توماس برّاك سفير أميركا لدى تركيا... مكانة «فريدة في عالم ترمب»

طبقة سياسية جديدة تحلّ محل الدولة العميقة

استعاد توم برّاك  وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية
استعاد توم برّاك وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية
TT

توماس برّاك سفير أميركا لدى تركيا... مكانة «فريدة في عالم ترمب»

استعاد توم برّاك  وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية
استعاد توم برّاك وعائلته جنسية أجداده الذين هاجروا من مدينة زحلة اللبنانية

في تقرير رفعته وزارة الخارجية الأميركية يوم 17 مارس (آذار) 2025، إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تحت عنوان «شهادة كفاءة مثبتة» لطلب ترشيح توماس برّاك الابن، لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا، كان من المعبِّر أنْ يبدأ بالإشارة إلى أنه «المؤسس والرئيس التنفيذي المتقاعد لشركة (كولوني كابيتال المحدودة)، إحدى أكبر شركات الاستثمار العقاري الخاصة في العالم». كان من الواضح أن هذا التقديم، إنما يشير إلى خطط الرئيس دونالد ترمب منذ اليوم الأول لعودته إلى البيت الأبيض، لتغيير هوية «الطبقة السياسية الجديدة»، لتحل محل «الدولة العميقة القديمة»، التي هيمنت على صنع القرار في واشنطن، سواء في السياسات الخارجية أو الداخلية.

مثل معظم تعيينات الرئيس الأميركي دونالد ترمب لمسؤولي إدارته الجديدة، كانت أبرز الاعتبارات في اختيار توماس برّاك «الصداقة» و«الشراكة» و«الولاء»، لا الآيديولوجيا. وبذا انضم إلى مجموعة واسعة من كبار رجال المال والأعمال والمستثمرين، الذين عيَّنهم الرئيس في مناصب حكومية كبيرة، يدركون ويقدِّرون عقد «الصفقات». وهو ما عبَّر عنه برّاك في المنشور الذي كتبه على منصة «إكس»، بعد يوم واحد من لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في تركيا، إثر تكليفه منصب المبعوث الخاص إلى سوريا.

كتب أنه سيتولى هذا المنصب لدعم وزير الخارجية ماركو روبيو «في تحقيق رؤية الرئيس» للبلاد: «لقد حدَّد الرئيس ترمب رؤيته الواضحة لشرق أوسط مزدهر، وسوريا مستقرة تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها».

بطاقة تعريف

توماس برّاك، المولود في مدينة لوس أنجليس يوم 28 أبريل (نيسان) 1947، هو حفيد مهاجرين لبنانيين من الروم الكاثوليك، هاجروا عام 1900 إلى الولايات المتحدة من مدينة زحلة في منطقة البقاع بشرق لبنان. ومع ذلك، لم يكن برّاك يحمل الجنسية اللبنانية، لكنه استعادها لاحقاً، عندما حضر إلى بيروت في يوليو (تمّوز) 2018 برفقة أبنائه ليتسلم وثائق قيده وأولاده. يومذاك جال في مسقط رأس أجداده في منطقة زحلة، والتقى مسؤولين وشخصيات سياسية، عبَّر فيها عن «فرحه وفخره واعتزازه» لاستعادته مع عائلته الجنسية اللبنانية.

نشأ برّاك في كلفر سيتي، بولاية كاليفورنيا، حيث كان والده بقالاً وكانت والدته سكرتيرة. وعام 1969، حصل توماس على درجة البكالوريوس في الآداب من جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث مارس رياضة الرغبي. ثم التحق بكلية غولد للحقوق في جامعة جنوب كاليفورنيا، حيث كان مُحرِّراً في مجلتها للمحاماة قبل أن يحصل على الإجازة (الدكتوراه) في القانون من كلية الحقوق بجامعة سان دييغو عام 1972.

برّاك، الذي لديه من زواج سابق 6 أولاد، تزوج عام 2014 من راشيل روكسبورو لكنهما انفصلا عام 2016. وراهناً تقيم عائلته في لوس أنجلس، كما يمتلك مزرعةً جبليةً مساحتها 1200 فدان بالقرب من سانتا باربرا، بالإضافة إلى مزارع وكروم. كذلك يمتلك مزرعة نيفرلاند التي كانت في السابق منزل النجم الكبير مايكل جاكسون. ويُذكر أنه في عام 2014، اشترى قصراً في ضاحية سانتا مونيكا مقابل 21 مليون دولار، باعه لاحقاً بـ35 مليون دولار، وهذا أعلى سعر لمسكن في تلك المنطقة. وفي عام 2017، اشترى قصراً بقيمة 15.5 مليون دولار في منتجع أسبن الجبلي بولاية كولورادو.

مسيرته المهنية

كانت أول وظيفة لبرّاك في شركة المحاماة «هربرت كالمباخ»، المحامي الشخصي للرئيس ريتشارد نيكسون. وعام 1972 أرسلته الشركة إلى المملكة العربية السعودية، ثم عمل فيها لدى شركة «فلور». وبعد فترة وجيزة، ساعد على فتح العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وهايتي.

ثم عام 1982، شغل منصب نائب وكيل وزارة الداخلية الأميركية في عهد الوزير جيمس وات في إدارة الرئيس رونالد ريغان. ويُقال إن جهاز الخدمة السرّية لحماية الرئيس كان يبيّت خيول الرئيس ريغان في مزرعة برّاك القريبة من مزرعة ريغان في رانشو ديل سييلو. وفي مزرعة برّاك نفسها أعلن وات استقالته من منصبه.

شهد عام 1985 أول تعامل بين بّراك ودونالد ترمب عندما باع له حصة قدرها خُمس أسهم متاجر ألكسندر. وفي عام 1988، وافق ترمب على دفع 410 ملايين دولار لبرّاك مقابل الملكية الكاملة لفندق بلازا، ليخسر لاحقاً كلا العقارين في قضية إفلاس.

استثمارات مالية وعقاريةفي عام 1990، أسَّس برّاك شركة «كولوني كابيتال المحدودة»، ومقرها مدينة لوس أنجليس باستثمارات أولية من شركات «باس» و«جي إي كابيتال»، ثم «إيلي برود» و«ميريل لينش» و«كو تشين فو». وحقَّق أرباحاً بنسبة 50 في المائة في أول سنتين له من خلال التركيز على العقارات المتعثّرة، بما في ذلك شركة «ريزوليوشن تراست كوربوريشن» الفيدرالية.

كذلك استثمر نحو 200 مليون دولار في عقارات بالشرق الأوسط، و534 مليون دولار في قروض عقارية ألمانية متعثرة. ومن خلال «كولوني كابيتال»، بات يدير محفظة أصول بقيمة 25 مليار دولار، تشمل سلسلة فنادق «فيرمونت رافلز هوتيلز إنترناشونال» في آسيا، ومنتجع «الآغا خان» السابق في جزيرة سردينيا بإيطاليا، ومنتجعات «إنترناشونال هولدينغز» ومنتجعات «ون آند أونلي» و«أتلانتس» وغيرها.

إبّان الأزمة المالية العالمية عام 2008، تعرّضت شركة «كولوني أميركان هومز» لانتقادات؛ بسبب سوء معاملة المستأجرين، حين رفعت الإيجارات وطردت المستأجرين بأعداد كبيرة، وامتنعت عن صيانة العقارات.

وعام 2010، اشترى برّاك 70 مليون دولار من ديون جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، ليتجنّب كوشنر لاحقاً الإفلاس عندما وافق برّاك على خفض التزاماته بناءً على طلب من ترمب.

واعتباراً من سبتمبر (أيلول) 2011، احتل بّراك المرتبة 833 بين أغنى أغنياء العالم، والمرتبة 375 بين أغنى أغنياء الولايات المتحدة، بثروة تقدر بنحو 1.1 مليار دولار، لكنه خسر لقب ملياردير في عام 2014.

علاقته بترمب

عام 2016، أيَّد بّراك ترشح دونالد ترمب للانتخابات الرئاسية، وكان بين أبرز المتبرعين لحملته من خلال لجنة العمل السياسي «إعادة بناء أميركا الآن»، التي جمعت 23 مليون دولار. ولاحقاً، أوصى ترمب بتعيين بول مانافورت، أحد أصدقاء بّراك، مديراً لحملته.

عام 2017 شغل برّاك منصب رئيس لجنة التنصيب الرئاسية الـ58 المشرفة على تنصيب ترمب، حيث جمع أكثر من 100 مليون دولار، مضاعِفاً الرقم القياسي السابق. وفي مقال نُشر في صحيفة «واشنطن بوست»، علّق برّاك على خطاب ترمب ومقترحاته بحظر المهاجرين من بعض الدول الإسلامية وبناء جدار حدودي مع المكسيك، قائلاً: «إنه أفضل من ذاك». ومع هذا، ينفي برّاك اقتباساً نُسب إليه في كتاب «النار والغضب» الصادر عام 2018، يصف فيه ترمب بـ«الغباء والجنون».

وخلال التحقيق الذي قاده روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي بانتخابات 2016، أجرى مقابلة مع برّاك، لا سيما فيما يتعلق بمانافورت وآخرين في حملة ترمب وفريق ترمب الانتقالي وتمويل حفل تنصيبه، وهو ما عُدّ إشارةً على «مكانة برّاك الفريدة في عالم ترمب»، إذ أدرجه في قائمة الشخصيات التي عفا عنها قبل مغادرته البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021.

خبرة واسعة... تجارية وحكومية

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، عندما رشح ترمب برّاك لشغل منصب السفير لدى تركيا، ركَّزت وزارة الخارجية الأميركية في طلب ترشيحه - خلال مارس (آذار) إلى مجلس الشيوخ - على مهاراته بصفته رجل أعمال، لا مهاراته السياسية والدبلوماسية. وذكرت أن لدى شركته الخاصة «كولوني كابيتال» عمليات في 19 دولة. وقال التقرير إن برّاك بدأ مسيرته المهنية محامياً مالياً شاباً في شركة محاماة دولية كبرى مُكلَّفة تمويل مشروعات لشركات «فلور» و«بكتل» و«أرامكو» في المملكة العربية السعودية، ثم أصبح الرئيس التنفيذي لشركة «دان الدولية»، وهي شركة تطوير عقاري كبرى. ثم شغل منصب نائب الرئيس الأول في شركة «إي إف هاتون» في «وول ستريت» بنيويورك. بعد ذلك، أصبح برّاك مديراً رئيساً في مجموعة «روبرت إم باس»، وهي الذراع الاستثمارية الرئيسية للشركة في مدينة فورت وورث، بولاية تكساس.

ورأى تقرير «الخارجية» أنه، «بصفته قائداً لشركة ذات انتشار عالمي، يتمتع السيد برّاك بخبرة واسعة في التعامل مع القضايا التجارية والحكومية والقانونية والثقافية في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا». وأردف: «قدرته المُثبتة قائداً ومديراً في بيئات مُعقدة تجعله مرشحاً مؤهلاً تماماً لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا»، لافتاً إلى أنه حاز كثيراً من الجوائز، منها «وسام جوقة الشرف» من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ودكتوراه فخرية في القانون من جامعة بيبرداين الخاصة الراقية في كاليفورنيا، وأنه يتكلم بعض الإسبانية والفرنسية والعربية.

أخيراً، عام 2021، بعد تسلم الرئيس الديمقراطي جو بايدن السلطة، وُجِّهت إلى برّاك وشريكه في الأعمال ماثيو غرايمز يوم 20 يوليو (تموز)، تهمة العمل بتوجيه من قوة أجنبية، وعرقلة العدالة، والإدلاء بتصريحات كاذبة لجهات إنفاذ القانون. وسُجن لمدة يومين قبل إطلاق سراحه بكفالة قدرها 250 مليون دولار مضمونة بخمسة ملايين دولار نقداً. وفي مايو (أيار) 2022 وُسِّعت لائحة الاتهام لتشمل مزاعم سعي برّاك للحصول على استثمارات بمئات الملايين من الدولارات لجهات أجنبية للضغط بشكل غير قانوني على إدارة ترمب نيابة عنها. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، بعد مقابلة مع محقق من وزارة الخارجية، أُجريت لتحديد ما إذا كان برّاك سيشكل تهديداً للأمن القومي سفيراً أم لا، خلص التحقيق إلى تبرئته وغرايمز.


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

حصاد الأسبوع مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

في خضم تصاعد غير مسبوق للتوترات الجيوسياسية وتزايد المخاوف الأمنية، تجد القارة الأوروبية نفسها أمام تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف أسس منظومتها الدفاعية.

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع سكوت كينيث هومر بيسينت، 63 سنة، غير انتماءه السياسي ككثيرين غيره من «الحزب الديمقراطي» إلى «الحزب الجمهوري» وتحول إلى واحد من أبرز حلفاء الرئيس ترمب

سكوت بيسينت... وزير الخزانة الأميركي ثري يميني مرشح لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي

رغم أن وزير الخزانة الأميركي يعد الخامس على خط الخلافة الرئاسية في حالات الطوارئ، لكن نادراً ما كان من بين الشخصيات السياسية البارزة التي تحظى بالأضواء،

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مبنى الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن (آ ب)

بيسينت... بين حسابات الاقتصاد وطموحات السياسة

من القواعد غير المكتوبة، أن يتجنّب وزراء الخزانة الأميركيون التدخل في عمل الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، الذي يُعتبَر مؤسسة مستقلة. ويؤمن معظم

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع 
لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟

أثار تطور الأوضاع السياسية في السودان مخاوف واسعة، أولاً من خطوة تحالف «تأسيس» المؤيد لـ«قوات الدعم السريع» بإعلان هيكله القيادي، وقرب تشكيله «حكومة» في مناطق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
حصاد الأسبوع جاء إلى السلطة معتمداً على إرث من محاربة الفقر والاستعمار والاستغلال ومعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية

يويري موسيفيني... طامح لولاية سابعة بعد أربعة عقود من الحكم

متعهداً بـ«تنمية اقتصاد بلاده»، أعلن رئيس أوغندا يويري موسيفيني، البالغ من العمر 81 سنة، اعتزامه الترشح لولاية رئاسية سابعة، مستكملاً مسيرة بلغت نحو أربعة عقود

فتحية الدخاخني ( القاهرة)

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
TT

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)

في خضم تصاعد غير مسبوق للتوترات الجيوسياسية وتزايد المخاوف الأمنية، تجد القارة الأوروبية نفسها أمام تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف أسس منظومتها الدفاعية. فبعد سنوات من الاعتماد على مظلّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدعم الأميركي، دفعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتكررة حول إمكانية انسحاب الولايات المتحدة من الحلف، القادة الأوروبيين إلى استشعار الخطر الداهم. هذه التهديدات لم تعُد مجرد مناورات دبلوماسية، بل تحولت هاجساً استراتيجياً يدفع العواصم الأوروبية نحو سباق محموم لضمان أمنها القومي والجماعي، في مسعى حثيث نحو استقلالية دفاعية طال انتظارها.

منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949، لعبت الولايات المتحدة دور القائد الفعلي للحلف، ليس فقط من خلال المساهمة المالية والعسكرية الضخمة، بل من خلال توفير المظلة النووية والقيادة الاستراتيجية.

على مدى عقود، تحمَّلت واشنطن نحو 70 في المائة من إجمالي الإنفاق الدفاعي للحلف؛ ما جعلها القوة المهيمنة في صنع القرارات الأمنية الأوروبية. وحقاً، إبان الحرب الباردة، كانت المساهمة الأميركية واضحة وحاسمة؛ إذ نشرت واشنطن مئات الآلاف من جنودها في أوروبا، وأنشأت قواعد عسكرية استراتيجية في كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، ووفّرت أنظمة دفاع صاروخي متطورة.

هذا الحضور العسكري الكثيف ما كان مجرد التزام دفاعي، بل كان أداة لضمان النفوذ الأميركي في القارة الأوروبية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن الولايات المتحدة تنفق سنوياً نحو 750 مليار دولار على الدفاع، أي ما يمثل 3.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط 1.6 في المائة للدول الأوروبية الأعضاء في «ناتو». وبالتالي، منح هذا التفاوت الصارخ في الإنفاق واشنطن نفوذاً هائلاً في تحديد أولويات الحلف واستراتيجياته. بيد أن الأمر لا يقتصر على الأرقام المطلقة. ذلك أن الولايات المتحدة تساهم بنحو 22 في المائة من الميزانية التشغيلية لـ«ناتو»، بينما تغطي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة نحو 35 في المائة فقط؛ ما جعل هذا التوزيع غير المتكافئ للأعباء المالية محور انتقادات مستمرة من الإدارات الأميركية المتعاقبة.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع مارك روته أمين عام «ناتو» (آ ب)

من الحماية إلى المطالبة

منذ تولي دونالد ترمب سدّة الحكم في واشنطن فإنه لم يتأخر في توجيه سهام النقد لحلفائه الأوروبيين، متهماً إياهم بالتقاعس عن الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه «ناتو»، والاعتماد المفرط على الحماية الأميركية، بل والتطفل عليها، وفق تعبيره الصريح خلال حملته الانتخابية لعام 2024.

ثم مع عودته إلى البيت الأبيض، تصاعدت لهجته بشكل لافت، مطالباً الأوروبيين برفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو سقف غير مسبوق يتجاوز حتى الإنفاق الأميركي نفسه. ولعل أبرز ما قاله ترمب في هذا السياق كان خلال تجمّع انتخابي في ولاية أوهايو تساءل فيه: «لماذا ندافع عن بلدان لا تدفع ما عليها؟ إذا لم يدفعوا، فليحموا أنفسهم!». وبدت هذه العبارة إعلاناً غير مباشر «لانقلاب» في عقيدة الأمن الأطلسي.

مطالب ترمب، وإن بدت مبالَغاً فيها، أثارت قلقاً عميقاً في العواصم الأوروبية، خاصةً في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وازدياد التهديدات الروسية؛ الأمر الذي أعاد إلى الواجهة السؤال القديم: هل تستطيع أوروبا أن تحمي نفسها بنفسها؟

لعل أبرز دليل على هذا التحوّل كان كلام كبار المسؤولين الأوروبيين الذي يدعم «الاستقلالية الاستراتيجية». وفي لقاءات ومؤتمرات صحافية، غدت هذه العبارة تتصدر الأجندات السياسية لتشكل محور النقاشات حول مستقبل الأمن الأوروبي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال في حوار مع صحيفة الـ«فاينانشال تايمز»: «إن المبادرة التي اتخذها الرئيس ترمب وقراره بفصل أوروبا عن المظلة الأميركية، يمثلان صدمة كهربائية إيجابية تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تسريع تحوله نحو مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية... ما يقوله ترمب لأوروبا هو عليكم تحمل العبء بأنفسكم وأنا أقول فلنتحمل المسؤولية».

اللهجة نفسها اعتمدها المستشار الألماني أولاف شولتس بقوله خلال زيارته لباريس يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2025: «واضح أن رئاسة ترمب ستكون تحدياً تجب مواجهته، أوروبا لن تتراجع ولن تختبئ، بل ستكون شريكاً بنّاءً واثقاً من نفسه».

وفي المؤتمر الصحافي الذي نظمته أورسولا فو دير لاين بمناسبة مرور 100 يوم على توليّها رئاسة المفوضية الأوروبية، أقّرت هذه الاخيرة بأن «على أوروبا أن تؤدي واجبها وتتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها من دون الاعتماد على واشنطن. ثمة مطلب متكرر من ترمب... أن نكون حلفاء لا يعني أن يكون هناك اختلال في المسؤوليات أو الأعباء المشتركة».

مبادرات وطنية ... لتعزيز القوة

أمام هذا الواقع الجديد، سارعت الدول الأوروبية، كلاً على حدة، إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل غير مسبوق، مع السعي المتزامن لتنسيق الجهود على المستوى القاري.

فرنسا، مثلاً، تواصل بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، دفع خطتها الطموح للتحديث العسكري بقيمة 413 مليار يورو حتى عام 2030. وتركّز هذه الخطة على تطوير القدرات النووية، والدفاع السيبراني، والصناعات العسكرية المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري. أيضاً، تقود باريس مشاريع كبرى مثل الطائرة القتالية الأوروبية المستقبلية «سكاف» (SCAF) والدبابة القتالية الرئيسة الجديدة «إم جي سي إس» (MGCS) بالتعاون مع ألمانيا. وفي خطوة لافتة، أعلنت فرنسا أخيراً خططاً لتعزيز وحدات الدفاع الجوي والصاروخي لديها، وذلك في ضوء الدروس المستفادة من الصراع في أوكرانيا.

أما ألمانيا، فقد خصصت مبلغ 100 مليار يورو لصندوق تحديث الجيش الألماني (البوندسفير)، مع استثمارات كبيرة في أنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى التسلح الحديث والمشاركة الفاعلة في المشاريع الأوروبية المشتركة. والملاحظ أن برلين باشرت بالفعل تسريع وتيرة الإنفاق الدفاعي بعد سنوات من التقشف.

من جهة أخرى، اتجهت بولندا ودول البلطيق، التي تشعر بتهديد مباشر من روسيا، إلى إعادة التسلح بشكل مكثف. إذ عقدت بولندا صفقات ضخمة لشراء أنظمة أميركية متطوّرة، بما في ذلك دبابات «أبرامز» وطائرات «إف - 35» وصواريخ «باتريوت»، بالإضافة إلى استثمارها في تعزيز الدفاعات الحدودية والبنية التحتية العسكرية؛ تحسباً لأي طارئ. وفي السياق عينه، تهتم كل من إيطاليا وإسبانيا والدول الإسكندينافية بتحديث قواتها البحرية والجوية، والمشاركة في برامج أوروبية متعددة كالطائرات من دون طيار (Eurodrone) وتطوير القدرات السيبرانية. وأخيراً لا آخراً، تحاول دول أخرى كفنلندا والسويد تسريع عملية اندماجهما في «ناتو» بعد تخلٍ تاريخي عن الحياد، وبالعكس، تبدي دول كالمجر والنمسا تحفظاً عن التضامن الأوروبي الكامل؛ ما يعكس تبايناً في الرؤى داخل الاتحاد.

شراكات أمنية جديدة

في خضم هذه التحوّلات وعلى ضوء توتر العلاقات الأميركية، ظهر تقارب واضح بين الاتحاد الأوروبي وكندا قائم على رؤية مشتركة لأمن متعدد الأطراف. وغدا من مصلحة أوروبا وكندا توحيد صفوفهما لمواجهة التأثير المستمر لسياسات الرئيس ترمب. وفي هذا الإطار، وقّع الطرفان في مايو (أيار) 2025 «خطة العمل الأوروبية - الكندية للتعاون الأمني والدفاعي»، وهي تنصّ على تعزيز التدريبات العسكرية المشتركة، وتطوير نظم مراقبة الساحل الأطلسي، وتنسيق الجهود في مكافحة التهديدات السيبرانية. وقال رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني خلال مؤتمر أمني مشترك في بروكسل: «نحن شركاء طبيعيون. كندا تؤمن بأن أمن أوروبا هو أيضاً من أمن شمال الأطلسي، ونرفض ترك حلفائنا أمام مصيرهم».

أما على صعيد العلاقة مع بريطانيا، التي غادرت الاتحاد الأوروبي لكنها لم تغادر جغرافيا القارة، بل شهدت العلاقات الدفاعية طفرة جديدة بعد التوتّرات الطويلة التي أعقبت «بريكست». ففي مارس (آذار) 2025، أعلنت كل من لندن وبروكسل عن تأسيس «مجلس أوروبي - بريطاني للأمن والدفاع» لتنسيق السياسات الأمنية بشكل منتظم. وأكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: «قد نكون غادرنا الاتحاد، لكننا لم نغادر أوروبا. التحديات الأمنية الراهنة تُحتّم علينا الوقوف معاً... بريطانيا ستظل قوة موازنة في القارة».