أحيت تونس الذكرى الرابعة للقرارات «الاستثنائية» التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) 2021، بحضور كبار قيادات الجيش والأمن، وبينها «تجميد» البرلمان والحكومة الائتلافية، التي كان حزب حركة النهضة الإسلامي يسيطر على الغالبية فيها مباشرة أو عبر «حلفائه». تلك القرارات، التي بُررت بـ«مواجهة خطر داهم يهدد البلاد»، أسفرت لاحقاً عن إيقاف العمل بدستور 2014 «التوافقي»، وعن حلّ رسمي للبرلمان والمجالس البلدية ومؤسسات أخرى منتخبة، بينها المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ثم تعاقبت القرارات بتعيين سلسلة من «رؤساء الحكومات والوزراء التكنوقراط». وحقاً، منذ 25 يوليو 2022، صدر دستور جديد وسّع صلاحيات السلطة التنفيذية وسلطات رئيس الجمهورية، الذي أصبح في آن معاً رئيساً للحكومة وقائداً عاماً للقوات المسلحة العسكرية والمدنية. ثم ثبّت «برلماناً بغرفتين»، أُسندت إليه «وظيفة تشريعية محدودة»، وألغي فيه دور الأحزاب، وغدا الترشح لعضويته شخصياً، لا وفق نظام القوائم. وكذلك استعيض عن «النظام البرلماني المعدل»، الذي يتمتع فيه مجلس النواب بحقّ تعيين الحكومة ومحاسبتها وسحب الثقة منها، بـ«نظام رئاسي مركزي» يعيّن فيه الحكومة ويعزلها رئيس الدولة.

إن رحّب قطاع كبير من التونسيات والتونسيين قبل 4 سنوات بإسقاط «المنظومات السياسية القديمة» التي اتهمت باحتكار السلطة وقيادة الأحزاب والنقابات في البلاد منذ عشرات السنين، فإن تقييمات اليوم لتطورات المشهد السياسي والمؤشرات التنموية والأمنية تكشف تباينات في المواقف وتناقضات عميقة وجدية داخل «النخب الوطنية» و«كبار صنّاع القرار».
ويختلف الخبراء والسياسيون في تشخيص «المكاسب» و«الإخفاقات» السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حصلت خلال السنوات الأربع الماضية، كما يختلفون على استشراف المستقبل.
الصراعات بين «الرؤساء الثلاثة»
رغم الانتقادات التي توجّهها أطراف محسوبة على المعارضة والنقابات لسياسات الدولة خلال السنوات الأربع الماضية بحجج، مثل تراجع هامش الحريات وحلّ العديد من «المؤسسات المنتخبة»، تنوّه شخصيات سياسية قريبة من السلطات بما تعدّه «قرارات استثنائية وشجاعة اتخذتها رئاسة الدولة». وترى منها «إنقاذ البلاد» من الصراعات المدمّرة على السلطة بين كبار المسؤولين وأنصار «الرؤساء الثلاثة» (رئيس الجمهورية، ورئيسي الحكومة والبرلمان) بين عامي 2011 و2021.
في هذا السياق، أورد الجامعي اليساري صلاح الدين الداودي، المساند للرئيس قيس سعيّد، أن «بين أبرز الإصلاحات التي أنجزها الرئيس وفريقه منذ قرارات 25 يوليو 2021؛ وضع حدّ للصراعات على السلطة وعلى المال الفاسد بين لوبيات ومافيات كانت تتصارع ليلاً ونهاراً داخل البرلمان ومؤسسات الدولة وفي وسائل الإعلام على حساب ملايين الشباب والمواطنين الذين ساندوا مسار التغيير وثورة 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 - 14 يناير (كانون الثاني) 2011، طمعاً في تحسين أوضاع البلاد والشعب».
بينما نوّه الإعلامي والأكاديمي مراد علالة، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، بأهمية «هذا الإصلاح»، وسجّل أن «غالبية المراقبين والإعلاميين كانوا قبل منعرج 25 يوليو 2021 ينتقدون بقوة صراعات السياسيين داخل البرلمان وبقية مؤسسات الحكم على شاشات القنوات التلفزيونية وفي بقية المؤسسات الإعلامية». وتابع علالة أن تلك الصراعات والنزاعات كرّست «تشرذم مؤسسات الدولة» و«تنمّر بعض الشخصيات والأحزاب واللوبيات وأرباب المصالح على حساب وحدة الدولة والوحدة الوطنية للشعب».
تراجع «هامش الحريات»في المقابل، تبرز تقييمات أخرى، أقرب إلى المعارضة، تشير إلى «تراكم الإخفاقات» السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الأربع الماضية، وتراجع هامش الحريات العامة والفردية واستقلالية القضاء.
ووفق الأكاديمي رضا الشكندالي، تفاقمت الصعوبات الاقتصادية بسبب انعكاسات الحروب في العالم والمنطقة سلباً، ومنها الحرب في أوكرانيا التي تسببت في حرمان تونس من نحو 800 ألف سائح روسي وأوكراني سنوياً، ومن مليارات الدولارات التي كان يسندها إليها ضمن برامج دعم «دول الجوار». وفي هذا السياق، تعاقبت «التقييمات الغاضبة لتطورات أوضاع قطاعات الإعلام والثقافة والقضاء وحرية التعبير»، كما كشفت تصريحات صدرت أخيراً عن رئيسي «النقابة الوطنية للصحافيين» زياد دبار، و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» بسام الطريفي، ونحو 20 من «منظمات المجتمع المدني».
هذه التصريحات تدعم تقارير جديدة عن الحريات، صدرت عن هيئات حقوقية رسمية وغير رسمية، بينها هيئات «الدفاع عن المساجين السياسيين وعائلاتهم» بقيادة المحامية دليلة بن مبارك مصدق، شقيقة جوهر بن مبارك أستاذ القانون والقيادي في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة، والحقوقية فايزة راهم زوجة الأمين العام للحزب الجمهوري المعارض عصام الشابي.
وللعلم، يمضي بن مبارك والشابي وعشرات من قيادات الأحزاب والبرلمانيين والوزراء والحقوقيين ورجال الأعمال البارزين وضباط الأمن السابقين عقوبات أولية بالسجن، ضمن ما عرف بـ«قضايا التآمر على أمن الدولة» أو «ملفات الفساد المالي والسياسي».
حديث عن تراكم «الإخفاقات» سياسياً واقتصادياً واجتماعياً
انسحاب... وتهميش
ومن جهة ثانية، في لقاءات مع «الشرق الأوسط»، قال شاكر الحوكي، الأكاديمي والخبير في القانون الدولي والعلوم السياسية، إن هذه الملفات والقضايا الأمنية والعدلية أدّت إلى «تهميش مزيد من الأحزاب السياسية والنقابات والهيئات الوسطى بين الدولة والمجتمع»، بينما لفت عالم الاجتماع والحقوقي عبد اللطيف الهرماسي إلى «انسحاب عدد من رموز تلك الأحزاب والنقابات من المشهد العام أو مغادرتهم للبلاد».
وساير هذا التقييم المتشائم زياد الهاني، رئيس التحرير سابقاً لصحيفة «الصحافة» الحكومية والقيادي في اتحادات الصحافيين الأفارقة والتونسيين. وهو رغم إعلانه دعم بعض مواقف الرئيس سعيد الخارجية، ومنها انتقاداته أمام كبير مستشاري الرئيس الأميركي مسعد بولس في قصر قرطاج حرب الإبادة الجماعية في غزة وتجويع أطفال فلسطين والتسبب في موتهم جوعاً، فإنه حذّر من «مخاطر تراجع هامش الحريات العامة والإعلامية والمضايقات للمعارضين داخل البلاد». ولفت إلى أن بينهم «عشرات السياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين والمحامين الذين أحيلوا على المحاكم بتهم «التآمر» وقضايا «ذات صبغة سياسية».
بل شارك القاضي مراد المسعودي، رئيس جمعية القضاة، هذا التقييم، وطالب السلطات بإرجاع عشرات القضاة المعزولين، وباحترام ضمانات المحاكمة العادلة لكل المتهمين، بمن فيهم المحامون والبرلمانيون وكبار السياسيين والمسؤولين السابقين في الحكومة والبرلمان.
وفي هذه الأثناء، تابعت شبكات من الشخصيات الحقوقية والمنظمات الإنسانية والنقابية تحرّكات في الشوارع والفضاءات العامة للمطالبة بالإفراج عن المساجين في قضايا سياسية بكل انتماءاتهم، وبينهم قيادات عدد من الأحزاب، التي شاركت في الحكم، وتصدرت المشهد السياسي منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011، كالوزراء والبرلمانيين السابقين؛ رضا بالحاج وغازي الشواشي ونور الدين البحيري وعبد الكريم الهاروني وسمير الطيب والمهدي بن غربية، والإعلاميين؛ مراد الزغيدي وشذى بالحاج مبارك وبرهان بسيس.
دعوات لـ«الحوار الوطني»
من جانب آخر، ثمة «تيار ثالث» وسطي يشجع راهناً على «الحوار الوطني» بين السلطة والمعارضة، من بين رموزه مصطفى بن جعفر رئيس البرلمان الانتقالي ما بين انتخابات 2011 و2014، ونور الدين الطبوبي أمين اتحاد نقابات العمال.
ويستدلّ هؤلاء بما كان يبذل دوماً في تونس «من مساعٍ حميدة للتوفيق واحتواء الأزمات» منذ عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة (1956-1987) وزين العابدين بن علي (1987-2011)، بفضل جهود، قادها ساسة، سبق أن لعبوا أدواراً مهمة داخل مؤسسات الدولة، مثل؛ أحمد المستيري وحسيب بن عمّار والباجي قائد السبسي ومحمد مواعدة وأحمد بن صالح وقيادات اتحاد الشغل ومنظمات حقوق الإنسان وحقوق المرأة.
ومن ثم، مع انسحاب أفراد كثيرين، يأمل عدد من المتابعين، ومنهم إعلاميون ومحامون، أن تبدأ «حلحلة الوضع» عبر التفاعل مع الدعاة إلى تنظيم «حوار وطني» بين السلطة ومعارضيها، تشارك في تنظيمه الهيئات الحقوقية والنقابية الأربع، التي فازت بـ«جائزة نوبل للسلام عام 2015»، أي نقابات العمال ورجال الأعمال والمحامين ورابطة حقوق الإنسان. لكن بعض قادة الأحزاب والنقابات والمنظمات الحقوقية يستبعدون هذا «السيناريو» المتفائل حالياً، بينهم سمير الشفي الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يلحظ «تعمّق أزمة الثقة بين كل الأطراف».
وللعلم، تراجع دور النقابات بعد تشكيك السلطات في مصداقية عدد من قياداتها وتوقفها عن التفاوض معها حول «الأمن الاجتماعي». ثم استفحلت الأمور بعد فتح ملفات عدلية ضد عدد من النقابيين البارزين، وإصدار أحكام ثقيلة بالسجن ضد بعضهم.
وأيضاً، تجاهلت السلطات النداءات الجديدة لـ«الحوار الوطني»، التي وجّهها نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، ومقربون منه. وهذا رغم إعلان هؤلاء استعدادهم الانسحاب من المشهد، وتسليم قيادة الاتحاد، خلال مؤتمر مبكر يعقد في مارس (آذار)، أي قبل أكثر من سنة من موعد المؤتمر الدوري المقرر أواخر 2027. وتزامن هذا التطور مع تعقّد الأزمات الداخلية داخل بقية كبرى النقابات والمنظمات الوطنية التي كانت تلعب دوراً «تعديلياً» في المشهدين السياسي والنقابي، مثل اتحادات رجال الأعمال الصناعيين والتجار والمزارعين والمهندسين والمحامين والقضاة.


