منذ تولي برونو روتايو مهامه الرسمية وزيراً للداخلية في فرنسا خلال سبتمبر 2024، بدأ نجمه يسطع بقوة في المشهد السياسي فارضاً نفسه كأحد أبرز شخصيات عهدة ماكرون الثانية. فقد ازداد نفوذه إلى درجة أنه ربط بقاءه في منصب وزير الداخلية بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه بشرط إطلاق يده لتنفيذ السياسة التي يريدها، وهو الوزير الوحيد الذي حظي بهذه المعاملة. وبالفعل، سجلت استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيته بعد سلسلة الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها للحدّ من الهجرة وخطابه الداعي إلى اتباع سياسة الحزم والصرامة. لكنه يواجه في الوقت عينه انتقادات شديدة من اليسار والمجتمع المدني، وحتى بعض الوسطيين، بسبب مواقفه المتشددة فيما يخصّ ملف الهجرة وتصريحاته المعادية للجزائر.
ولد برونو روتايو في إقليم الفنديه Vendee، بغرب فرنسا، في بلدة شوليه الصغيرة عام 1960. وهو شغوف بحياة الأرياف وركوب الخيل، ويقيم عدة مرات على مدار السنة في مزرعته الخاصة.
على الصعيد الشخصي، روتايو متزوج من طبيبة مدرسية ولديه 4 أطفال. وكان قد تلقى تعليمه الابتدائي في المدارس الكاثوليكية الخاصة، ثم في المعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» بباريس حيث تخصّص في الاقتصاد والإدارة. والحقيقة أن روتايو بدأ نشاطه السياسي وهو ابن الـ17 إلى جانب فيليب دو فيلييه، زعيم حزب «الحركة من أجل فرنسا»، وهو حزب ينتمي إلى تيار شعبوي يتسم بميل شديد إلى المحافظة الدينية المسيحية، ويرفع شعار الدفاع عن فرنسا التقليدية والتمسّك المتشدّد بالقيَم الوطنية والهوية السياسية والثقافية واللغوية.
ومن ثم، تسلّق الرجل المراتب حتى أصبح نائباً للرئيس دو فيلييه وذراعه الأيمن. وانتخب عدة مرات عضواً في المجلس العام لإقليم الفنديه، وعضواً في مجلس الشيوخ عن الإقليم عام 2004.
توجّه ليبرالي محافظ
بدايات برونو روتايو رسمت ملامح شخصيته السياسية الآيديولوجية؛ إذ إنه معروف بميوله الليبرالية اقتصادياً والمحافظة اجتماعياً سياسياً، فهو يؤيد رفع ساعات العمل وسن التقاعد مع تقليص عدد الموظفين في القطاع العام والحدّ من المساعدات الاجتماعية ونفقات الدولة، وفي الاتجاه ذاته يعارض أي زيادة ضريبية للأثرياء وأرباب العمل.
ثم كي تتكامل «ملامحه اليمينية»، يعدّ روتايو من أشدّ المعارضين لقانون زواج المثليين، وتسجيل حق الإجهاض في الدستور الفرنسي، وتشريع إجراءات القتل الرحيم عند المرضى وكبار السن. وأكثر من هذا، فهو يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»، التي كتب عنها الناشط السياسي رونو كامو وروّج لها ساسة من اليمين المتطرّف أمثال إيريك زمّور، وهي تهوّل بزعم «تعرّض أوروبا للغزو والتغيير الديموغرافي والديني من قبل المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم».
وبالفعل، جاء في صحيفة «شالانج» الفرنسية في موضوع بعنوان «روتايو أو الهَوَس بالهجرة» أن ما يخشاه وزير الداخلية «تغيّر وجه أوروبا من الإرث المسيحي - اليهودي إلى الإسلام بسبب تدفّق المهاجرين». وهو مؤمن، كما تزعم هذه النظرية، بأن المسلمين لا يستطيعون الاندماج في المجتمعات الغربية، بل سيفرضون ثقافتهم على الفرنسيين. ولذا، كما تضيف الصحيفة الفرنسية، فهو شبه مهووس بهذا الموضوع، على حساب إشكاليات أخرى مهمة كالأمن ومحاربة تجّار المخدرات. ثم إنه يأخذ هذا الموضوع بجدّية كبيرة... علماً بأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها شخص بهذه القناعات المتطرفة إلى منصب مهم في الحكومة.
الالتحاق باليمين الجمهوري
عام 2010 أعلن روتايو انفصاله عن حزب «الحركة من أجل فرنسا» لاختلافات جوهرية مع زعيم الحزب فيليب دو فيلييه. وبعد قرار الانفصال تبادل الاثنان سلسلة من الاتهامات تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية بإسهاب؛ إذ اتهم روتايو رئيسه السابق بإقصائه من مؤسسة «بوي دو فو للتراث والثقافة»، التي كان يديرها معه في إقليم الفنديه، وعرقلة تنصيبه كوزير في الحكومة. أما دو فيلييه فقد اتهم نائبه بالخيانة والتخلي عنه بعد مرضه، والتسبب بالمشاكل المادية التي لحقت بالحزب بعد هزيمته في الانتخابات.
وفي نهاية فبراير (شباط) 2012 التحق روتايو بحزب اليمين الجمهوري «الاتحاد من أجل حركة شعبية»؛ إذ أصبح عضواً في لجنة الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي وأميناً وطنياً للحزب مسؤولاً عن التنافسية والشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن ثم، انتُخب بالإجماع لقيادة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012، خلفاً للويس غيدون. وللعلم، كان روتايو مقرّباً من الوزير الأول السابق فرنسوا فيّون، ووقف إلى جانبه في «حرب» الزعامة التي شهدها حزب اليمين الجمهوري بين فيّون وساركوزي وجان فرنسوا كوبيه. كذلك سانده خلال مواجهته لملاحقات قضائية بسبب تهم التحايل على الأموال العامة أو ما سمي بقضية «بنيلوب غايت».
وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014 عاد روتايو إلى مقعده في مجلس الشيوخ مع عائلته السياسية الجديدة، حين انتخب ممثلاً عن إقليم الفنديه واحتفظ بمقعده حتى تاريخ دخوله حكومة بارنييه وزيراً للداخلية يوم 21 سبتمبر (أيلول) 2023 خلفاً لسابقه جيرالد درمانان.
الهجرة رأس الأولويات
الواقع أنه منذ تولي برونو روتايو منصب وزير الداخلية تجسّد توجهه اليميني المحافظ بقوة في تعامله مع مختلف الملفات، يتقدمها ملف الهجرة الذي يمسكه بقبضة من حديد تثير انتقاد اليسار وجمعيات مساعدة المهاجرين، وحتى بعض الوسطيين. ومنذ البداية كان هذا الملف أولوية لروتايو الذي وضع نصب أعينه هدفاً واحداً هو وقف الهجرة غير الشرعية... وأيضاً الشرعية. وبالفعل، بدأ يرسم أبعاد هذه السياسة أولاً عبر إعلانه عن قانون جديد للهجرة مع مطلع 2025 سرعان ما تحول إلى مجموعة من الإجراءات الأمنية بسبب ضغوط الوسط وانعدام لغالبية البرلمانية. أيضاً، كان تعهّد فور تسلّمه مهامه «ببذل كل ما في وسعه من أجل الحدّ من الهجرة»، قائلاً إن الهجرة «ليست فرصة لفرنسا، بل عبء عليها». وكانت أولى خطواته المطالبة بإعادة تفعيل قانون تجريم الهجرة غير الشرعية، الذي كانت فرنسا قد ألغته عام 2012 استناداً لتوصيات محكمة العدل الأوروبية التي تمنع معاقبة المهاجرين غير النظاميين باسم حقوق الإنسان. وهذا، بالإضافة إلى تمديد فترة الاحتجاز في المراكز إلى 7 أشهر بدل 3 وتعزيز عمليات التفتيش على الحدود، وإعرابه عن رغبته في تقليص الحقوق الاجتماعية للمهاجرين بهدف «تقليل الجاذبية» من خلال قطع المساعدات الطبية والقانونية والمساعدات الممنوحة لهم للحصول على سكن وغذاء وتنفيذ قرارات الترحيل. وفي خطابه السنوي أمام المحافظين يوم 8 أكتوبر ينوي التفاوض على توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول كمصر والعراق وكازاخستان والمغرب لاستقبال رعاياها المرحلّين من فرنسا. ثم إنه يريد تشديد إجراءات قانون لمّ الشمل الأسري الخاصة بالمهاجرين بإضافة شروط جديدة في الموارد والسكن والآجال المخصّصة لدراسة الملفات.
«حرب» روتايو على الهجرة طالت أيضاً الجمعيات التي تقدم للمهاجرين مساعدات؛ إذ يعتزم تقليص دورها وتكليف «المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج» بأداء دورها في مراكز الاحتجاز الإداري.العلمانية والحجاب الإسلامي
إضافة إلى ملف الهجرة، أعاد الوزير روتايو إلى الواجهة «إشكالية» العلمانية ومكانة الحريات الدينية في الفضاء العام، وبالأخص ممارسة المسلمين شعائرهم الدينية. وكان قد أثار جدلاً واسعاً بمناسبة إحياء فرنسا للذكرى العاشرة للهجوم على جريدة «شارلي إبدو» حين أعلن أنه سيتقدّم بمشروع قانون لمنع ارتداء الحجاب للأمهات المرافقات في الرحلات المدرسية وللطالبات الجامعيات؛ إذ رأى امتداداً لنشاط المدارس، وبالتالي يطبق عليها القانون الذي يعتبر الحجاب «رمزاً للإسلاموية المتشدّدة وعلامة على خضوع النساء للرجال»، كما يربطه بـ«الإسلام السياسي» الذي ادعى أنه «يشكل تهديداً للأمة ووسيلة من وسائل الإطاحة بمؤسسات الدولة». وهنا نشير إلى أن فرص تطبيق قانون كهذا ضئيلة جداً، فكتلة الوسط - بما فيها رئيس الوزراء فرانسوا بايرو - والرئيس ماكرون نفسه ضد هذه الفكرة، كما أن «مجلس الدولة» (الهيئة العليا التي تنظر في شرعية المراسيم الإدارية) سبق أن أقّر بأن ارتداء الحجاب مسألة حرية شخصية ما دامت لا تدخل في نطاق العمل في مؤسسات الدولة ولا تمس بقانون العلمانية.
انتقادات بالجملة
من جهة أخرى، أثار روتايو منذ توليه وزارة الداخلية انتقادات عدة أطراف أبرزها الأوساط اليسارية والجمعيات الخيرية لمواقفه الموالية لليمين المتطرّف وتصريحاته المثيرة للجدل. وبعد الإجراءات التي أعلنها في الأيام الأخيرة للحد من الهجرة، أعربت فانيلي كاري-كونت، الأمينة العامة لجمعية «لا سيماد» التي تهتم بشؤون المهاجرين واللاجئين، عن أسفها لكلامه معتبرة أن «التصعيد القمعي سيقودنا إلى طريق مسدود». أما الشخصيات السياسية المنتمية لليسار فهي لا ترى فرقاً بين السياسة التي يتبعها وزير الداخلية وسياسات اليمين المتطرّف المبنية على توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية كل المشاكل. وهنا انتقدت النائبة ماتيلد بانو، رئيسة كتلة «فرنسا الأبية» اليسارية، كلام الوزير أثناء زيارته التفقدية لجزيرة مايوت (في أرخبيل القُمُر) حين قال إن «وضع الجزيرة سيئ بسبب الهجرة غير الشرعية»، فردت في موقعها على منصّة «إكس» كاتبة: «كنا ننتظر من وزير الداخلية حلولاً لمشاكل مايوت لا استعراضاً لوجهات نظره العنصرية». شخصيات كثيرة من حزب «فرنسا الأبية» انتقدت أيضاً الطريقة التي يعتمدها روتايو في تأجيج التصعيد ومحاولة فرض المواجهة مع الجزائر. وأشار بيان للحزب إلى أن بعض القادة الفرنسيين «يتبعون منطقاً عبثياً» للانتقام من الجزائر ويستخدمون مفردات حربية غير مقبولة إطلاقاً، في إشارة واضحة إلى وزير الداخلية.
يمين ضد يمينفي المقابل، لئن كان روتايو يراه كثيرون من «اليمين المتطرف»، فإنه يثير أيضاً حفيظة هذا اليمين الذي يراه منافساً من العيار الثقيل، وبخاصة أنه نجح أخيراً في خطف الأضواء بعدما ركّز في خطابه السياسي على إشكاليات الهجرة والأمن، وبذا ارتفعت شعبيته لدى ناخبي حزب «التجمع الوطني» وبات ينافس زعماءه. وفي حوار مع صحيفة «لو جي ديدي»، تعمّد جوردان برديلا، رئيس «التجمع الوطني»، التقليل من أهمية روتايو حين وصفه بـ«السياسي المراوغ الذي لا يفي بوعوده ويتكلم أكثر مما يفعل...».
ثم إن بعض التقارير تفيد أيضاً بتوتر العلاقات داخل العائلة السياسية للوزير روتايو بين الفريق المؤيد لترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2027 والفريق الذي يساند لوران فوكييه، رئيس «كتلة الجمهوريين» في الجمعية الوطنية، الذي أعلن أنه يحضّر نفسه لخوض الانتخابات في 2027.