برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

وزير الداخلية المحافظ يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»

برونو روتايو
برونو روتايو
TT

برونو روتايو... السياسي الفرنسي اليميني الذي أعلن الحرب على الهجرة

برونو روتايو
برونو روتايو

منذ تولي برونو روتايو مهامه الرسمية وزيراً للداخلية في فرنسا خلال سبتمبر 2024، بدأ نجمه يسطع بقوة في المشهد السياسي فارضاً نفسه كأحد أبرز شخصيات عهدة ماكرون الثانية. فقد ازداد نفوذه إلى درجة أنه ربط بقاءه في منصب وزير الداخلية بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه بشرط إطلاق يده لتنفيذ السياسة التي يريدها، وهو الوزير الوحيد الذي حظي بهذه المعاملة. وبالفعل، سجلت استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيته بعد سلسلة الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها للحدّ من الهجرة وخطابه الداعي إلى اتباع سياسة الحزم والصرامة. لكنه يواجه في الوقت عينه انتقادات شديدة من اليسار والمجتمع المدني، وحتى بعض الوسطيين، بسبب مواقفه المتشددة فيما يخصّ ملف الهجرة وتصريحاته المعادية للجزائر.

ولد برونو روتايو في إقليم الفنديه Vendee، بغرب فرنسا، في بلدة شوليه الصغيرة عام 1960. وهو شغوف بحياة الأرياف وركوب الخيل، ويقيم عدة مرات على مدار السنة في مزرعته الخاصة.

على الصعيد الشخصي، روتايو متزوج من طبيبة مدرسية ولديه 4 أطفال. وكان قد تلقى تعليمه الابتدائي في المدارس الكاثوليكية الخاصة، ثم في المعهد العالي للعلوم السياسية «سيانس بو» بباريس حيث تخصّص في الاقتصاد والإدارة. والحقيقة أن روتايو بدأ نشاطه السياسي وهو ابن الـ17 إلى جانب فيليب دو فيلييه، زعيم حزب «الحركة من أجل فرنسا»، وهو حزب ينتمي إلى تيار شعبوي يتسم بميل شديد إلى المحافظة الدينية المسيحية، ويرفع شعار الدفاع عن فرنسا التقليدية والتمسّك المتشدّد بالقيَم الوطنية والهوية السياسية والثقافية واللغوية.

ومن ثم، تسلّق الرجل المراتب حتى أصبح نائباً للرئيس دو فيلييه وذراعه الأيمن. وانتخب عدة مرات عضواً في المجلس العام لإقليم الفنديه، وعضواً في مجلس الشيوخ عن الإقليم عام 2004.

توجّه ليبرالي محافظ

بدايات برونو روتايو رسمت ملامح شخصيته السياسية الآيديولوجية؛ إذ إنه معروف بميوله الليبرالية اقتصادياً والمحافظة اجتماعياً سياسياً، فهو يؤيد رفع ساعات العمل وسن التقاعد مع تقليص عدد الموظفين في القطاع العام والحدّ من المساعدات الاجتماعية ونفقات الدولة، وفي الاتجاه ذاته يعارض أي زيادة ضريبية للأثرياء وأرباب العمل.

ثم كي تتكامل «ملامحه اليمينية»، يعدّ روتايو من أشدّ المعارضين لقانون زواج المثليين، وتسجيل حق الإجهاض في الدستور الفرنسي، وتشريع إجراءات القتل الرحيم عند المرضى وكبار السن. وأكثر من هذا، فهو يؤمن بنظرية «الاستبدال العظيم»، التي كتب عنها الناشط السياسي رونو كامو وروّج لها ساسة من اليمين المتطرّف أمثال إيريك زمّور، وهي تهوّل بزعم «تعرّض أوروبا للغزو والتغيير الديموغرافي والديني من قبل المهاجرين وخصوصاً المسلمين منهم».

وبالفعل، جاء في صحيفة «شالانج» الفرنسية في موضوع بعنوان «روتايو أو الهَوَس بالهجرة» أن ما يخشاه وزير الداخلية «تغيّر وجه أوروبا من الإرث المسيحي - اليهودي إلى الإسلام بسبب تدفّق المهاجرين». وهو مؤمن، كما تزعم هذه النظرية، بأن المسلمين لا يستطيعون الاندماج في المجتمعات الغربية، بل سيفرضون ثقافتهم على الفرنسيين. ولذا، كما تضيف الصحيفة الفرنسية، فهو شبه مهووس بهذا الموضوع، على حساب إشكاليات أخرى مهمة كالأمن ومحاربة تجّار المخدرات. ثم إنه يأخذ هذا الموضوع بجدّية كبيرة... علماً بأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها شخص بهذه القناعات المتطرفة إلى منصب مهم في الحكومة.

الالتحاق باليمين الجمهوري

عام 2010 أعلن روتايو انفصاله عن حزب «الحركة من أجل فرنسا» لاختلافات جوهرية مع زعيم الحزب فيليب دو فيلييه. وبعد قرار الانفصال تبادل الاثنان سلسلة من الاتهامات تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية بإسهاب؛ إذ اتهم روتايو رئيسه السابق بإقصائه من مؤسسة «بوي دو فو للتراث والثقافة»، التي كان يديرها معه في إقليم الفنديه، وعرقلة تنصيبه كوزير في الحكومة. أما دو فيلييه فقد اتهم نائبه بالخيانة والتخلي عنه بعد مرضه، والتسبب بالمشاكل المادية التي لحقت بالحزب بعد هزيمته في الانتخابات.

وفي نهاية فبراير (شباط) 2012 التحق روتايو بحزب اليمين الجمهوري «الاتحاد من أجل حركة شعبية»؛ إذ أصبح عضواً في لجنة الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي وأميناً وطنياً للحزب مسؤولاً عن التنافسية والشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن ثم، انتُخب بالإجماع لقيادة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» في 21 ديسمبر (كانون الأول) 2012، خلفاً للويس غيدون. وللعلم، كان روتايو مقرّباً من الوزير الأول السابق فرنسوا فيّون، ووقف إلى جانبه في «حرب» الزعامة التي شهدها حزب اليمين الجمهوري بين فيّون وساركوزي وجان فرنسوا كوبيه. كذلك سانده خلال مواجهته لملاحقات قضائية بسبب تهم التحايل على الأموال العامة أو ما سمي بقضية «بنيلوب غايت».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014 عاد روتايو إلى مقعده في مجلس الشيوخ مع عائلته السياسية الجديدة، حين انتخب ممثلاً عن إقليم الفنديه واحتفظ بمقعده حتى تاريخ دخوله حكومة بارنييه وزيراً للداخلية يوم 21 سبتمبر (أيلول) 2023 خلفاً لسابقه جيرالد درمانان.

الهجرة رأس الأولويات

الواقع أنه منذ تولي برونو روتايو منصب وزير الداخلية تجسّد توجهه اليميني المحافظ بقوة في تعامله مع مختلف الملفات، يتقدمها ملف الهجرة الذي يمسكه بقبضة من حديد تثير انتقاد اليسار وجمعيات مساعدة المهاجرين، وحتى بعض الوسطيين. ومنذ البداية كان هذا الملف أولوية لروتايو الذي وضع نصب أعينه هدفاً واحداً هو وقف الهجرة غير الشرعية... وأيضاً الشرعية. وبالفعل، بدأ يرسم أبعاد هذه السياسة أولاً عبر إعلانه عن قانون جديد للهجرة مع مطلع 2025 سرعان ما تحول إلى مجموعة من الإجراءات الأمنية بسبب ضغوط الوسط وانعدام لغالبية البرلمانية. أيضاً، كان تعهّد فور تسلّمه مهامه «ببذل كل ما في وسعه من أجل الحدّ من الهجرة»، قائلاً إن الهجرة «ليست فرصة لفرنسا، بل عبء عليها». وكانت أولى خطواته المطالبة بإعادة تفعيل قانون تجريم الهجرة غير الشرعية، الذي كانت فرنسا قد ألغته عام 2012 استناداً لتوصيات محكمة العدل الأوروبية التي تمنع معاقبة المهاجرين غير النظاميين باسم حقوق الإنسان. وهذا، بالإضافة إلى تمديد فترة الاحتجاز في المراكز إلى 7 أشهر بدل 3 وتعزيز عمليات التفتيش على الحدود، وإعرابه عن رغبته في تقليص الحقوق الاجتماعية للمهاجرين بهدف «تقليل الجاذبية» من خلال قطع المساعدات الطبية والقانونية والمساعدات الممنوحة لهم للحصول على سكن وغذاء وتنفيذ قرارات الترحيل. وفي خطابه السنوي أمام المحافظين يوم 8 أكتوبر ينوي التفاوض على توقيع اتفاقيات ثنائية مع دول كمصر والعراق وكازاخستان والمغرب لاستقبال رعاياها المرحلّين من فرنسا. ثم إنه يريد تشديد إجراءات قانون لمّ الشمل الأسري الخاصة بالمهاجرين بإضافة شروط جديدة في الموارد والسكن والآجال المخصّصة لدراسة الملفات.

«حرب» روتايو على الهجرة طالت أيضاً الجمعيات التي تقدم للمهاجرين مساعدات؛ إذ يعتزم تقليص دورها وتكليف «المكتب الفرنسي للهجرة والإدماج» بأداء دورها في مراكز الاحتجاز الإداري.العلمانية والحجاب الإسلامي

إضافة إلى ملف الهجرة، أعاد الوزير روتايو إلى الواجهة «إشكالية» العلمانية ومكانة الحريات الدينية في الفضاء العام، وبالأخص ممارسة المسلمين شعائرهم الدينية. وكان قد أثار جدلاً واسعاً بمناسبة إحياء فرنسا للذكرى العاشرة للهجوم على جريدة «شارلي إبدو» حين أعلن أنه سيتقدّم بمشروع قانون لمنع ارتداء الحجاب للأمهات المرافقات في الرحلات المدرسية وللطالبات الجامعيات؛ إذ رأى امتداداً لنشاط المدارس، وبالتالي يطبق عليها القانون الذي يعتبر الحجاب «رمزاً للإسلاموية المتشدّدة وعلامة على خضوع النساء للرجال»، كما يربطه بـ«الإسلام السياسي» الذي ادعى أنه «يشكل تهديداً للأمة ووسيلة من وسائل الإطاحة بمؤسسات الدولة». وهنا نشير إلى أن فرص تطبيق قانون كهذا ضئيلة جداً، فكتلة الوسط - بما فيها رئيس الوزراء فرانسوا بايرو - والرئيس ماكرون نفسه ضد هذه الفكرة، كما أن «مجلس الدولة» (الهيئة العليا التي تنظر في شرعية المراسيم الإدارية) سبق أن أقّر بأن ارتداء الحجاب مسألة حرية شخصية ما دامت لا تدخل في نطاق العمل في مؤسسات الدولة ولا تمس بقانون العلمانية.

انتقادات بالجملة

من جهة أخرى، أثار روتايو منذ توليه وزارة الداخلية انتقادات عدة أطراف أبرزها الأوساط اليسارية والجمعيات الخيرية لمواقفه الموالية لليمين المتطرّف وتصريحاته المثيرة للجدل. وبعد الإجراءات التي أعلنها في الأيام الأخيرة للحد من الهجرة، أعربت فانيلي كاري-كونت، الأمينة العامة لجمعية «لا سيماد» التي تهتم بشؤون المهاجرين واللاجئين، عن أسفها لكلامه معتبرة أن «التصعيد القمعي سيقودنا إلى طريق مسدود». أما الشخصيات السياسية المنتمية لليسار فهي لا ترى فرقاً بين السياسة التي يتبعها وزير الداخلية وسياسات اليمين المتطرّف المبنية على توجيه أصابع الاتهام إلى المهاجرين، وتحميلهم مسؤولية كل المشاكل. وهنا انتقدت النائبة ماتيلد بانو، رئيسة كتلة «فرنسا الأبية» اليسارية، كلام الوزير أثناء زيارته التفقدية لجزيرة مايوت (في أرخبيل القُمُر) حين قال إن «وضع الجزيرة سيئ بسبب الهجرة غير الشرعية»، فردت في موقعها على منصّة «إكس» كاتبة: «كنا ننتظر من وزير الداخلية حلولاً لمشاكل مايوت لا استعراضاً لوجهات نظره العنصرية». شخصيات كثيرة من حزب «فرنسا الأبية» انتقدت أيضاً الطريقة التي يعتمدها روتايو في تأجيج التصعيد ومحاولة فرض المواجهة مع الجزائر. وأشار بيان للحزب إلى أن بعض القادة الفرنسيين «يتبعون منطقاً عبثياً» للانتقام من الجزائر ويستخدمون مفردات حربية غير مقبولة إطلاقاً، في إشارة واضحة إلى وزير الداخلية.

يمين ضد يمينفي المقابل، لئن كان روتايو يراه كثيرون من «اليمين المتطرف»، فإنه يثير أيضاً حفيظة هذا اليمين الذي يراه منافساً من العيار الثقيل، وبخاصة أنه نجح أخيراً في خطف الأضواء بعدما ركّز في خطابه السياسي على إشكاليات الهجرة والأمن، وبذا ارتفعت شعبيته لدى ناخبي حزب «التجمع الوطني» وبات ينافس زعماءه. وفي حوار مع صحيفة «لو جي ديدي»، تعمّد جوردان برديلا، رئيس «التجمع الوطني»، التقليل من أهمية روتايو حين وصفه بـ«السياسي المراوغ الذي لا يفي بوعوده ويتكلم أكثر مما يفعل...».

ثم إن بعض التقارير تفيد أيضاً بتوتر العلاقات داخل العائلة السياسية للوزير روتايو بين الفريق المؤيد لترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2027 والفريق الذي يساند لوران فوكييه، رئيس «كتلة الجمهوريين» في الجمعية الوطنية، الذي أعلن أنه يحضّر نفسه لخوض الانتخابات في 2027.


مقالات ذات صلة

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

حصاد الأسبوع بوتين جاهز للقاء ترمب (آ ف ب)

موسكو تعوّل على «إعادة ترتيب» أوروبا

> غياب الانتقادات المباشرة في روسيا لأي خطوة يقوم بها الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب لا يعكس فقط رغبة الكرملين في التريث لحين إطلاق الحوار المباشر ووضع.

حصاد الأسبوع هربرت كيكل

هربرت كيكل... زعيم اليمين النمساوي المتطرف ينتظر فرصته لإحداث تغييرات سياسية جذرية

لا يحمل تاريخ نشأة هيربرت كيكل المكلّف تشكيل الحكومة العتيدة في النمسا، ارتباطاً باليمين المتطرف أو النازية، كأسلافه الذين قادوا حزب الحرية قبله. ولكن مع هذا قد يكون الزعيم الأكثر تطرفاً الذي ترأس الحزب خلال العقود الأخيرة. ذلك أن كيكل غالباً ما يكرر تعابير استخدمها النازيون، ومنذ تكليفه تشكيل الحكومة مطلع العام، بدأ يلقب نفسه بـ«مستشار الشعب»، وهو اللقب الذي كان يستخدمه هتلر لوصف نفسه. وبالتالي، في حال نجح كيكل بتشكيل الحكومة، سيكون المستشار الأول للنمسا الذي ينتمي إلى حزب متطرف أسسه عام 1955 أعضاء في «قوات الأمن الخاصة النازية» المعروفة اختصاراً بالـ«إس إس». الحزب اليوم معادٍ للاتحاد الأوروبي ومقرّب من روسيا، ومع أنه شارك في حكومات ائتلافية نمساوية في السابق، إلا أنه لم يقُد أياً منها بعد. وراهناً، رغم تكليف كيكل - بعدما تصدّر حزبه انتخابات سبتمبر (أيلول) الماضي بحصده نسبة 29 في المائة من الأصوات، ما زال من غير الواضح ما إذا كان سينجح فعلاً بالمهمة الموكلة إليه «اضطراراً». فالرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن فضّل بدايةً تكليف زعيم حزب الشعب (محافظ)، الذي حل ثانياً بنسبة 26 في المائة من الأصوات، تشكيل الحكومة، مع أن في هذا مخالفة للأعراف. وبرّر الرئيس قراره يومذاك بأن كل الأحزاب الأخرى ترفض التحالف مع حزب الحرية من دون تحييد كيكل. وبالفعل، اشترط حزب الشعب تنازل كيكل عن قيادة الحكومة شرطاً للتفاوض معه، وهو ما رفضه الأخير. بيد أن زعيم حزب الشعب كارل نيهامر أخفق بتشكيل حكومة ثلاثية الأطراف مع حزبين آخرين، فاستقال من زعامة حزبه، وبالتالي، عادت الكرة إلى ملعب كيكل.

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شتراخه (رويترز)

حزب الحرية النمساوي المتطرف... لمحة تاريخية وسياسية

أُسس حزب الحرية النمساوي عام 1956، وكان زعيمه الأول، أنتون راينتالرو، ضابطاً سابقاً في قوات الأمن الخاصة النازية. لكن، رغم ذلك، تجنّب الحزب في بداياته الترويج.

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع قناة بنما (آ ب)

ترمب يسجّل «انتصارات» سريعة في القارة الأميركية... ويستغلها ضد خصومه في الداخل

منذ وصول دونالد ترمب للمرة الأولى إلى البيت الأبيض، تبيّن أن استحالة التنبؤ بقراراته وخطواته هي من أمضى الأسلحة في ترسانته الدبلوماسية، وأن فاعلية التهديدات التي يطلقها في كل الجهات وعلى جميع الجبهات تكمن في كونها قابلة للتنفيذ فوراً. لكن، بينما بقيت تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية على الصين وأوروبا إبان ولايته الأولى مجرّد تصريحات لم تبلغ أبداً مرحلة التنفيذ، اختلف الأمر هذه المرة. فمنذ بداية هذه الولاية الثانية وصلت دبلوماسية الابتزاز التي انتهجها الرئيس الأميركي العائد إلى أبعد الحدود الممكنة، واستطاع خلال أقل من أسبوعين أن يحصل على تنازلات من المكسيك وكندا وكولومبيا وبنما وفنزويلا، غير آبه بالاضطرابات والخضّات التي أحدثتها في الأسواق المالية والاقتصادية هذه الحرب التجارية التي أطلقها، والتي وصفتها صحيفة «وول ستريت جورنال» بأنها الأكثر حُمقاً في التاريخ.

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جبل راشمور (آ ف ب)

كولومبيا وفنزويلا والإكوادور نماذج لتعامل واشنطن الجديد مع أنظمة أميركا الجنوبية

>على صعيد دول النصف الجنوبي من القارة الأميركية، يرى مراقبون أن الجولة الأولى من «حرب» دونالد ترمب المفتوحة على كل الجبهات، التي يرى كثيرون أن ترمب كسبها بالضرب


خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»