برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

وزير الداخلية المحافظ يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»

برونو روتايو
برونو روتايو
TT

برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

برونو روتايو
برونو روتايو

منذ تولي برونو روتايو مهامه الرسمية وزيراً للداخلية في فرنسا خلال سبتمبر 2024، بدأ نجمه يسطع بقوة في المشهد السياسي فارضاً نفسه كأحد أبرز شخصيات عهدة ماكرون الثانية. فقد ازداد نفوذه إلى درجة أنه ربط بقاءه في منصب وزير الداخلية بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه بشرط إطلاق يده لتنفيذ السياسة التي يريدها، وهو الوزير الوحيد الذي حظي بهذه المعاملة. وبالفعل، سجلت استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيته بعد سلسلة الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها للحدّ من الهجرة وخطابه الداعي إلى اتباع سياسة الحزم والصرامة. لكنه يواجه في الوقت عينه انتقادات شديدة من اليسار والمجتمع المدني، وحتى بعض الوسطيين، بسبب مواقفه المتشددة فيما يخصّ ملف الهجرة وتصريحاته المعادية للجزائر.

ولد برونو روتايو في إقليم الفنديه Vendee، بغرب فرنسا، في بلدة شوليه الصغيرة عام 1960. وهو شغوف بحياة الأرياف وركوب الخيل، ويقيم عدة مرات على مدار السنة في مزرعته الخاصة.

على الصعيد الشخصي، روتايو متزوج من طبيبة مدرسية ولديه 4 أطفال. وكان قد تلقى تعليمه الابتدائي في المدارس الكاثوليكية الخاصة، ثم في المعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» بباريس حيث تخصّص في الاقتصاد والإدارة. والحقيقة أن روتايو بدأ نشاطه السياسي وهو ابن الـ17 إلى جانب فيليب دو فيلييه، زعيم حزب «الحركة من أجل فرنسا»، وهو حزب ينتمي إلى تيار شعبوي يتسم بميل شديد إلى المحافظة الدينية المسيحية، ويرفع شعار الدفاع عن فرنسا التقليدية والتمسّك المتشدّد بالقيَم الوطنية والهوية السياسية والثقافية واللغوية.

ومن ثم، تسلّق الرجل المراتب حتى أصبح نائباً للرئيس دو فيلييه وذراعه الأيمن. وانتخب عدة مرات عضواً في المجلس العام لإقليم الفنديه، وعضواً في مجلس الشيوخ عن الإقليم عام 2004.

توجّه ليبرالي محافظ

بدايات برونو روتايو رسمت ملامح شخصيته السياسية الآيديولوجية؛ إذ إنه معروف بميوله الليبرالية اقتصادياً والمحافظة اجتماعياً سياسياً، فهو يؤيد رفع ساعات العمل وسن التقاعد مع تقليص عدد الموظفين في القطاع العام والحدّ من المساعدات الاجتماعية ونفقات الدولة، وفي الاتجاه ذاته يعارض أي زيادة ضريبية للأثرياء وأرباب العمل.

ثم كي تتكامل «ملامحه اليمينية»، يعدّ روتايو من أشدّ المعارضين لقانون زواج المثليين، وتسجيل حق الإجهاض في الدستور الفرنسي، وتشريع إجراءات القتل الرحيم عند المرضى وكبار السن. وأكثر من هذا، فهو يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»، التي كتب عنها الناشط السياسي رونو كامو وروّج لها ساسة من اليمين المتطرّف أمثال إيريك زمّور، وهي تهوّل بزعم «تعرّض أوروبا للغزو والتغيير الديموغرافي والديني من قبل المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم».

وبالفعل، جاء في صحيفة «شالانج» الفرنسية في موضوع بعنوان «روتايو أو الهَوَس بالهجرة» أن ما يخشاه وزير الداخلية «تغيّر وجه أوروبا من الإرث المسيحي - اليهودي إلى الإسلام بسبب تدفّق المهاجرين». وهو مؤمن، كما تزعم هذه النظرية، بأن المسلمين لا يستطيعون الاندماج في المجتمعات الغربية، بل سيفرضون ثقافتهم على الفرنسيين. ولذا، كما تضيف الصحيفة الفرنسية، فهو شبه مهووس بهذا الموضوع، على حساب إشكاليات أخرى مهمة كالأمن ومحاربة تجّار المخدرات. ثم إنه يأخذ هذا الموضوع بجدّية كبيرة... علماً بأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها شخص بهذه القناعات المتطرفة إلى منصب مهم في الحكومة.

الالتحاق باليمين الجمهوري

عام 2010 أعلن روتايو انفصاله عن حزب «الحركة من أجل فرنسا» لاختلافات جوهرية مع زعيم الحزب فيليب دو فيلييه. وبعد قرار الانفصال تبادل الاثنان سلسلة من الاتهامات تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية بإسهاب؛ إذ اتهم روتايو رئيسه السابق بإقصائه من مؤسسة «بوي دو فو للتراث والثقافة»، التي كان يديرها معه في إقليم الفنديه، وعرقلة تنصيبه كوزير في الحكومة. أما دو فيلييه فقد اتهم نائبه بالخيانة والتخلي عنه بعد مرضه، والتسبب بالمشاكل المادية التي لحقت بالحزب بعد هزيمته في الانتخابات.

وفي نهاية فبراير (شباط) 2012 التحق روتايو بحزب اليمين الجمهوري «الاتحاد من أجل حركة شعبية»؛ إذ أصبح عضواً في لجنة الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي وأميناً وطنياً للحزب مسؤولاً عن التنافسية والشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن ثم، انتُخب بالإجماع لقيادة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012، خلفاً للويس غيدون. وللعلم، كان روتايو مقرّباً من الوزير الأول السابق فرنسوا فيّون، ووقف إلى جانبه في «حرب» الزعامة التي شهدها حزب اليمين الجمهوري بين فيّون وساركوزي وجان فرنسوا كوبيه. كذلك سانده خلال مواجهته لملاحقات قضائية بسبب تهم التحايل على الأموال العامة أو ما سمي بقضية «بنيلوب غايت».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014 عاد روتايو إلى مقعده في مجلس الشيوخ مع عائلته السياسية الجديدة، حين انتخب ممثلاً عن إقليم الفنديه واحتفظ بمقعده حتى تاريخ دخوله حكومة بارنييه وزيراً للداخلية يوم 21 سبتمبر (أيلول) 2023 خلفاً لسابقه جيرالد درمانان.

الهجرة رأس الأولويات

الواقع أنه منذ تولي برونو روتايو منصب وزير الداخلية تجسّد توجهه اليميني المحافظ بقوة في تعامله مع مختلف الملفات، يتقدمها ملف الهجرة الذي يمسكه بقبضة من حديد تثير انتقاد اليسار وجمعيات مساعدة المهاجرين، وحتى بعض الوسطيين. ومنذ البداية كان هذا الملف أولوية لروتايو الذي وضع نصب أعينه هدفاً واحداً هو وقف الهجرة غير الشرعية... وأيضاً الشرعية. وبالفعل، بدأ يرسم أبعاد هذه السياسة أولاً عبر إعلانه عن قانون جديد للهجرة مع مطلع 2025 سرعان ما تحول إلى مجموعة من الإجراءات الأمنية بسبب ضغوط الوسط وانعدام لغالبية البرلمانية. أيضاً، كان تعهّد فور تسلّمه مهامه «ببذل كل ما في وسعه من أجل الحدّ من الهجرة»، قائلاً إن الهجرة «ليست فرصة لفرنسا، بل عبء عليها». وكانت أولى خطواته المطالبة بإعادة تفعيل قانون تجريم الهجرة غير الشرعية، الذي كانت فرنسا قد ألغته عام 2012 استناداً لتوصيات محكمة العدل الأوروبية التي تمنع معاقبة المهاجرين غير النظاميين باسم حقوق الإنسان. وهذا، بالإضافة إلى تمديد فترة الاحتجاز في المراكز إلى 7 أشهر بدل 3 وتعزيز عمليات التفتيش على الحدود، وإعرابه عن رغبته في تقليص الحقوق الاجتماعية للمهاجرين بهدف «تقليل الجاذبية» من خلال قطع المساعدات الطبية والقانونية والمساعدات الممنوحة لهم للحصول على سكن وغذاء وتنفيذ قرارات الترحيل. وفي خطابه السنوي أمام المحافظين يوم 8 أكتوبر ينوي التفاوض على توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول كمصر والعراق وكازاخستان والمغرب لاستقبال رعاياها المرحلّين من فرنسا. ثم إنه يريد تشديد إجراءات قانون لمّ الشمل الأسري الخاصة بالمهاجرين بإضافة شروط جديدة في الموارد والسكن والآجال المخصّصة لدراسة الملفات.

«حرب» روتايو على الهجرة طالت أيضاً الجمعيات التي تقدم للمهاجرين مساعدات؛ إذ يعتزم تقليص دورها وتكليف «المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج» بأداء دورها في مراكز الاحتجاز الإداري.العلمانية والحجاب الإسلامي

إضافة إلى ملف الهجرة، أعاد الوزير روتايو إلى الواجهة «إشكالية» العلمانية ومكانة الحريات الدينية في الفضاء العام، وبالأخص ممارسة المسلمين شعائرهم الدينية. وكان قد أثار جدلاً واسعاً بمناسبة إحياء فرنسا للذكرى العاشرة للهجوم على جريدة «شارلي إبدو» حين أعلن أنه سيتقدّم بمشروع قانون لمنع ارتداء الحجاب للأمهات المرافقات في الرحلات المدرسية وللطالبات الجامعيات؛ إذ رأى امتداداً لنشاط المدارس، وبالتالي يطبق عليها القانون الذي يعتبر الحجاب «رمزاً للإسلاموية المتشدّدة وعلامة على خضوع النساء للرجال»، كما يربطه بـ«الإسلام السياسي» الذي ادعى أنه «يشكل تهديداً للأمة ووسيلة من وسائل الإطاحة بمؤسسات الدولة». وهنا نشير إلى أن فرص تطبيق قانون كهذا ضئيلة جداً، فكتلة الوسط - بما فيها رئيس الوزراء فرانسوا بايرو - والرئيس ماكرون نفسه ضد هذه الفكرة، كما أن «مجلس الدولة» (الهيئة العليا التي تنظر في شرعية المراسيم الإدارية) سبق أن أقّر بأن ارتداء الحجاب مسألة حرية شخصية ما دامت لا تدخل في نطاق العمل في مؤسسات الدولة ولا تمس بقانون العلمانية.

انتقادات بالجملة

من جهة أخرى، أثار روتايو منذ توليه وزارة الداخلية انتقادات عدة أطراف أبرزها الأوساط اليسارية والجمعيات الخيرية لمواقفه الموالية لليمين المتطرّف وتصريحاته المثيرة للجدل. وبعد الإجراءات التي أعلنها في الأيام الأخيرة للحد من الهجرة، أعربت فانيلي كاري-كونت، الأمينة العامة لجمعية «لا سيماد» التي تهتم بشؤون المهاجرين واللاجئين، عن أسفها لكلامه معتبرة أن «التصعيد القمعي سيقودنا إلى طريق مسدود». أما الشخصيات السياسية المنتمية لليسار فهي لا ترى فرقاً بين السياسة التي يتبعها وزير الداخلية وسياسات اليمين المتطرّف المبنية على توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية كل المشاكل. وهنا انتقدت النائبة ماتيلد بانو، رئيسة كتلة «فرنسا الأبية» اليسارية، كلام الوزير أثناء زيارته التفقدية لجزيرة مايوت (في أرخبيل القُمُر) حين قال إن «وضع الجزيرة سيئ بسبب الهجرة غير الشرعية»، فردت في موقعها على منصّة «إكس» كاتبة: «كنا ننتظر من وزير الداخلية حلولاً لمشاكل مايوت لا استعراضاً لوجهات نظره العنصرية». شخصيات كثيرة من حزب «فرنسا الأبية» انتقدت أيضاً الطريقة التي يعتمدها روتايو في تأجيج التصعيد ومحاولة فرض المواجهة مع الجزائر. وأشار بيان للحزب إلى أن بعض القادة الفرنسيين «يتبعون منطقاً عبثياً» للانتقام من الجزائر ويستخدمون مفردات حربية غير مقبولة إطلاقاً، في إشارة واضحة إلى وزير الداخلية.

يمين ضد يمينفي المقابل، لئن كان روتايو يراه كثيرون من «اليمين المتطرف»، فإنه يثير أيضاً حفيظة هذا اليمين الذي يراه منافساً من العيار الثقيل، وبخاصة أنه نجح أخيراً في خطف الأضواء بعدما ركّز في خطابه السياسي على إشكاليات الهجرة والأمن، وبذا ارتفعت شعبيته لدى ناخبي حزب «التجمع الوطني» وبات ينافس زعماءه. وفي حوار مع صحيفة «لو جي ديدي»، تعمّد جوردان برديلا، رئيس «التجمع الوطني»، التقليل من أهمية روتايو حين وصفه بـ«السياسي المراوغ الذي لا يفي بوعوده ويتكلم أكثر مما يفعل...».

ثم إن بعض التقارير تفيد أيضاً بتوتر العلاقات داخل العائلة السياسية للوزير روتايو بين الفريق المؤيد لترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2027 والفريق الذي يساند لوران فوكييه، رئيس «كتلة الجمهوريين» في الجمعية الوطنية، الذي أعلن أنه يحضّر نفسه لخوض الانتخابات في 2027.


مقالات ذات صلة

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

حصاد الأسبوع من القمة (رويترز)

«قمة فلسطين» محطة أولى في مسار طويل لصد التهجير

«محطة أولى في مسار طويل»، هكذا وصف الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط «قمة فلسطين» غير العادية التي استضافتها القاهرة، الثلاثاء الماضي، التي عكست توافقاً عربياً واضحاً على رفض «التهجير» أياً كان شكله أو اسمه، مع التأكيد على أن السلام خيار استراتيجي للمنطقة. جاءت قرارات القمة لتلبي الكثير من التوقعات والآمال، لا سيما مع تبينها «خطة عربية جامعة» لـ«إعمار دون تهجير». إلا أنها في الوقت نفسه قرارات تحتاج إلى «خطوات إجرائية» لتنفيذها على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الزخم الحالية بشأن القضية الفلسطينية، وإلا انتهت ككثير من القرارات والمبادرات السابقة في الصدد نفسه «حبراً على ورق».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جامعة للقادة العرب المشاركين قي القمة (إكس)

قمم عربية تاريخية دعمت فلسطين

تعدُّ القضية الفلسطينية «قضية العرب المركزية»، ومنذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 كانت القضية الفلسطينية بنداً رئيساً على جدول أعمال القمم العربية.

حصاد الأسبوع ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

ياسين جابر... شاغل «حقيبة التحديات» في الحكومة اللبنانية الجديدة

بدّد تشكيل الحكومة اللبنانية وحصولها على ثقة البرلمان في الأسبوع الماضي، كل الاعتراضات السابقة على تعيين ياسين جابر وزيراً للمالية. فالاعتراض لم يتخطَّ «تكريس…

نذير رضا (بيروت)
حصاد الأسبوع د غازي وزني (أ ف ب/غيتي)

وزير المال... «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية اللبنانية

استحوذت عقدة وزارة المال، على ثلاثة أسابيع من النقاشات والاتصالات خلال فترة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة، ويعود ذلك إلى إصرار «الثنائي الشيعي» (حزب الله.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع الاجتماع التاريخي العاصف بين زيلينسكي وترمب وأركان إدارته (رويترز)

رهان الكرملين على سياسة ترمب في أوكرانيا يصطدم بالتحدي الأوروبي

فتحت خطوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب للضغط على سلطات كييف، بهدف حملها على الانخراط في تسوية سياسية للصراع في أوكرانيا، «شهية» موسكو لتسريع تطبيع العلاقات مع واشنطن، واستغلال الوضع الذي نشأ بعد الاستقبال المُهين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لحصد أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل انطلاق العملية التفاوضية المحتملة. ومع تصعيد اللهجة الروسية، بالتوازي مع خطوات ترمب السريعة والحادة تجاه كييف، بما في ذلك على صعيد توسيع الحديث عن ضرورة إطاحة زيلينسكي كشرط ضروري لإطلاق حوار فعّال يفضي إلى تسوية سياسية نهائية، بدا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ينطلق من القارة الأوروبية. وفي مقابل مشهد تراجع الحماسة الأوروبية لدعم كييف قبل أسابيع قليلة، يخشى الكرملين من أن تسفر سياسة الضغط الأقصى التي يمارسها ترمب عن تحوّلات تعزّز تماسك الموقف الأوروبي. الأمر الذي يضع عراقيل إضافية أمام مسار الحل النهائي الذي يتطلع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

رائد جبر (موسكو)

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)

كشف عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق في اتحاد نقابات العمال التونسية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الأزمة الاقتصادية والمالية ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية أمر واقع»، داعياً السلطات إلى فتح مفاوضات مع النقابات والأطراف الاجتماعية والاقتصادية الوطنية لاحتوائها وتجنّب «الخطوط الحمراء».

مصالح رؤوس الأموال

وفي المقابل، البدوي عدّ أن بعض الأوساط في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي تتعمّد «تضخيم» أزمات تونس المالية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف «ابتزاز» السلطات وفرض شروط جديدة عليها خدمة لمصالح العواصم الغربية، وبينها تلك التي لديها علاقة بملفات الهجرة وحرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين بلدان الشمال والجنوب.

البدوي رأى أيضاً أن الأزمات المالية الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، وعدة دول عربية وأفريقية اليوم، استفحلت منذ عدة سنوات بسبب «انصياع الحكومات المتعاقبة لـ(توصيات) صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وبينها اتباع سياسات رأسمالية لا تتلاءم واقتصادات دول في طريق النمو». وبالتالي، وفق البدوي، كانت النتيجة سياسات «منحازة إلى مصالح أقليات من رؤوس الأموال، وفشلاً في تحقيق التوازن بين الجهات والفئات والقطاعات التنموية».

خطر «الانهيار الشامل»

غير أن خبراء ماليين واقتصاديين تونسيين آخرين، منهم عز الدين سعيدان، المشرف سابقاً على بنوك ومراكز دراسات اقتصادية ومالية عربية، حذّروا من «تجاوز الخطوط الحمراء» بسبب اختلال التوازنات المالية للدولة والبنوك التونسية العمومية وارتفاع أعباء نِسَب التداين.

وحذّر سعيدان، بالذات، من تراجع فرص «خلق الثروة» وترفيع الاستثمار الداخلي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من استفحال «الأزمة الاقتصادية الهيكلية» الموروثة، وبروز «أزمة ظرفية» من مظاهرها التضخم المالي وتراجع فرص التشغيل ونقص مداخيل الدولة من الصادرات ومن الضرائب.

وفي سياق متصل، توقّف الكثير من وسائل الإعلام والملتقيات العلمية والاقتصادية أخيراً عند تحذيرات وجّهتها أطراف تونسية وأجنبية من سيناريوهات «استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق» في تونس. واستدلّت هذه الجهات بالإحصائيات الرسمية التي تقدّمها تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني عن الإحصاء، والتي تكشف «مزيداً من العجز المالي والتجاري والفوارق بين الطبقات...».

مقر البنك المركزي التونسي (غيتي)

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان ما أورده تقرير صدر قبل نحو سنتين في صحيفة «نيويورك تايمز» عن «اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانهيار». حقاً، كان ذلك التقرير قد أورد أن تونس «تعاني فشلاً اقتصادياً» بسبب سوء التسيير وتداعيات جائحة «كوفيد-19» والحرب الدائرة في أوكرانيا، التي ضاعفت حجم نفقات الدولة تحت عنوان تمويل وارداتها من المحروقات والحبوب، وحرمتها من مداخيل نحو مليون سائح روسي وأوكراني كانوا يزورون البلاد سنوياً.

ديون المؤسسات العمومية المفلسة

ويستدل الخبراء التونسيون والأجانب الذين يحذّرون من استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية بتقارير أصدرها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحذّرت بدورها من «تضخّم نسبة أجور العاملين في القطاع العمومي التي تبتلع نحو 18 في المائة من الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في العالم».

بل تزداد التحديات بالنسبة إلى السلطات بسبب بروز مثل هذه الإحصائيات في وقت تزايدت فيه احتجاجات النقابات على بعض القرارات «الموجعة» التي اتخذتها الحكومة، وبينها تجميد المفاوضات الاجتماعية حول زيادات الأجور ومنح التقاعد والتوظيف.

ولقد نبّهت المصادر نفسها أيضاً من تداعيات إخفاق الحكومات المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الـ15 الماضية في تسوية معضلة ديون الشركات العمومية المفلسة التي تكلف الدولة نحو 40 في المائة من الناتج المحلي، في حين تمثّل أعباء دعم المواد الغذائية والمحروقات ما بين 8 و10 في المائة منه. ويُضاف إلى ما سبق، أن الأوضاع تغدو «أكثر خطورة» -وفق المصادر ذاتها- بسبب معضلة عجز الميزان التجاري وتراجع قدرة الصادرات على تغطية الواردات، على الرغم من الضغط الكبير الذي تمارسه مؤسسات الحكومة والبنك المركزي على حركة التوريد، بما في ذلك بالنسبة إلى الأدوية وقطع الغيار والمواد الخام التي يستحقها المصنّعون والمستثمرون.

مخاطر وتحذيرات

في خضم ذلك، أعد الخبيران الاقتصاديان التونسيان حمزة المؤدّب وهاشمي علية، والخبير اللبناني إسحاق ديوان، تقريرَيْن لفائدة مؤسسة دولية عن «المخاطر الاقتصادية والسياسية الاجتماعية التي تهدّد تونس». واستخلص الخبراء الثلاثة أن «تونس تعيش منذ عام 2011 بما يتجاوز إمكاناتها».

إذ سجل هؤلاء الخبراء أن القروض والمساعدات الخارجية تدفّقت إلى البلاد بعد الانتفاضة الشبابية والشعبية عام 2011، «لدعم عملية الانتقال السياسي الديمقراطي»، وقدّرت تلك «المساعدات» بنحو 20 مليار دولار خلال العقد الماضي. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى تسبّب المليارات التي حصلت عليها الدولة بإحداث «طفرة استهلاكية غير مستدامة»، مقابل تراجع القدرة الإنتاجية للبلاد بسبب غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فكانت الحصيلة ازدياد إمكانية حدوث «انهيار مالي خطير».

ومن ثم، طالب الخبير الهاشمي علية ورفيقاه بـ«إصلاحات للنظام السياسي التونسي، كي يغدو قادراً على تفادي النتائج الكارثية لأزمة موروثة ازدادت تعقيداً وتفاقماً».

«الإصلاحات الموجعة»

في المقابل، يحذّر الخبير رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» من المخاطر التي تحفّ بـ«تطبيق تدابير إصلاحية قاسية وموجعة قد تؤدّي إلى اندلاع أزمة اجتماعية سياسية»، على الرغم من تحذيرات الخبراء الماليين التي تورد أن «التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات سيفضي على الأرجح إلى حدوث انهيار اقتصادي ومالي واضطرابات اجتماعية وأمنية في المستقبل القريب».

وفي السياق ذاته، يدعو الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، نور الدين الطبوبي، ورفاقه في القيادة النقابية العمالية إلى القطع مع سياسات «المماطلة وكسب الوقت»، وإلى تنظيم حوار وطني اجتماعي-اقتصادي-سياسي يسفر عن تعزيز «الثقة في مشروع وطني يُعدّ مقبولاً سياسياً، ويستطيع النهوض بالبلاد نحو مستقبلٍ واعد».

نور الدين الطبوبي (رويترز)

وضع صعب... ولكن

في هذه الأثناء، حذّر وزير التجارة التونسي السابق والخبير الاقتصادي، محسن حسن، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «الإفراط في تضخيم مؤشرات الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد»، غير أنه حثّ على الإقرار بوجود أزمة اقتصادية ومالية، وطنياً وقطاعياً، تحتاج إلى إجراءات فورية للإصلاح والتدارك، بما في ذلك في قطاعات الزراعة والتجارة والخدمات. ومن جهته، لفت الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رضا الشكندالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الكلام عن «انهيار» اقتصاد تونس «مبالغ فيه». ورأى أن تونس «ليست في مرحلة انهيار اقتصادي اجتماعي شامل، وإن كانت تعيش أزمة مالية تعمّقت مع تراجع الموارد المالية الخارجية، وتعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية التي تقرض بنسب فائض منخفضة نسبياً». ومع إقرار الشكندالي بأن «الوضع الاقتصادي متأزم وخطير»، فإنه نبه إلى ضرورة تجنّب «المبالغات» والبعد عن «التقييمات المتشائمة جداً التي تُوحي بقرب الوصول إلى حالة انهيار شامل».

تسديد الديونوسط هذه المناخات، نوّه الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال جلسة عمل جديدة مع محافظ البنك المركزي فتحي زهير النوري، بـ«نجاح الدولة في الإيفاء بالتزاماتها الدولية وتسديد معظم ديونها»، واعترض على «تضخيم» مشكلات البلاد والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تواجهها.

وأورد بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية بأنّ «تونس تمكّنت خلال يناير (كانون الثاني) الماضي من تسديد خدمة الدين العمومي بنسبة 40 في المائة من مجموع خدمة الدين العمومي المتوقعة لكامل عام 2025. ونجحت أيضاً في السيطرة على نسبة التضخم في حدود 6 في المائة بعدما كانت في العام السابق 7.8 في المائة. وتمكّنت من تحقيق استقرار ملحوظ لسعر صرف الدينار مقابل أبرز العملات الأجنبية في نهاية سنة 2024».

ومجدّداً، انتقد الرئيس سعيّد الخبراء الذين يطالبون بـ«الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والأطراف المانحة الدولية». وذكّر بأن تلك الشروط تسبّبت مراراً في اضطرابات اجتماعية وأمنية وسياسية وصدامات عنيفة مع النقابات والعاطلين عن العمل منذ سبعينات القرن الماضي.

كذلك، أصدر الرئيس التونسي أوامر إلى الحكومة والبنك المركزي بالمضي قدماً في سياسة «الاعتماد على الذات» و«الموارد الذاتية للتمويل»، والتحرر من «إملاءات» الصناديق الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني العالمية.

معضلة «التصنيفات» والقطيعة وهنا أثار الخبراء تقييمات متباينة لسياسة «القطيعة» مع صندوق النقد الدولية والمانحين، وأيضاً مع مؤسسات «التصنيف الائتماني» العالمية، وبينها وكالة «موديز» التي خفّضت تصنيف تونس خلال السنوات الماضية، مما أدّى إلى امتناع المانحين الدوليين التقليديين عن منح قروض للحكومة بنسب فائدة منخفضة بحجة غياب «ضمانات مالية وسياسية كافية».

ومع أن «موديز» حسّنت يوم 28 فبراير (شباط) الماضي نسبياً التصنيف الائتماني لتونس من «Caa2» إلى «Caa1»، فإنها أبقت على ملاحظاتها «السلبية». وحول هذه النقطة، رحّب الخبير بسام النيفر بالخطوة، وأورد أن عام 2024 كان عاماً قياسياً في سداد الديون الخارجية للدولة. وتوقع أن يكون عام 2027 عام «الانفراج الشامل».

إلا أن رضا الشكندالي يرى أنه على الرغم من هذا التحسّن في التصنيف فلا تزال تونس مصنّفة «دولة ذات مخاطر ائتمانية عالية جداً مع عجزها عن سداد الديون الخارجية قصيرة الأجل».

وأوضح أنه يلزمها التقدّم 6 درجات كاملة في تصنيف «موديز»، كي تخرج من المنطقة الحمراء، وهي «درجة المضاربة»، وحتى تحظى بثقة المستثمرين في السوق المالية الدولية. الحكومة والبنك المركزي يؤكدان أن الوضع تحت السيطرة

عاجل وسائل إعلام إسرائيلية: الهجوم الجوي استهدف اغتيال قيادات عسكرية وسياسية في حركة حماس