تفاعلات إقليمية متشابكة تهدّد نفوذ إثيوبيا في «القرن الأفريقي»

توتر مع إريتريا ينذر بـ«حرب»... وترقّب لمصير الميناء البحري

إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
TT

تفاعلات إقليمية متشابكة تهدّد نفوذ إثيوبيا في «القرن الأفريقي»

إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)
إثيوبيا وإريتريا على شفير مواجهة (رويترز)

تعود الأزمة الأخيرة في منطقة القرن الأفريقي إلى اتهامات إثيوبية لإريتريا بالوقوف وراء تجدد الخلافات في إقليم التيغراي، من بينها اتهامات ساقها الرئيس الإثيوبي السابق مولاتو تيشومي الشهر الماضي، لإريتريا ورئيسها أسياس أفورقي بالعمل على إعادة إشعال الصراع في منطقة شمال إثيوبيا، وإفشال «اتفاقية بريتوريا».

على الأثر، ردت إريتريا عبر وزير الإعلام يماني غبريمسقل، الذي اتهم الرئيس الإثيوبي السابق بـ«إطلاق إنذار كاذب بهدف لإخفاء وتبرير أجندة الحرب». وأضاف أن لا مصلحة لبلاده في «العبث بشؤون إثيوبيا الداخلية»، مشدداً على أن «أسمرا تعتبر اتفاقية بريتوريا مسألة حصرية للحكومة الإثيوبية». ثم اتهم أديس أبابا بأنها «منبع المشاكل التي تعصف بالمنطقة مثل أزمة مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال ومشكلة إقليم الأمهرة». وأردف غبريمسقل أن «هذا تكتيك من إثيوبيا لجعل إريتريا كبش فداء لصراعها الداخلي».

علاقات مضطربة

يُذكر أن البلدين الجارين كانا قد وقّعا عام 2018، اتفاق سلام أنهى حالة الجمود في العلاقات دامت 20 سنة. ثم تراجعت العلاقات، إثر توقيع الحكومة الإثيوبية «اتفاقية بريتوريا» للسلام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، مع جبهة تحرير التيغراي، وهو ما اعتبرته إريتريا انتقاصاً لدورها، رغم دعمها العسكري لإثيوبيا في حربها ضد قوات التيغراي. ومع أن أديس أبابا لم تعلن رسمياً معاداة أسمرة، فإن التوتر الحدودي القائم قد يُنذر بعودة الحرب بين الطرفين مجدداً، وفق المحلل السياسي الإثيوبي أنور إبراهيم.

إبراهيم قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التغيرات متسارعة، والتقلبات والتحالفات تبدأ وتنتهي سريعاً، في ضوء انقسام المكونات المسلحة في الإقليم الإثيوبي». وأضاف أن إثيوبيا تواجه تحديات أمنية غير مسبوقة، ما بين «صراعات مسلحة داخلية، في أكبر 3 أقاليم (التيغراي والأمهرة والأورومو)، إلى جانب حدود مشتعلة بسبب الخلاف مع إريتريا، والتطورات الأمنية في السودان وجنوب السودان والصومال».

وجهة نظر إريترية

بحسب الفريق تسادكان غبرتنسائي، نائب حاكم إقليم التيغراي، فإن «الأوضاع الميدانية تزداد تعقيداً مع تراجع الخيارات الدبلوماسية»، محذّراً من امتداد الصراع إلى دول أخرى في المنطقة مثل السودان. أما عبد المنعم أبو إدريس، الكاتب الصحافي المتخصص في شؤون القرن الأفريقي، فيرى في حوار مع «الشرق الأوسط» أن المواجهة المسلحة بين إثيوبيا وإريتريا، بوجود الحشد العسكري للطرفين، قد تقترب من إقليم العفر الإثيوبي (شمال شرقي إثيوبيا)، وأن التحركات الإثيوبية الإقليمية «تأتي سعياً للوصول إلى البحر الأحمر، عبر أي دولة إقليمية».

غبرتنسائي يعتقد أن الانقسامات الداخلية داخل إقليم التيغراي قد تعقّد المشهد السياسي، «فبعض قيادات جبهة تحرير التيغراي تسعى للتحالف مع أفورقي لحماية مصالحها، رغم إدراكها للمخاطر التي قد تترتب على ذلك». ولذا حذّر غبرتنسائي من أن أي صراع جديد بين إثيوبيا وإريتريا قد يؤدي إلى «تغييرات جغرافية وسياسية كبرى في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر»، خاصة وسط تركيز المجتمع الدولي على أزمات أخرى مثل حرب أوكرانيا واضطرابات الشرق الأوسط. ودعا إلى تدخل عاجل من المجتمع الدولي والحكومة الإثيوبية لمنع اندلاع الحرب، معتبرًا أن التنفيذ الكامل لاتفاقية بريتوريا يظل الخيار الأفضل.

أسياس أفورقي (أ.ف.ب)

أزمة الميناء البحري

للعلم، تتقاسم إثيوبيا حدوداً مع ست دول هي: إريتريا من الشمال، وجيبوتي والصومال من الشرق، والسودان وجنوب السودان وكينيا من الغرب والجنوب الغربي.، لكنها لا تمتلك منفذاً بحرياً يعزّز دورها الإقليمي في معادلة منطقة «القرن الأفريقي» الاستراتيجية.

وعليه، قد يصعب على أديس أبابا أن تحمي نفوذها في المنطقة من دون «منفذ بحري» خاص بها. وهي في سبيل ذلك تسعى لإيجاد صيغة مع جيرانها من جهة الشرق تؤمّن وصولها إلى ساحل البحر الأحمر، كان من بينها إبرام اتفاق مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، العام الماضي، يقضي بحصول إثيوبيا على ميناء بحري هو ميناء بربرة. بيد أن هذا المسعى جوبه برفض صومالي وعربي كاد أن يصل إلى صدام بين إثيوبيا والصومال، احتوته أخيراً وساطة تركية.

من جانب آخر، الوساطة التركية، التي أدّت لتحوّل إيجابي في علاقات أديس أبابا ومقديشو، يراها مراقبون «تحركاً تكتيكياً» إثيوبياً، خشية مزيد من التصعيد.

وحقاً، تدهورت العلاقات بين إثيوبيا والصومال منذ توقيع إثيوبيا يوم 1 يناير (كانون الثاني) 2024، اتفاقية مع إقليم «أرض الصومال»، تسمح لها باستخدام ميناء بربرة على ساحل البحر الأحمر، لأغراض تجارية وعسكرية لمدة 50 سنة، مقابل الاعتراف باستقلال الإقليم، ما دفع الحكومة الصومالية لطرد السفير الإثيوبي في أبريل (نيسان) من العام الماضي.

وأمام الرفض الصومالي والعربي، للاتفاق، وحشد مقديشو لدعم دولي وإقليمي لموقفها وتعزيز تعاونها العسكري مع حلفاء إقليميين مثل مصر، استطاعت تركيا أن تحقق اختراقاً للأزمة، عبر جولات من الوساطة بين الصومال وإثيوبيا، انتهت بصدور «إعلان أنقرة»، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وهو يقضي بإجراء مباحثات انطلقت في فبراير (شباط) الماضي سعياً إلى اتفاق نهائي بشأن أزمة الميناء البحري في غضون 4 أشهر.

مسار التهدئة في أزمة «الميناء الصومالي»، واكبه تحسن في العلاقات الإثيوبية - الصومالية، بعد تبادل الزيارات الدبلوماسية بين قيادتي البلدين؛ إذ زار رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مقديشو في نهاية فبراير الماضي، بعد زيارة الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، أديس أبابا في يناير الماضي. وقالت حكومتا البلدين في بيان مشترك إن زيارة آبي أحمد «تأتي في إطار الجهود المتواصلة لتطبيع العلاقات الثنائية».

آبي أحمد (رويترز)

وفي خطوة تعكس مزيداً من التقارب الإثيوبي - الصومالي، استعانت مقديشو بأديس أبابا، لشن غارات جوية على مواقع «حركة «الشباب» الإرهابية، وفق وزير الدفاع الصومالي، عبد القادر محمد نور، بعد رفض الصومال مشاركة قوات إثيوبية في البعثة الجديدة للاتحاد الأفريقي لحفظ السلام، التي بدأت مهمتها مطلع العام الحالي.

ووفق أنور إبراهيم، سماح مقديشو بمشاركة إثيوبيا في مواجهة «حركة الشباب»، بقوات خارج بعثة الاتحاد الأفريقي، يعني أن «أديس أبابا ليست غائبة عن قضايا منطقة القرن الأفريقي». وتابع المحلل الإثيوبي أن «إثيوبيا تسعى لاستعادة تأثيرها في ملفات المنطقة، ومن بينها دعم الصومال في مواجهة الإرهاب».

أما حسن شيخ علي، أستاذ العلاقات الدولية في المعهد العالي للدراسات الأمنية بالصومال، فيقول إنه حتى إذا كان الحراك الدبلوماسي الإثيوبي - الصومالي، جاء مدفوعاً بدعم تركي، «فهذا لا ينفي الحذر واستمرار الهواجس داخل الصومال وبخاصة من المساس بسيادته».

ويتابع شيخ علي لـ«الشرق الأوسط» أن «المخاوف الصومالية ما زالت حاضرة بالداخل، لا سيما أن أديس أبابا لم تعلن صراحة التراجع عن اتفاق الميناء البحري، مع إقليم (أرض الصومال)». ويوضح أن المساعي الإثيوبية «لا تعني حسن الجوار بل هي تحركات تكتيكية مرتبطة بالتطورات الإقليمية والصراعات المسلحة داخل إثيوبيا»، ويضيف أن «إعلان أنقرة نص ضمنياً على حماية السيادة الصومالية دون رفض رغبة إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري لها».

احتفال شعبي بتقدم مقاتلي التيغراي إلى مدينة ميكيلي (أ.ف.ب)

من جهة ثانية، لم يطوِ الصومال بعد أزمة «الميناء البحري» مع إثيوبيا، إذ قال وزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية، علي محمد عمر، أخيراً إن «بلاده تدرس منح إثيوبيا حق الوصول إلى ميناء على المحيط الهندي بدلاً من البحر الأحمر»، لكن أديس أبابا لم تعلق على المقترح.

رفض مصري

في أي حال، تواجَه المحاولات المتكررة من إثيوبيا للحصول على منفذ بحري، برفض مصري لأي وجود لدولة غير مشاطئة على البحر الأحمر. وكرّرت القاهرة التشديد على موقفها أكثر من مرة، خصوصاً بعد «اتفاق أنقرة»، بين أديس أبابا ومقديشو، كان أحدثها، تأكيدات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، أثناء زيارته لإريتريا، مطلع مارس (آذار) الحالي، «رفض مشاركة أي دولة غير مشاطئة على البحر الأحمر في أمن وحوكمة البحر الأحمر»، إلى جانب التأكيد على «دعم الصومال في مكافحة الإرهاب وبسط سيادته على كامل أراضيه».

غير أن حسن شيخ علي يعتقد أن «أديس أبابا ستواجه صعوبات في الوصول لمرادها، في ضوء حشد القاهرة، لموقفها إقليمياً، لا سيما من خلال آلية التعاون الثلاثي مع إريتريا والصومال»، وهي آلية عُقدت القمة الأولى لها في أسمرة، شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فيما استضافت مصر الاجتماع الوزاري الأول لها، شهر يناير الماضي، وأكد «دورية الانعقاد، لتعزيز الأمن في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، والحفاظ على وحدة وسيادة دول المنطقة».

صناعة المُسيّرات

وبموازاة التطورات الداخلية والإقليمية، قدّمت الحكومة الإثيوبية رسالة «ردع»، بإعلانها بدء إنتاج «المركبات الجوية من دون طيار للاستخدام المدني والعسكري (المُسيّرات)»، وقال رئيس الوزراء الإثيوبي، على هامش افتتاح شركة «سكاي وين» للصناعات الجوية، الأسبوع الماضي، إن «الهدف من تطوير هذه القدرات مع تطورات صناعة هندسة الذخيرة ليس لتأجيج الصراع، بل منعه من خلال الردع». وتفرض النزاعات المسلحة الداخلية، والتوترات الأمنية، في الشريط الحدودي لإثيوبيا، تطوير التسليح لدعم قدراتها العسكرية، وفق أنور إبراهيم، لكنه يرى أن «خطوة صناعة المُسيّرات، تتنافى مع الواقع الاقتصادي الصعب، الذي يفرض على الحكومة حلولاً عاجلة». وحسب تقارير، استخدمت الحكومة الإثيوبية الطائرات المسيّرة التي حصلت عليها من الصين وتركيا وإيران، في مواجهاتها ضد متمردي جبهة التيغراي عام 2021.

«سد النهضة»

في الواقع تمتد التفاعلات الإثيوبية، إلى دول الجوار غير المباشر، مثل مصر، مع استمرار الخلاف بشأن «سد النهضة»، الذي تشيده أديس أبابا على نهر النيل منذ 2011. وسعت الحكومة الإثيوبية لحشد دعم دبلوماسي لموقفها بترتيب زيارات لوزارات المياه بدول حوض النيل، ضمن برنامج احتفالية «يوم النيل»، التي استضافتها العاصمة الإثيوبية في 22 فبراير الماضي، رغم الاعتراض المصري. واعتبر وزير الري المصري، هاني سويلم، إدراج زيارة لموقع السد الإثيوبي، ضمن برنامج الاحتفالية، «يقحم دول حوض النيل في النزاع القائم». محاولات إثيوبيا الحصول على منفذ بحري تواجه رفضاً مصرياً لأي وجود لدولة غير مشاطئة على البحر الأحمر



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين