بول بيّا... رجل الكاميرون القوي طامح لولاية رئاسية ثامنة

بعد 43 سنة في سدة الحكم

يرى أن دوره قد حان للعودة للحكم، في حين تتمسك إثنية «البيتي/ بولو» بالسلطة، ويسعى الناطقون بالإنجليزية للحكم أو الانفصال. بينما يعود لبول بيّا الفضل في إتاحة التعددية الحزبية فإن وعوده

بالتغيير والديمقراطية سرعان ما تحولت إلى اتهامات له بالاستبداد
يرى أن دوره قد حان للعودة للحكم، في حين تتمسك إثنية «البيتي/ بولو» بالسلطة، ويسعى الناطقون بالإنجليزية للحكم أو الانفصال. بينما يعود لبول بيّا الفضل في إتاحة التعددية الحزبية فإن وعوده بالتغيير والديمقراطية سرعان ما تحولت إلى اتهامات له بالاستبداد
TT

بول بيّا... رجل الكاميرون القوي طامح لولاية رئاسية ثامنة

يرى أن دوره قد حان للعودة للحكم، في حين تتمسك إثنية «البيتي/ بولو» بالسلطة، ويسعى الناطقون بالإنجليزية للحكم أو الانفصال. بينما يعود لبول بيّا الفضل في إتاحة التعددية الحزبية فإن وعوده

بالتغيير والديمقراطية سرعان ما تحولت إلى اتهامات له بالاستبداد
يرى أن دوره قد حان للعودة للحكم، في حين تتمسك إثنية «البيتي/ بولو» بالسلطة، ويسعى الناطقون بالإنجليزية للحكم أو الانفصال. بينما يعود لبول بيّا الفضل في إتاحة التعددية الحزبية فإن وعوده بالتغيير والديمقراطية سرعان ما تحولت إلى اتهامات له بالاستبداد

وسط أجواء مشحونة سياسياً يطمح الرئيس الكاميروني بول بيّا، البالغ من العمر 92 سنة، لولاية رئاسية ثامنة مستفيداً من تعديل دستوري سابق ألغى تحديد عدد الفترات الرئاسية، ليصبح بذلك من أطول الرؤساء حكماً في العالم. بيّا الذي تربّع على «عرش» السلطة في الكاميرون عام 1982، لا يزال بالنسبة لكثيرين حوله شخصية غامضة؛ ذلك أن «الشاب الهادئ» الذي كان يعتبر بين أقرانه «متواضعاً لا طمع لديه بالحكم»، هيمن على موقع الرئاسة 43 سنة، وما زال يطمح للمزيد، ساعياً إلى تبديد الأزمات السياسية والاقتصادية التي هزّت وتهز الكاميرون، وعلى رأسها «الأزمة الأنجلوفونية».

يرى مراقبون أن بول بيّا كان دائماً ما يتقدّم خلف قناع كي يراقِب من دون أن يُراقَب! وبالفعل، الرجل قليل الظهور إعلامياً، ويكتفي بمخاطبة شعبه ثلاث مرات في السنة تقريباً. وهذا الغموض الممتزج بشخصية تبدو صارمة منح بيّا ألقاباً عدة منها: «الأسد»، و«أبو الهول»، و«اللغز» و«مارادونا السياسة الكاميرونية» و«أبو الأمة».

وفي مطلق الأحوال، لعل وضع الكاميرون المعقّد أسهم في دعم بقاء بيّا؛ إذ إن البلاد تضم مجموعات إثنية ولغوية عدة، وهناك استقطاب حاد طرفاه الجنوب المسيحي والشمال المسلم، ناهيك بالخلافات بين المناطق الناطقة بالفرنسية وتلك الناطقة بالإنجليزية. هذا المشهد جعل من تشكيل جبهة معارضة موحّدة أمراً صعباً.

والواقع، أن مسيرة بول بيّا اتسمت بتحولات سياسية كبرى. وبينما يعود إليه الفضل في إتاحة التعددية الحزبية، وتحسين علاقات الكاميرون مع دول العالم، فإن وعوده بالتغيير والديمقراطية سرعان ما تحولت إلى اتهامات بالاستبداد وتفاقم الأزمات الداخلية... لا سيما وسط سبع سنوات من حرب أهلية بقيادة انفصاليين ناطقين بالإنجليزية. ويضاف إلى ما سبق، سجنه معارضيه، ومنهم موريس كامتو، منافسه الأقوى في الانتخابات الرئاسية لعام 2018 الذي سُجن لمدة 9 أشهر من دون تُهم قبل أن يفرج عنه بضغوط دولية.

نشأة دينية

وُلد بول بيّا يوم 13 فبراير (شباط) 1933 في قرية مفوميكا آ الصغيرة الواقعة في غابات حوض الكونغو، بجنوب الكاميرون، لعائلة كاثوليكية من إثنية «البيتي/ بولو». لكنه دائماً ما يشدد في تصريحاته على أنه «كاميروني قبل أن أكون من قبيلة البيتي». عائلته كانت تطمح إلى أن يصبح بول كاهناً؛ لذا أرسلته إلى مدرسة «القديس يوسف» الدينية في بلدو أكونو. ويومذاك كان فتًى مجتهداً لكنه هزيل البنية، حتى إنه غالباً ما احتاج الحماية من أخيه الأكبر أو أبناء عمومته.

ولقد نقلت تقارير صحافية عن أخته قولها في وصف شخصيته: «يظن البعض أن بول بارد. هذا غير صحيح؛ فهو يمكن أن يكون دافئاً واجتماعياً... كما يعرف كيف يكون متحفظاً وصامتاً».

لم يمكث بيّا طويلاً في المدرسة الدينية؛ إذ سرعان ما غادرها ليكمل تعليمه الثانوي في مدرسة «ليسيه الجنرال لوكليرك» في العاصمة ياوندي. ولكن رغم ذلك تركت المدرسة الدينية تأثيراً في شخصيته. ووفقاً لما نُقل عن أحد زملائه هناك، فإن «أولئك الذين لم يصبحوا كهنة، خرجوا بتحوّل نفسي جعلهم رجالاً مستقيمين وهادئين».

العيش في فرنسا

في عام 1952، ذهب بيّا إلى فرنسا لدراسة القانون العام والعلوم السياسية، وهناك التقى بزوجته الأولى جيني-إيرين التي تُوفيت عام 1992. وحملته قدراته العلمية إلى ثلاثة معاهد متميزة في باريس هي: «ليسيه لوي-لو-غران»، ثم معهد باريس للعلوم السياسية «سيانس بو»، ثم المعهد العالي للإدارة «إينا».

وخلال تلك الفترة كان بيّا يتخصّص في العلوم السياسية، مع أن أساتذته رأوا أنه وإن كان تلميذاً مجتهداً، فهو «متواضع وقليل الطموح» و«غير مهتم بلعبة السياسة». ولكن كما تأثرت شخصية بيّا بالمدرسة الدينية، لعبت فرنسا دوراً مهماً في تشكيل شخصيته. وعام 1994، تزوّج بيّا من شانتال التي أصبحت السيدة الأولى للكاميرون.

صعود سياسي

بعد استقلال الكاميرون في عام 1960، بدأ بيّا مسيرته في سلك الخدمة المدنية؛ إذ شغل مناصب عدة، بينها مدير ديوان وزير التعليم الوطني (1964)، وأمين عام وزارة التعليم الوطني (1965). غير أن صعوده السياسي الحقيقي بدأ فعلياً مع تعيينه مديراً للديوان المدني الرئاسي عام 1967. وحينذاك، تولى بول بيّا ملفات حساسة للرئيس الاستقلالي أحمدو أهيدجو؛ ما جعله يحظى بثقته، لا سيما مع وصف مقرّبين له في تلك الفترة بأنه «خادم مطيع وإداري بارع».

وتوالت بعد ذلك الترقيات والمناصب؛ إذ عُيّن أميناً عاماً للرئاسة عام 1968، ثم وزير دولة في 1970. وفي عام 1975، عيّنه الرئيس أهيدجو رئيساً للحكومة، وقال معلقاً إنه اختار «الشخص الأكثر اتزاناً» في فريقه، ثم يوم 29 يونيو (حزيران) 1979، عُيّن بيّا خليفة دستورياً لأهيدجو.

في حينه، نُظر لبيّا باعتباره شخصية شابة متزنة ومتواضعة وغير سياسية... وأيضاً غير طامحة للسلطة.

كل هذا تبخّر في ما بعد؛ إذ إن صمت بيّا كان يخفي شخصية أخرى لم يفطن لها ويشكك فيها إلا جيرمين، زوجة سلفه الرئيس أحمدو أهيدجو. ولقد صدق حدس جيرمين بعد سنوات؛ فيوم 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1982، استقال أهيدجو بشكل مفاجئ، ليحكم بيّا البلاد.

الانقلاب على «المعلم»

كما سبقت الإشارة، بدأ بيّا حكمه حليفاً للرئيس أهيدجو الذي بقي رئيساً للحزب الحاكم «الاتحاد الوطني الكاميروني». وشكّل بيّا الحكومة في عامَي 1982 و1983 بالتشاور مع أهيدجو، إلا أنه سرعان ما اتجه لتعيين حلفاء له في مواجهة الرئيس السابق، متخذاً مسلكاً مستقلاً أدهش الجميع، ودفع إلى محاولتَي انقلاب في عامَي 1983 و1984 من أنصار أهيدجو لاستعادة السلطة، لكن تمكن بيّا من قمعهما.

باختصار، «انقلب التلميذ على أستاذه» وداعمه السياسي؛ فيوم 18 يونيو 1983، أجرى بيّا تعديلاً وزارياً من دون إبلاغ أهيدجو؛ ما أغضب الأخير الذي دعا وزراء الشمال إلى قصره، طالباً منهم الاستقالة.

وفي 22 أغسطس (آب) من العام ذاته أعلن بيّا اعتقال أشخاص على صلة بأهيدجو بتهمة «التآمر على الدولة». ويوم 6 أبريل (نيسان) 1984، وقعت محاولة انقلاب هزت ياوندي وأسفرت عن مئات القتلى، لكنها لم تفلح في إزاحة بيّا الذي أعلن يومذاك «تحقيق النصر الكامل».

كان أهيدجو غادر عام 1983، وصدر بحقه حكم بالإعدام غيابياً من محكمة عسكرية، خُفّف إلى السجن المؤبد. لكنه تُوفي عام 1989 إثر أزمة قلبية، ودُفن في السنغال، ولا يزال جثمانه هناك، بسبب رفض بيّا نقله إلى الكاميرون.

مراقبون يرون أن تلك الفترة دفعت بيّا نحو «جنون الارتياب»، ليبدأ منذ ذلك الحين بسط سيطرته على الشمال المسلم، ويشدّد سيطرته على الأجهزة الأمنية، ويعزّز قبضته على السلطة عبر ملء المناصب الحكومية والعسكرية بعناصر من مجموعته الإثنية.

أزمة صندوق النقد

لقد عانت الكاميرون من أزمة اقتصادية حادة في الثمانينات والتسعينات، نتيجة لانخفاض أسعار السلع الأساسية؛ ما دفع الحكومة إلى تنفيذ برامج تقشفية، لم تفلح في معالجة الأزمة.

ويُذكر أنه منذ الاستقلال اتبع أهيدجو سياسة اقتصادية تعتمد على «خطط خمسية تبسط فيها الدولة يدها على الاقتصاد». ومكّن هذا النظام الكاميرون من اجتياز أزمة النفط عام 1973 بشكل أفضل من جيرانها. لكن بحلول منتصف الثمانينات شهدت أسعار الكاكاو والبن والقطن والنفط تراجعاً كبيراً.

وعام 1987، نشر بيّا كتابه «الليبرالية الجماعية»، وفيه دعا إلى التعددية السياسية والاقتصاد الحر. وكان يقول إن «الليبرالية الجماعية هي السبيل لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية». وفي حينه، حظي بدعم البرلمان الذي صفق له في 20 يونيو من العام نفسه عندما تباهى: «لن نذهب إلى صندوق النقد الدولي». ولكن على الرغم من بدء برنامج التغيير لم تظهر النتائج، وانهارت وعود بيّا، ودخلت البلاد برنامجاً تابعاً لصندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) 1988؛ ما عدّه معارضوه «أول إخفاق حقيقي» لبيّا.

تحوّل «ديمقراطي»

مع بداية التسعينات، وفي موجة من التحوّل الديمقراطي في أفريقيا، تعرّض بيّا لضغوط طالبته بفتح المجال السياسي، فاضطرّ لإجراء تغييرات محدودة سمح عبرها بتعدّدية حزبية دفعت بأول انتخابات تعدّدية عام 1992، وفاز فيها بـ40 في المائة من الأصوات، لكن شابتها «تهمٌ واسعة بالتزوير».

وفي وجه الانتقادات الدولية والاضطرابات الداخلية، أحكم بيّا قبضته، معتمداً على انقسام المعارضة والجهاز الأمني الواسع، بل بدا أن حكم بيّا لن ينتهي. وفي 2008، دفع لتعديل الدستور لإلغاء تحديد عدد الولايات الرئاسية. ورغم الاحتجاجات العنيفة في عدة مدن كاميرونية، جرى تمرير التعديل الذي فتح الطريق أمام ترشحه إلى ما لا نهاية، ليفوز في انتخابات 2011 و2018 وسط انقسام المعارضة وسَجن بعض قادتها.

هيمنة على الرغم من كل شيء

لم يمنع تباطؤ النمو الاقتصادي ولا الصراع الداخلي - خاصة في المناطق الناطقة بالإنجليزية - بيّا من تعزيز سلطته.

وفي عام 2016 اندلعت احتجاجات في المناطق الناطقة بالإنجليزية بسبب تهميشها من قبل الحكومة المركزية. وتحولت هذه الاحتجاجات إلى مواجهات مسلحة بين الجيش والمتمردين المطالبين بالاستقلال؛ ما أسفر عن آلاف القتلى ومئات الآلاف من النازحين. وكان رد بيّا الدائم: «يستحيل السماح بتقسيم الكاميرون تحت أي ظرف». ومع أن الحكومة وُوجهت بانتقادات دولية بسبب قمعها للمعارضة، نجح بيّا في تشديد قبضته مقابل فشل سياساته عبر أربعة عقود في تحسين أوضاع البلاد التي صنفتها «منظمة الشفافية الدولية» عامَي 1998 و1999 بأنها «أكثر دول العالم فساداً». وبحسب تقديرات عالمية، يعيش نحو 23 في المائة من سكان الكاميرون راهناً تحت خط الفقر.

من جهة أخرى، انتشرت تساؤلات بشأن صحة بيّا العام الماضي، وبالأخص بعد غيابه المتكرّر عن مناسبات رسمية، فأصدرت الحكومة في العام الماضي أمراً يحظر مناقشة صحة الرئيس في وسائل الإعلام، باعتبارها مسألة «أمن قومي».يبقى القول إنه مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة، يبدو أن بيّا سيحكم البلاد لفترة أخرى تمتد حتى 2032؛ أي إلى حين بلوغه الـ99 من العمر. وهذا تحدٍّ يزيد التساؤلات حول مستقبل الكاميرون، لا سيما أن الشمال المسلم الذي أعطى البلاد أول رؤسائها،


مقالات ذات صلة

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟

حصاد الأسبوع 
لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟

أثار تطور الأوضاع السياسية في السودان مخاوف واسعة، أولاً من خطوة تحالف «تأسيس» المؤيد لـ«قوات الدعم السريع» بإعلان هيكله القيادي، وقرب تشكيله «حكومة» في مناطق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
حصاد الأسبوع جاء إلى السلطة معتمداً على إرث من محاربة الفقر والاستعمار والاستغلال ومعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية

يويري موسيفيني... طامح لولاية سابعة بعد أربعة عقود من الحكم

متعهداً بـ«تنمية اقتصاد بلاده»، أعلن رئيس أوغندا يويري موسيفيني، البالغ من العمر 81 سنة، اعتزامه الترشح لولاية رئاسية سابعة، مستكملاً مسيرة بلغت نحو أربعة عقود

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
حصاد الأسبوع عيدي آمين  آ ب

«لؤلؤة أفريقيا»... أوغندا أمام تحديات سياسية واقتصادية

في شرق القارة الأفريقية تقع أوغندا، التي تُعرَف بـ«لؤلؤة أفريقيا». وهي دولة غير ساحلية، لكنها تزخر بالغابات المطيرة والبحيرات والتنوع البيئي والحيوي. كذلك،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع لولا خلال قمة العشرين في ريو دي جانيرو (إيبا - ايفي)

«لولا» يضطر إلى التخلي عن حلم قيادة البرازيل نحو دور عالمي

عندما وقف لويس إينياسيو لولا دا سيلفا «لولا» أمام القاضي، وهو على أبواب الثمانين من عمره، يدافع عن براءته من التهم التي كانت موجهة إليه إبّان عهد الرئيس

حصاد الأسبوع آثار القصف الإسرائيلي على طهران (رويترز)

الصين وإيران وإسرائيل... لعبة التوازن في شرقٍ يتغير

تعود العلاقات بين الصين وإيران إلى آلاف السنين حين كانت «طريق الحرير» القديمة الرابط الحيوي بين حضارتين عظميين. في عمق التاريخ هذا، لم تكن تلك الطرق مجرد مسارات

وارف قميحة ( بيروت)

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟


لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)
لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)
TT

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟


لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)
لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)

أثار تطور الأوضاع السياسية في السودان مخاوف واسعة، أولاً من خطوة تحالف «تأسيس» المؤيد لـ«قوات الدعم السريع» بإعلان هيكله القيادي، وقرب تشكيله «حكومة» في مناطق سيطرتها، وثانياً من تعثّر تشكيل الحكومة التي يرعاها الجيش - وتتخذ من بورتسودان عاصمة مؤقتة - من تقطيع أوصال السودان وتجزئته. معارضون وموالون للطرفين أبدوا قلقهم العميق على وحدة البلاد، وحذّروا من احتمالات ولادة دولة داخل دولة، أو تجزئة البلاد إلى دولتين، كسابقة انفصال جنوب السودان، وولادة دولة جديدة في الإقليم السوداني. وأثار هؤلاء أسئلة عن تنازع «الشرعية» بين الحكومتين «غير الشرعيتين»، وتعميق حالة الانقسام السياسي والاجتماعي التي ولدتها الحرب في السودان. في نيالا، حاضرة ولاية جنوب دارفور، أعلن «تحالف السودان التأسيسي» - اختصاراً «تأسيس» - يوم الثلاثاء الماضي تشكيل هيئته القيادية برئاسة قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، ونائبه رئيس «الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال» عبد العزيز آدم الحلو، وهي خطوة وصفت بأنها تمهيد لاقتراب تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع».

تكوَّن تحالف «تأسيس» خلال فبراير (شباط) الماضي في العاصمة الكينية، نيروبي، من «قوات الدعم السريع»، و«الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال»، و«الحركة الشعبية لتحرير السودان - المجلس الانتقالي»، و«تجمّع قوى تحرير السودان»، وهي حركات مسلحة في دارفور وجنوب كردفان، إلى جانب قوى وأحزاب سياسية على رأسها «حزب الأمة القومي» برئاسة فضل الله برمة ناصر، و»الحزب الاتحادي الديمقراطي»، تيار محمد الحسن الميرغني.

«حكومة السلام والوحدة»

ووقَّع أعضاء هذا التحالف على إعلان سياسي ودستور انتقالي. وقالوا إنهم سيشكلون حكومة تحمل اسم «حكومة السلام والوحدة» وتنطلق من مناطق سيطرة «الدعم السريع»، وتتجه للسيطرة على كل السودان. إلا أن تشكيل «الحكومة» تعثّر أو تأخر كثيراً، إذ بعد إعلان الهيئة القيادية للتحالف وتصريحات مسؤولين فيه، توقَّع مراقبون كثر أن يكون تشكيل تلك الحكومة وشيكاً.

في الجهة الأخرى، تعثّر أيضاً تشكيل الحكومة التي يرعاها الجيش. وبعدما أصدر عبد الفتاح البرهان، رئيس «مجلس السيادة» الانتقالي وقائد الجيش، مرسوماً عيّن بموجبه الموظف الأممي السابق كامل إدريس رئيساً لمجلس الوزراء، واجهت درويش تعقيدات عدة أبرزها الخلافات على تسنم كراسي الوزارة، لا سيما مع حلفاء الجيش في «القوات المشتركة» الدارفورية التي تقاتل إلى جانبه «الدعم السريع».

والحال أن لدى كل من «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» السودانية بقيادة جبريل إبراهيم، إصراراً على الاحتفاظ بوزارتَي المالية والمعادن، بلغ حد تلميح بعض قياداتهما لفض الشراكة مع الجيش، بل وقد تصل الأمور حد «التحالف مع قوات الدعم السريع».

في هذه الأثناء، لا تعترف القوى المدنية الرافضة لاستمرار الحرب في تحالف «صمود» على الأقل، بشرعية أي من الحكومتين المزمعتين. إذ ترى أن الحكومة التي يرعاها الجيش «ثمرة انقلاب عسكري» ضد حكومة «الثورة» بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، كما لا ترى في حكومة التحالف الموعودة، سوى خطوة تهدد وحدة البلاد وسيادتها.

البرهان (آ ف ب

مناطق السيطرة

راهناً، يتوزَّع كل من الجيش و«قوات الدعم السريع» السيطرة على السودان. فالحكومة الموالية للجيش تسيطر على ولايات الوسط والشرق والشمال (سنار، ومعظم النيل الأزرق، ومعظم جنوب كردفان، والقضارف، وكَسَلا، والبحر الأحمر، ونهر النيل، والشمالية)، وتتقاسم مع «قوات الدعم السريع» السيطرة على شمال كردفان.

أما «قوات الدعم السريع» فتسيطر على ولايات دارفور الخمس (جنوب، وغرب، وشرق، ووسط، وشمال دارفور)، باستثناء الفاشر. وثمة جيوب تسيطر عليها «حركة تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد النور. وأجزاء تسيطر عليها «القوات المشتركة»، وولاية غرب كردفان، باستثناء مدينة بابنوسة، وأجزاء واسعة من ولاية شمال كردفان، والأجزاء الشمالية من جنوب كردفان، وبعض المناطق في جنوبها تسيطر عليها «الحركة الشعبية».

دولة أم دولتان؟

مراراً، أكد قادة «قوات الدعم السريع» أن الهدف من خطوتها «سد الفراغ الإداري في مناطق سيطرتها»، وأن «الدعم السريع يعمل على توحيد البلاد وتحريرها» من سيطرة خصومه الإسلاميين، وفي الوقت ذاته لا يعترف بحكومة الجيش. لكن الخطوة (تشكيل حكومة) أثارت قلقاً كبيراً على المستويين المحلي والدولي، خشية إعادة تجربة انفصال جنوب السودان، كحد أعلى، أو على الأقل الانتقال إلى حكومتين في دولة واحدة.

بما يخصه، الجيش بحكم تحالفه مع «القوات المشتركة»، وهي حركات دارفورية مسلحة، لا يمكنه الكلام عن فصل دارفور والأقاليم الغربية، لكن بعض حلفائه الإسلاميين، لا يخفون رغبتهم في التخلص من الغرب أسوة بما فعلوه مع جنوب السودان. وفي الوقت نفسه يغض الجيش الطرف عن تحرك مجموعات محسوبة على شمال ووسط البلاد، تدعو علانية لفكرة فصل غرب السودان عن وسطه وشماله، تحت ذرائع التمايز التاريخي والثقافي، وهي كالذرائع التي أدت لانفصال جنوب السودان.

وحقاً، حذّر المبعوث الأميركي السابق إلى السودان، توم بيريلليو، من دعوات التقسيم التي بدأ صوتها يرتفع، وما قد تؤدي إليه من كوارث، فقال: «تقسيم السودان قد يزّج العالم في عقود من الحرب». وحذَّر من إنشاء حكومات موازية تؤدي إلى ازدياد الاستقطاب، وتعجِّل في تشظي البلاد إلى دويلات متناحرة.

دور الإسلاميين

بدأ المحلل السياسي محمد لطيف حواراً مع «الشرق الأوسط» بسؤال: «لماذا الحرب»؟ وأردف: «بصفتي مراقباً أقول إن الدلائل كلها تؤكد أن الحرب اندلعت من أجل استعادة الإسلاميين السلطة... وخطوة تحالف (تأسيس) وإن زعم العكس، لن تتعدى كونها أداة ضغط على الجيش وحلفائه للعودة إلى منصة التفاوض».

لطيف استبعد أن يسفر الضغط عن إعادة الجيش إلى مائدة التفاوض، مضيفاً: «من التجربة التاريخية، فإن التيار المسيطر على المشهد ليس حريصاً على وحدة البلاد، وليس منزعجاً من تشظيها». وتابع: «سمعنا أصواتاً كثيرة جداً تتكلم عن ضرورة ذهاب دارفور، لأن قوات الدعم السريع بحسب تصورهم تمثل دارفور. ولذا لا تشكل خطوة الدعم السريع ضغطاً على خصومه، بل سترضي بعض غلاتهم».

وما إن كانت الجهود التي أعلنتها إدارة الرئيس ترمب وحلفاؤه أخيراً قادرة على دفع الطرفين إلى مائدة الحوار، قال لطيف: «هذا يتوقف على قدرتهم على التأثير على قيادة الجيش تحديداً».

مؤتمر في واشنطن

من جهة أخرى، وفي تطور جديد، أعلن مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية، تنظيم مؤتمر على المستوى الوزاري في واشنطن قريباً؛ لبحث الأزمة في السودان، يشارك فيه وزراء خارجية كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر، بالإضافة إلى وزير الخارجية الأميركي.

وأكد بولس وفق صحيفة «سودان تربيون»، أن هدف المؤتمر إحياء المبادرة الرباعية التي تسعى لإيجاد حل سلمي للنزاع الدائر في السودان.

هنا، أوضح لطيف أن العالم ينتظر من قيادة الجيش أن تنفصل عن التيارات الرئيسة الداعمة لها، وعلى رأسها تيار «الإسلاميين» الذين يقفون حجر عثرة أمام أي تفاوض لوقف الحرب. وأضاف: «إذا نجح أي طرف في إبعادهم، فيمكن تحقيق الهدف النهائي، والعودة لطاولة التفاوض».

وحول تصريحات قائد «الدعم السريع» الأخيرة عن الرفض للعودة إلى التفاوض، قال لطيف إنها «شكل من أشكال المناورة... لكن الإشكال الأكبر أن المعركة أصبحت بين (الدعم السريع) والحركة الإسلامية، فإذا نجح العالم في فصل أو تحجيم العلاقة بين الجيش بصفته قوة رسمية، وحلفائه السياسيين، فيمكن العودة لمنصة التفاوض».

تحذير... وتشديد على وحدة السودان

من جهته، حذّر محمد الفكي محمد الفكي سليمان، عضو مجلس السيادة السابق الذي أطيح به بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، من تشكيل حكومة في بورتسودان، وقال لـ«الشرق الأوسط» معلقاً: «من باب المسؤولية الوطنية، يجب وقف تشكيل الحكومة، وبدء عملية سياسية تحفظ وحدة السودان». ثم حذَّر سليمان من احتمالات مواجهة بين أطراف تحالف «بورتسودان»، وناشد قائد الجيش البرهان إيقاف تشكيل الحكومة؛ لأن «تشكيل حكومة في ظل الانقسام الحالي ينذر بتفتيت البلاد».

وفق الفكي لا علاقة للصراع الدائر في بورتسودان بما تسمى «حرب الكرامة»، لأن الأخيرة «حرب سافرة على السلطة... والدليل على ذلك أن نسبة 25 في المائة من كراسي الوزارة الجاري التنافس عليها محصورة بوزارات بعينها». ثم أوضح أن الهدف من تشكيل حكومة في بورتسودان، وتكليف كامل إدريس رئيساً لها، لم يتحقق، و«الحكومة التي يتجه لتشكيلها ستكون مصيبة» وقد تؤدي إلى فض التحالف، وتابع: «الوضع أكثر تعقيداً. قد نجد أنفسنا في دولتين، إذا استمر الانقسام، ولن ينتهي في حدوده، وسينتهي بتفكك البلاد».

صراع السلطة بين الجنرالين يفاقم الأزمة الإنسانية وقد يؤدي إلى كوارث

«الإسلاميون» ضد وقف الحرب

في هذه الأثناء، خلال لقاء تلفزيوني، شنّ أمين حسن عمر، القيادي الإسلامي المتشدد والوزير السابق في حكومة الرئيس المعزول عمر البشير، هجوماً عنيفاً على دعاة وقف الحرب. وقال إنهم «ليس شركاء في الوطن بل شركاء للدعم السريع (الجنجويد بحسب عبارته)»، وبعدما وصفهم بـ«أعداء الوطن»، دعا إلى محاكمتهم بوصفهم «شركاء في الحرب وفي تأجيجها». وأضاف: «هم مجموعة الأفراد الذين يكوّنون ما يُعرف بـ(تقدم)، والآن هم في (صمود)... إنهم يمثلون هذا العنوان والظهير الذي استندوا إليه».

عمر شكك أيضاً في إعطاء رئيس الوزراء صلاحيات كاملة، ووصفه بأنه «أمر متوهم... هذه ظروف استثنائية، لن تعالج بالتمسك بالحقوق بل التسويات، لا سيما أنه رئيس وزراء معين». وأردف: «صانع المُلك هو مجلس السيادة، الذي يملك سلطة التعيين، لو لم يتدخل سيكون له نفوذ، وسيظل رئيس الوزراء مقيداً».

"حميدتي" (آف ب - غيتي)

لسنا دعاة انفصال

أما علاء الدين عوض نقد، الناطق الرسمي باسم الهيئة القيادية لتحالف «تأسيس»، فقال إن «أياماً فقط» تفصل بينهم وتشكيل الحكومة في مناطق سيطرة «الدعم السريع»، وإن تأخير إعلانها يعود إلى دواعٍ أمنية وتنسيق سياسي، إلى جانب جهود يبذلونها مع أطراف إقليمية ودولية.

وحول مكان إقامة الحكومة، أوضح نقد أن أجهزتها ستكون موزّعة الرقعة الجغرافية في المناطق التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» وحلفائها، و«يمكن أن تكون في كاودا - تحت سيطرة الحركة الشعبية بجنوب كردفان، أو نيالا».

أيضاً، نفى نقد بشدة سعي تحالفه «تأسيس» للانفصال عن السودان، قائلاً: «السودان دولة واحدة، ونحن ننشئ حكومة سلام، ليس من غاياتها تقسيم البلاد، بل مناهضة تقسيم السودان، الذي يقوم به الطرف الآخر وحكومة الإسلاميين».

وأوضح نقد أن «حكومته» المُزمعة ستتضمن جهازاً تنفيذياً وبرلماناً وجهازاً قضائياً. وتابع: «نحن مستمرون في تحرير السودان من الإسلاميين المسيطرين، ولن نعمل على تقسيم السودان. مَن يسعى لفصل السودان هو جيش الإسلاميين. نحن لن ننشئ حكومتنا في دارفور، ونترك بقية السودان للجماعات الإسلامية الإرهابية».

وعلّق نقد على الجاري تداوله بأن هدف حكومة «تأسيس» الضغط على الجيش لإجباره على الجلوس على مائدة التفاوض، فقال: «محمد حمدان دقلو، قال لن يعودوا إلى منبر جدة، فكيف سنضغطهم للجلوس على طاولة المفاوضات؟ كل المفاوضات السابقة ذهب إليها (الدعم السريع) وخربها الجيش السوداني، لذلك لا يمكن بعد أكثر من سنتين وخراب للتفاوض، أن نعمل على التفاوض معهم».

وأضاف: «لن نذهب إلى أي تفاوض. نحن نتقدم عسكرياً لنحرر السودان من المؤتمر الوطني الذي يرعى المطلوبين للعدالة الجنائية». واستطرد: «كنا ننادي بالفصل بين الإسلاميين والجيش في بداية الحرب. لكن باستمرارها، اتضح للناس أن الجيش هو جيش الإسلاميين. نحن سنعمل على تكوين جيش جديد من (الدعم السريع)، والحركات المسلحة والجيش الشعبي لتحرير السودان، وما تبقى من الجيش السوداني».