برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

وزير الداخلية المحافظ يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»

برونو روتايو
برونو روتايو
TT
20

برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

برونو روتايو
برونو روتايو

منذ تولي برونو روتايو مهامه الرسمية وزيراً للداخلية في فرنسا خلال سبتمبر 2024، بدأ نجمه يسطع بقوة في المشهد السياسي فارضاً نفسه كأحد أبرز شخصيات عهدة ماكرون الثانية. فقد ازداد نفوذه إلى درجة أنه ربط بقاءه في منصب وزير الداخلية بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه بشرط إطلاق يده لتنفيذ السياسة التي يريدها، وهو الوزير الوحيد الذي حظي بهذه المعاملة. وبالفعل، سجلت استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيته بعد سلسلة الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها للحدّ من الهجرة وخطابه الداعي إلى اتباع سياسة الحزم والصرامة. لكنه يواجه في الوقت عينه انتقادات شديدة من اليسار والمجتمع المدني، وحتى بعض الوسطيين، بسبب مواقفه المتشددة فيما يخصّ ملف الهجرة وتصريحاته المعادية للجزائر.

ولد برونو روتايو في إقليم الفنديه Vendee، بغرب فرنسا، في بلدة شوليه الصغيرة عام 1960. وهو شغوف بحياة الأرياف وركوب الخيل، ويقيم عدة مرات على مدار السنة في مزرعته الخاصة.

على الصعيد الشخصي، روتايو متزوج من طبيبة مدرسية ولديه 4 أطفال. وكان قد تلقى تعليمه الابتدائي في المدارس الكاثوليكية الخاصة، ثم في المعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» بباريس حيث تخصّص في الاقتصاد والإدارة. والحقيقة أن روتايو بدأ نشاطه السياسي وهو ابن الـ17 إلى جانب فيليب دو فيلييه، زعيم حزب «الحركة من أجل فرنسا»، وهو حزب ينتمي إلى تيار شعبوي يتسم بميل شديد إلى المحافظة الدينية المسيحية، ويرفع شعار الدفاع عن فرنسا التقليدية والتمسّك المتشدّد بالقيَم الوطنية والهوية السياسية والثقافية واللغوية.

ومن ثم، تسلّق الرجل المراتب حتى أصبح نائباً للرئيس دو فيلييه وذراعه الأيمن. وانتخب عدة مرات عضواً في المجلس العام لإقليم الفنديه، وعضواً في مجلس الشيوخ عن الإقليم عام 2004.

توجّه ليبرالي محافظ

بدايات برونو روتايو رسمت ملامح شخصيته السياسية الآيديولوجية؛ إذ إنه معروف بميوله الليبرالية اقتصادياً والمحافظة اجتماعياً سياسياً، فهو يؤيد رفع ساعات العمل وسن التقاعد مع تقليص عدد الموظفين في القطاع العام والحدّ من المساعدات الاجتماعية ونفقات الدولة، وفي الاتجاه ذاته يعارض أي زيادة ضريبية للأثرياء وأرباب العمل.

ثم كي تتكامل «ملامحه اليمينية»، يعدّ روتايو من أشدّ المعارضين لقانون زواج المثليين، وتسجيل حق الإجهاض في الدستور الفرنسي، وتشريع إجراءات القتل الرحيم عند المرضى وكبار السن. وأكثر من هذا، فهو يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»، التي كتب عنها الناشط السياسي رونو كامو وروّج لها ساسة من اليمين المتطرّف أمثال إيريك زمّور، وهي تهوّل بزعم «تعرّض أوروبا للغزو والتغيير الديموغرافي والديني من قبل المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم».

وبالفعل، جاء في صحيفة «شالانج» الفرنسية في موضوع بعنوان «روتايو أو الهَوَس بالهجرة» أن ما يخشاه وزير الداخلية «تغيّر وجه أوروبا من الإرث المسيحي - اليهودي إلى الإسلام بسبب تدفّق المهاجرين». وهو مؤمن، كما تزعم هذه النظرية، بأن المسلمين لا يستطيعون الاندماج في المجتمعات الغربية، بل سيفرضون ثقافتهم على الفرنسيين. ولذا، كما تضيف الصحيفة الفرنسية، فهو شبه مهووس بهذا الموضوع، على حساب إشكاليات أخرى مهمة كالأمن ومحاربة تجّار المخدرات. ثم إنه يأخذ هذا الموضوع بجدّية كبيرة... علماً بأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها شخص بهذه القناعات المتطرفة إلى منصب مهم في الحكومة.

الالتحاق باليمين الجمهوري

عام 2010 أعلن روتايو انفصاله عن حزب «الحركة من أجل فرنسا» لاختلافات جوهرية مع زعيم الحزب فيليب دو فيلييه. وبعد قرار الانفصال تبادل الاثنان سلسلة من الاتهامات تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية بإسهاب؛ إذ اتهم روتايو رئيسه السابق بإقصائه من مؤسسة «بوي دو فو للتراث والثقافة»، التي كان يديرها معه في إقليم الفنديه، وعرقلة تنصيبه كوزير في الحكومة. أما دو فيلييه فقد اتهم نائبه بالخيانة والتخلي عنه بعد مرضه، والتسبب بالمشاكل المادية التي لحقت بالحزب بعد هزيمته في الانتخابات.

وفي نهاية فبراير (شباط) 2012 التحق روتايو بحزب اليمين الجمهوري «الاتحاد من أجل حركة شعبية»؛ إذ أصبح عضواً في لجنة الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي وأميناً وطنياً للحزب مسؤولاً عن التنافسية والشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن ثم، انتُخب بالإجماع لقيادة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012، خلفاً للويس غيدون. وللعلم، كان روتايو مقرّباً من الوزير الأول السابق فرنسوا فيّون، ووقف إلى جانبه في «حرب» الزعامة التي شهدها حزب اليمين الجمهوري بين فيّون وساركوزي وجان فرنسوا كوبيه. كذلك سانده خلال مواجهته لملاحقات قضائية بسبب تهم التحايل على الأموال العامة أو ما سمي بقضية «بنيلوب غايت».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014 عاد روتايو إلى مقعده في مجلس الشيوخ مع عائلته السياسية الجديدة، حين انتخب ممثلاً عن إقليم الفنديه واحتفظ بمقعده حتى تاريخ دخوله حكومة بارنييه وزيراً للداخلية يوم 21 سبتمبر (أيلول) 2023 خلفاً لسابقه جيرالد درمانان.

الهجرة رأس الأولويات

الواقع أنه منذ تولي برونو روتايو منصب وزير الداخلية تجسّد توجهه اليميني المحافظ بقوة في تعامله مع مختلف الملفات، يتقدمها ملف الهجرة الذي يمسكه بقبضة من حديد تثير انتقاد اليسار وجمعيات مساعدة المهاجرين، وحتى بعض الوسطيين. ومنذ البداية كان هذا الملف أولوية لروتايو الذي وضع نصب أعينه هدفاً واحداً هو وقف الهجرة غير الشرعية... وأيضاً الشرعية. وبالفعل، بدأ يرسم أبعاد هذه السياسة أولاً عبر إعلانه عن قانون جديد للهجرة مع مطلع 2025 سرعان ما تحول إلى مجموعة من الإجراءات الأمنية بسبب ضغوط الوسط وانعدام لغالبية البرلمانية. أيضاً، كان تعهّد فور تسلّمه مهامه «ببذل كل ما في وسعه من أجل الحدّ من الهجرة»، قائلاً إن الهجرة «ليست فرصة لفرنسا، بل عبء عليها». وكانت أولى خطواته المطالبة بإعادة تفعيل قانون تجريم الهجرة غير الشرعية، الذي كانت فرنسا قد ألغته عام 2012 استناداً لتوصيات محكمة العدل الأوروبية التي تمنع معاقبة المهاجرين غير النظاميين باسم حقوق الإنسان. وهذا، بالإضافة إلى تمديد فترة الاحتجاز في المراكز إلى 7 أشهر بدل 3 وتعزيز عمليات التفتيش على الحدود، وإعرابه عن رغبته في تقليص الحقوق الاجتماعية للمهاجرين بهدف «تقليل الجاذبية» من خلال قطع المساعدات الطبية والقانونية والمساعدات الممنوحة لهم للحصول على سكن وغذاء وتنفيذ قرارات الترحيل. وفي خطابه السنوي أمام المحافظين يوم 8 أكتوبر ينوي التفاوض على توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول كمصر والعراق وكازاخستان والمغرب لاستقبال رعاياها المرحلّين من فرنسا. ثم إنه يريد تشديد إجراءات قانون لمّ الشمل الأسري الخاصة بالمهاجرين بإضافة شروط جديدة في الموارد والسكن والآجال المخصّصة لدراسة الملفات.

«حرب» روتايو على الهجرة طالت أيضاً الجمعيات التي تقدم للمهاجرين مساعدات؛ إذ يعتزم تقليص دورها وتكليف «المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج» بأداء دورها في مراكز الاحتجاز الإداري.العلمانية والحجاب الإسلامي

إضافة إلى ملف الهجرة، أعاد الوزير روتايو إلى الواجهة «إشكالية» العلمانية ومكانة الحريات الدينية في الفضاء العام، وبالأخص ممارسة المسلمين شعائرهم الدينية. وكان قد أثار جدلاً واسعاً بمناسبة إحياء فرنسا للذكرى العاشرة للهجوم على جريدة «شارلي إبدو» حين أعلن أنه سيتقدّم بمشروع قانون لمنع ارتداء الحجاب للأمهات المرافقات في الرحلات المدرسية وللطالبات الجامعيات؛ إذ رأى امتداداً لنشاط المدارس، وبالتالي يطبق عليها القانون الذي يعتبر الحجاب «رمزاً للإسلاموية المتشدّدة وعلامة على خضوع النساء للرجال»، كما يربطه بـ«الإسلام السياسي» الذي ادعى أنه «يشكل تهديداً للأمة ووسيلة من وسائل الإطاحة بمؤسسات الدولة». وهنا نشير إلى أن فرص تطبيق قانون كهذا ضئيلة جداً، فكتلة الوسط - بما فيها رئيس الوزراء فرانسوا بايرو - والرئيس ماكرون نفسه ضد هذه الفكرة، كما أن «مجلس الدولة» (الهيئة العليا التي تنظر في شرعية المراسيم الإدارية) سبق أن أقّر بأن ارتداء الحجاب مسألة حرية شخصية ما دامت لا تدخل في نطاق العمل في مؤسسات الدولة ولا تمس بقانون العلمانية.

انتقادات بالجملة

من جهة أخرى، أثار روتايو منذ توليه وزارة الداخلية انتقادات عدة أطراف أبرزها الأوساط اليسارية والجمعيات الخيرية لمواقفه الموالية لليمين المتطرّف وتصريحاته المثيرة للجدل. وبعد الإجراءات التي أعلنها في الأيام الأخيرة للحد من الهجرة، أعربت فانيلي كاري-كونت، الأمينة العامة لجمعية «لا سيماد» التي تهتم بشؤون المهاجرين واللاجئين، عن أسفها لكلامه معتبرة أن «التصعيد القمعي سيقودنا إلى طريق مسدود». أما الشخصيات السياسية المنتمية لليسار فهي لا ترى فرقاً بين السياسة التي يتبعها وزير الداخلية وسياسات اليمين المتطرّف المبنية على توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية كل المشاكل. وهنا انتقدت النائبة ماتيلد بانو، رئيسة كتلة «فرنسا الأبية» اليسارية، كلام الوزير أثناء زيارته التفقدية لجزيرة مايوت (في أرخبيل القُمُر) حين قال إن «وضع الجزيرة سيئ بسبب الهجرة غير الشرعية»، فردت في موقعها على منصّة «إكس» كاتبة: «كنا ننتظر من وزير الداخلية حلولاً لمشاكل مايوت لا استعراضاً لوجهات نظره العنصرية». شخصيات كثيرة من حزب «فرنسا الأبية» انتقدت أيضاً الطريقة التي يعتمدها روتايو في تأجيج التصعيد ومحاولة فرض المواجهة مع الجزائر. وأشار بيان للحزب إلى أن بعض القادة الفرنسيين «يتبعون منطقاً عبثياً» للانتقام من الجزائر ويستخدمون مفردات حربية غير مقبولة إطلاقاً، في إشارة واضحة إلى وزير الداخلية.

يمين ضد يمينفي المقابل، لئن كان روتايو يراه كثيرون من «اليمين المتطرف»، فإنه يثير أيضاً حفيظة هذا اليمين الذي يراه منافساً من العيار الثقيل، وبخاصة أنه نجح أخيراً في خطف الأضواء بعدما ركّز في خطابه السياسي على إشكاليات الهجرة والأمن، وبذا ارتفعت شعبيته لدى ناخبي حزب «التجمع الوطني» وبات ينافس زعماءه. وفي حوار مع صحيفة «لو جي ديدي»، تعمّد جوردان برديلا، رئيس «التجمع الوطني»، التقليل من أهمية روتايو حين وصفه بـ«السياسي المراوغ الذي لا يفي بوعوده ويتكلم أكثر مما يفعل...».

ثم إن بعض التقارير تفيد أيضاً بتوتر العلاقات داخل العائلة السياسية للوزير روتايو بين الفريق المؤيد لترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2027 والفريق الذي يساند لوران فوكييه، رئيس «كتلة الجمهوريين» في الجمعية الوطنية، الذي أعلن أنه يحضّر نفسه لخوض الانتخابات في 2027.


مقالات ذات صلة

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

حصاد الأسبوع الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين…

الشيخ محمد (نواكشوط)
حصاد الأسبوع ميرتس

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شولتز (رويترز)

ألمانيا: حسابات الداخل والخارج تدفع نحو تسريع التفاهم على الائتلاف الحاكم الجديد

تنتظر ألمانيا أسابيع، أو حتى أشهراً، من المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) بزعامة فريدريش ميرتس الذي فاز بالانتخابات الأخيرة،

«الشرق الأوسط» ( برلين)
حصاد الأسبوع زامير

إيال زامير... رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة

لم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه وضعاً أصعب من الوضع الذي يعيشه اليوم، لدى استعداده لاستقبال رئيس أركانه الجديد، إيال زامير. صعب، ليس لأنه يعاني من نقص في الذخيرة والعتاد، ولا لأنه ثبت فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب على غزة، بل إن المشكلة الراهنة والاستثنائية هي أنه يفقد مزيداً من ثقة الناس، ويتعرّض في الوقت ذاته إلى حملة تحريض شعواء من الحكومة ورئيسها ووزرائها وجيش «النشطاء» في الشبكات الاجتماعية التابع لحزب «الليكود» الحاكم. هذه المشكلة تُدخل الجنرالات في أجواء توتر دائم وتهزّ ثقتهم بأنفسهم؛ ولذا فبعضهم يحاول إرضاء الحكومة بالنفاق، والبعض الآخر يحاول إرضاءها بتشديد القبضة ضد الفلسطينيين، وثمة فئة ثالثة أفرادها يرفضون فيستقيلون، وآخرون يرفضون ويبقون «دفاعاً عن أهم ركن من أركان الدولة العبرية» معتبرين أن الجيش يعيش موجة عابرة سيستطيع تجاوزها. ومع كل هذا، الجميع يشعرون أنهم في قلب معركة أقسى عليهم من الحرب على ست جبهات، ولا أحد سيخرج منها بلا جروح.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع تعزيز سلاحي الدبابات والمدرعات في مقدم المطالبات الإسرائيلية لتطوير قدرات الجيش (آ ف ب)

رسالة مفتوحة إلى زامير من أكاديمي استيطاني يميني

إحدى الإشارات التي تدل على ما هو مطلوب من رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير، وردت على شكل رسالة مفتوحة وجّهها إليه الدكتور عومر أريخا؛ وهو ناشط يميني.


اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT
20

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)
علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)
قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟