقالة إيشيبا أخيراً، كانت تاكاييتشي في طليعة المنافسين لخلافته.

بالفعل، انتصرت هذه المرة، متغلبة على منافسها شينجيرو كويزومي (44 سنة)، وزير الدفاع الجديد، وابن رئيس الحكومة الأسبق جونيتشيرو كويزومي (حكم بين 2001 و2006)، وأحد القيادات التي يتوقّع كثيرون أن تتولى الزعامة في المستقبل.

نعم، قد يكون لمنافسها الشاب الفرصة مستقبل مشرق، أما اليوم وحتى إشعار آخر، فإن الزعامة معقودة اللواء لأول امرأة تحكم بلاد «الشمس المشرقة»... «سيدة اليابان الحديدية».

وكما سبقت الإشارة، طريق تاكاييتشي لا تخلو من المصاعب الداخلية السياسية والأمنية والاقتصادية، وأيضاً التحدّيات الخارجية في مرحلة تغيرات عالمية بالغة الدقة والحساسية.

داخلياً، أمام الزعيمة الجديدة - وهي خامس رئيس حكومة خلال سنتين - مهمة إعادة شعبية حزبها استناداً إلى بناء اقتصاد متعافٍ قوي، وكذلك عليها ولا سيما كونها امرأة إيلاء القضايا الاجتماعية والسكانية والصحية اهتماماً كبيراً. ومعلوم أن اليابان، حيث رابع أكبر اقتصادات العالم، تواجه راهناً ملامح منافسة اقتصادية وتكنولوجية كبرى رأس حربتها «العملاق الجار» الصين. وأيضاً، هناك السياسات الأميركية، وبالأخص، الجمركية منها... وما لها من تداعيات على الدول الحليفة والمنافسة على حد سواء.

تجدر الإشارة هنا إلى «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي هيمن على السلطة في اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان قد خسر أخيراً غالبيته البرلمانية المطلقة، ما أجبره على تشكيل ائتلافات للاحتفاظ بالسيطرة. ومن ثم، حلت تاكاييتشي محل شيغيرو إيشيبا، الذي استقال وسط ضغوط داخلية للحزب بعد أقل من سنة من ولايته، مخلّفاً تركة بلاد تكافح مع تحديات اقتصادية، وأزمة ديموغرافية، وانعدام عميق للثقة العامة في السياسة.

وحسب كلمات الصحافي الياباني كويكي كوزيمي، الرئيس السابق لمكتب وكالة «كيودو نيوز» الإخبارية في العاصمة الهندية نيودلهي: «تتولّى تاكاييتشي رئاسة الحكومة في خضم تصاعد الإحباط العام إثر عجز الحكومة عن احتواء التضخم، وزيادة الأجور، وتحسين مساءلة السياسيين عبر شفافية أفضل في تمويل الحملات الانتخابية. وبينما تحاول التصدي لهذه القضايا الاقتصادية الداخلية، سيتوجب عليها أيضا قيادة اليابان دولياً في مواجهة بيئة استراتيجية يكتنفها الغموض المتزايد، مع تحديات أمنية معقدة ومتعددة، بما فيها التعامل مع إدارة أميركية يصعب توقع ردات فعلها»، ويتابع كوزيمي: «باختصار، قائمة التحديات التي تواجه حكومة تاكاييتشي طويلة، وكل تحدٍ منها معقّد، مع هامش ضئيل جداً للخطأ يسمح لها بالبقاء في السلطة».

من جهتها، قالت رئيسة الوزراء الجديدة في خطاب فوزها الانتخابي: «أنا عازمة على وضع المصالح الوطنية دائماً في المقام الأول وقيادة البلاد بروح التوازن»، وأردفت: «دعونا نجعل الأرخبيل الياباني قويّاً ومزدهراً، وننقله إلى الجيل التالي. سأواصل العمل بكل جدية واجتهاد، وأتوقع الشيء نفسه من حكومتي».