عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19 سنة إلى السواحل الإسبانية على متن زورق صغير، ضمن مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين، ومن أم كانت غادرت مسقط رأسها في غينيا الاستوائية بعده بسنة واحدة. وكان النجم الآخر نيكولاس وليامز، الذي سجّل أول هدفي النصر الحاسم في المباراة النهائية من أبوين مهاجرين من غانا، وكلاهما شابان في مقتبل العمر. وفي أواخر الشهر الماضي، وفي ختام جولة أفريقية هدفت إلى تفعيل برامج التعاون والمساعدة التي أطلقتها إسبانيا مع عدد من البلدان «المصدّرة» للهجرة وتلك التي يعبرها المهاجرون في اتجاه أوروبا، قال رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز في العاصمة السنغالية داكار: «إن معالجة الهجرة في إسبانيا مسألة مبادئ أخلاقية، وتضامن وكرامة، لكنها أيضاً مسألة تعقّل ومنطق». وأضاف: «إن المهاجرين يساهمون بشكل أساسي في الاقتصاد الوطني وفي دعم نظام الضمان الاجتماعي، والهجرة بالنسبة لإسبانيا هي ثروة وتنمية ورفاه».
المشهد غير المألوف في تاريخ الرياضة الإسبانية، كما هذا التحول العميق في العلاقات الإسبانية الأفريقية، انعكاس مباشر لما تؤكده الأرقام والإحصاءات التي باتت تفرض على الخطاب السياسي والاجتماعي الاعتراف بأن السكان الذين يتحدّرون من أصول أجنبية باتوا يشكلون جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية.
الحكومة الإسبانية تفاخر راهناً، بعكس معظم حكومات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بالنتائج التي حقّقتها سياسة استيعاب المهاجرين ودمجهم في المجتمع الإسباني: 12 في المائة من المنتسبين إلى نظام الضمان الاجتماعي هم من الأجانب، وتتراوح أعمار 60 في المائة منهم بين 18 و23 سنة، وهي نسبة أعلى كثيراً من نسبة الإسبان أنفسهم. ومنذ عام 2021 تمكّن 300 ألف مهاجر غير شرعي من تسوية أوضاعهم القانونية، لأن غالبية الذين دخلوا إسبانيا في السنوات الأخيرة المنصرمة فعلوا ذلك عبر الطرق الشرعية بسبب عدم وجود قنوات قانونية لدخولهم، أو لكثرة العراقيل والتعقيدات التي تحول دون ذلك.
إسبانيا في الصدارة
ثم إنه خلال العام الماضي، تصدّرت إسبانيا ترتيب بلدان الاتحاد الأوروبي من حيث نسبة ارتفاع عدد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إليها، التي بلغت 126 في المائة، وذلك نظراً لتزايد إقبال المهاجرين على سلوك «المسار الأطلسي»، رغم خطورته، نتيجة الاضطرابات التي تشهدها دول منطقة الساحل منذ سنوات. وهذه الاضطرابات تدفع بالآلاف للعبور إلى موريتانيا التي تنطلق من شواطئها موجات المهاجرين باتجاه الجزر الكنارية. وللمرة الأولى منذ بداية أزمة الهجرة الشرعية، صار المهاجرون من مالي هم الأكثر عدداً بين الذين يصلون بطريقة غير شرعية إلى الشواطئ الإسبانية، ما يدلّ على أن الحروب الحالية هي التي تتولّد منها تدفقات المهاجرين اليائسين.
أما اللافت فهو أن نسبة عالية من المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى إسبانيا منذ سنوات هم من القاصرين، الأمر الذي جعل أمر استيعابهم وتوزيعهم على مختلف المناطق تحدياً لوجستياً كبيراً بالنسبة للسلطات المحلية، ناهيك أنه يؤجّج الخطاب السياسي الذي صار شعار القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة التي تشهد شعبيتها ارتفاعاً مطرداً منذ سنوات.
التعددية العرقية تتزايد
لكن رغم المشاهد المأساوية التي ترافق عادة رحلات العبور على الطرق الخطرة التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيين، لا تزال نسبة هؤلاء أقل كثيراً من نسبة المهاجرين الذين يدخلون إسبانيا بطريقة شرعية، والذين جعلوا من إسبانيا بلداً تتزايد فيه تعدّدية الأعراق، حيث إن 18 في المائة من سكانها اليوم أبصروا النور خارج حدودها.
وتفيد أحدث الدراسات أن هذا الازدياد في عدد المهاجرين هو الذي حال دون تراجع العدد الإجمالي للسكان في إسبانيا، خلافاً لمعظم الدول الأوروبية التي ينخفض فيها التعداد السكاني منذ سنوات، علماً بأن 23 في المائة من القاصرين اليوم هم من آباء أو أمهات أجانب. أيضاً، يشكّل المهاجرون حالياً قوة عاملة يستحيل على السوق الإسبانية الاستغناء عنها، إذ بلغت نسبة فرص العمل التي تولّاها الأجانب في النصف الأول من هذه السنة 40 في المائة، استناداً إلى سجلات وزارة العمل، في حين يشكّل المهاجرون 13.6 في المائة من القوة العاملة.
كذلك، تفيد دراسة أعدّها المصرف المركزي الإسباني أن نسبة نشاط المهاجرين هي الأعلى في بلدان الاتحاد الأوروبي، إذ بلغت 78 في المائة في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، ويؤكد الخبراء أن الاقتصاد الإسباني معرّض للانهيار من غير مساهمة المهاجرين. وتبيّن هذا الدراسة، بالأرقام، أن المهاجرين كانوا عنصراً اساسياً للوصول إلى مستوى الرفاه الذي بلغته البلاد خلال العقدين المنصرمين، وأن بقاءهم ضروري للحفاظ على هذا المستوى. وأيضاً ظهر أن ضمان استمرار المعادلة الراهنة بين عدد العاملين والمتقاعدين في عام 2053 يقتضي وجود 24 مليون مهاجر، وأن تجاهل هذه الحقائق ضربٌ من العبث وانعدام المسؤولية تجاه الأجيال القادمة.
تلاقي مصالح بين اليسار واليمين
ليس مستغرباً في ضوء هذا الواقع أن مواقف منظمة أصحاب العمل الإسبانية، المعروفة بميولها اليمينية والمحافظة تقليدياً، تدعم سياسة الحكومة الاشتراكية التي تنهال عليها نيران المعارضة المحافظة واليمينية المتطرفة. وهذا ما دفع رئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانتشيز للقيام بجولته الأفريقية الثانية في أقل من 6 أشهر، إذ زار كلاً من موريتانيا وغامبيا والسنغال، ووقّع هناك اتفاقات ضمن استراتيجية «الهجرة الدائرية» التي أطلقها، والتي تشمل برامج تأهيل مهني في بلدان المصدر لمواطنيها، تمكّنهم من العمل في إسبانيا بصورة مؤقتة، وخاصة القطاع الزراعي، الذي يعتمد بنسبة عالية على اليد العاملة الأجنبية الرخيصة كالحال في إيطاليا وفرنسا.
وتفيد بيانات وزارة الضمان الاجتماعي الإسبانية أن ما يزيد عن 20 ألف مهاجر تمكّنوا من العمل في البلاد تحت مظلة هذه البرامج، علماً أن معظمهم من التابعية المغربية أو الأميركية اللاتينية. وينصّ البيان المشترك، الذي صَدر عن المباحثات التي أجراها سانتشيز مع الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، أن الهدف من هذه البرامج هو أن تكون الهجرة آمنة ومنظمة وشرعية بين بلديهما، ضمن إطار الهجرة الدائرية الرائدة في أوروبا، مع التركيز بشكل خاص على الشباب والنساء.
غير أن المسؤولين الإسبان يعترفون، في المقابل، بأن هذه البرامج تحتاج إلى بعض الوقت قبل تنفيذها مشفوعة بدورات تأهيلية وعروض للعمل. وبالتالي، سيكون من الصعب جداً أن تتمكن من احتواء المدّ المتوقع للقوارب الحاملة مهاجرين غير شرعيين هذا الخريف عندما تتحسّن ظروف البحر قبالة سواحل جزر الكناري. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه منذ مطلع هذا العام حتى منتصف الشهر الماضي، وصل إلى تلك السواحل ما يزيد عن 22 ألف مهاجر غير شرعي، أي أكثر من ضعف الذين وصلوا خلال الفترة نفسها من العام الفائت. وللعلم، فإن المسارات الجديدة للهجرة الشرعية لن تكون كافية لتغطية احتياجات السوق الإسبانية التي تقدّرها المصادر الحكومة بما يزيد عن ربع مليون عامل سنوياً.
الهجرة غير الشرعية
من جهة ثانية، إلى جانب استراتيجية الهجرة الدائرية، تسعى إسبانيا أيضاً إلى التصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية التي باتت تشكل الطبق الرئيس على مائدة النقاش السياسي في معظم بلدان الاتحاد الأوروبي، والعامل الأساسي الذي سيحدّد معالم المشهد السياسي في السنوات المقبلة. وراهناً، تسعى مدريد إلى دفع عجلة التنمية الاقتصادية في «بلدان المصدر والعبور»، عن طريق برامج طموحة، مثل الذي وُقّعت في فبراير (شباط) الماضي بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، أثناء الزيارة التي قام بها سانتشيز إلى موريتانيا، رفقة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين، وتتضمن مساعدات بقيمة نصف مليار دولار أميركي. ومن المقرر أن يساهم البنك الدولي في برنامج آخر للتنمية الاقتصادية في السنغال، إلى جانب المفوضية الأوروبية والحكومة الإسبانية.
وبعد حزمة الاتفاقات الثنائية الموقعة بين إسبانيا والمغرب لوقف تدفقات الهجرة غير الشرعية، تسعى مدريد أن تكون موريتانيا المنصة الأساسية التي تنطلق منها هذه الاستراتيجية الجديدة في العمق الأفريقي، خاصة في بلدان الساحل التي تحولت إلى مصدر رئيسي لهذه الهجرة بعد الاضطرابات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة الساحل في السنوات الأخيرة، وانكفاء الدول الغربية عنها في أعقاب الانقلابات التي توالت عليها وفتحت الباب أمام التغلغل العسكري الروسي وتزايد العمليات الإرهابية فيها. وبالفعل، سبّبت هذه الاضطرابات أزمة إنسانية كبيرة في موريتانيا، التي تضم حالياً زهاء 200 ألف لاجئ على حدودها مع مالي، وفقاً لبيانات منظمة الهجرة العالمية.
الواقع أن موريتانيا هي الآن إحدى «واحات» الاستقرار القليلة في وسط ضخامة «صحراء» الاهتزازات السياسية والأمنية. وهذا العامل جعل موريتانيا شريكاً مميزاً للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي الذي قرر خلال قمته الأخيرة في واشنطن رصد مساعدات مالية لتجهيز القوات المسلحة الموريتانية وتدريبها على مواجهة الحركات المتطرفة والإرهابية الناشطة في البلدان المجاورة. وتقول الأوساط الحكومية، التي حاورتها «الشرق الأوسط»، إن مقاربة سياسة الهجرة والمعضلات الناشئة عنها من القضايا الحيوية التي ينبغي التوافق حولها بين جميع المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ثم إن ظاهرة الهجرة «واقعٌ ينبغي التعاطي معه بعقلانية، وليس مشكلة تتنافس الأحزاب السياسية على كيفية حلها أو معالجتها». وتضيف هذه الأوساط: «إن الخطاب السياسي، الذي يطرح حلولاً أو علاجات لظاهرة الهجرة، يغفل حقيقة أن السكان الأجانب باتوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والاقتصاد والثقافة في إسبانيا، وأنهم يشكّلون مصدراً هاماً للمواهب والمعارف واليد العاملة».وختاماً، تقرّ إيلما سايز، وزيرة الضمان الاجتماعي الإسبانية، بأن الهجرة غدت تحدياً مشتركاً لجميع البلدان المتطورة، وأحد العوامل التي ستحدد معالم مجتمعات هذه الدول في السنوات المقبلة. وتتابع: «التصدي لظاهرة الهجرة كان المحور الرئيس الذي دارت حوله معظم الحملات الانتخابية أخيراً في بلدان الاتحاد، بما فيها حملة انتخابات البرلمان الأوروبي... لكن جميع المجتمعات التي تسعى منذ سنوات لإيجاد حل شامل ونهائي لها فشلت في مساعيها، وهو ما يدلّ على أنه لا حل لها. وعليه، لا بد من التعايش معها باستيعابها والاستفادة منها».
نسبة عالية من المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى إسبانيا من القاصرين
الهجرة منبر مزايدات... ومصنع لليمين المتطرف
على الرغم من كل الدلائل والقرائن والدراسات الكثيرة التي وضعتها المؤسسات الأوروبية، منذ سنوات، للدفع باتجاه تبريد النقاش السياسي حول ظاهرة الهجرة وسحبها من «بازار» المزايدات والاتهامات، يبدو أنها ستبقى تشكّل الحلبة الرئيسية للمواجهة السياسية بين الحكومات والمعارضات بشقّيها المعتدل والمتطرف.ومن الأدلّة البيّنة على ذلك أن أحزاب المعارضة في إسبانيا رفضت التجاوب مع دعوة رئيس الحكومة بيدرو سانتشيز الأخيرة إلى مقاربة ملف الهجرة خارج الإطار الديماغوجي المعتاد في النقاش السياسي، بل التصدي لها عبر التوافق حول سياسات واقعية طويلة الأمد، والاقتداء بالخطوط العريضة التي وضعتها المفوضية الأوروبية. هذه الخطوط العريضة التي بدأت بتطبيقها بعض الدول الأعضاء كإيطاليا وبلجيكا وهولندا، هدفها تسهيل مسارات الهجرة الشرعية وتنظيمها من بلدان المنشأ إلى الدول الأعضاء التي تستضيف لاحقاً المهاجرين في مختلف القطاعات الاقتصادية. في مطلع العام الحالي، كانت الهجرة تحتل المرتبة التاسعة بين شواغل الإسبان، وفقاً لاستطلاع مركز البحوث الاجتماعية. لكن في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، قفزت إلى المرتبة الرابعة بين مباعث القلق عند المواطن الإسباني، نتيجة متابعته احتدام النقاش السياسي خلال حملة الانتخابات الأوروبية التي كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة تنفخ في نيرانها. وبينما يواصل حزب «فوكس» اليميني المتطرف صعوده مدفوعاً بخطاب عنصري ضد المهاجرين، ظهر في المشهد السياسي الإسباني أخيراً «مخلوق» جديد، نما في مستنقع التطرّف على وسائل التواصل الاجتماعي، اسمه آلفيسي بيريز، الذي حصد في الانتخابات الأوروبية الأخيرة 800 ألف صوت، ومقعداً في البرلمان الأوروبي. ولا شك أن مثل هذه التطورات ستدفع الحزب الشعبي المحافظ إلى الجنوح نحو مزيد من التشدد، وربما التطرف، في مواقفه من الهجرة، كما حصل بالنسبة لكثير من الأحزاب المحافظة التقليدية في أوروبا، بل بعض الأحزاب اليسارية في البلدان الاسكندنافية.