ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

اتساع الانقسام بين جبهتي شرق البلاد وغربها

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».


مقالات ذات صلة

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

حصاد الأسبوع عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد

حصاد الأسبوع الحبيب الصيد (الشرق الاوسط)

معظم رؤساء الحكومات التونسية ولدوا في منطقة «الساحل»

يتحدّر أغلب رؤساء الحكومات في تونس منذ أواسط خمسينات القرن الماضي من منطقة «الساحل» (وسط الشاطئ الشرقي لتونس)، موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)

الشيخة حسينة ومحمد يونس... الطريق إلى الصدام الأخير

> تدريجياً، تعود بنغلاديش البالغ عدد سكانها 170 مليون نسمة، جلّهم من المسلمين، إلى الحياة الطبيعية بعد أشهر من الفوضى والاحتجاجات، واستقالة كبار المسؤولين من

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

أميركا: تحذيرات إلى هاريس من الركون لأرقام الاستطلاعات... وهزيمة ترمب ليست حتمية

الرئيس بايدن يلقي كلمته في المؤتمر (بلومبرغ)
الرئيس بايدن يلقي كلمته في المؤتمر (بلومبرغ)
TT

أميركا: تحذيرات إلى هاريس من الركون لأرقام الاستطلاعات... وهزيمة ترمب ليست حتمية

الرئيس بايدن يلقي كلمته في المؤتمر (بلومبرغ)
الرئيس بايدن يلقي كلمته في المؤتمر (بلومبرغ)

بعد مرور أكثر من شهر على المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، الذي ثبّت رسمياً ترشيح الرئيس السابق دونالد ترمب ونائبه جيمس دي فانس، لخوض سباق الرئاسة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، أنهى الحزب الديمقراطي، الخميس، مؤتمره الوطني بتأكيد ترشيح كامالا هاريس ونائبها حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز، على بطاقة السباق نفسه. المؤتمران أظهرا حملتين رئاسيتين تجسّدان هويتين ثقافيتين واجتماعيتين مختلفتين للغاية، وقدّما تناقضاً صارخاً للناخبين ولمستقبل الولايات المتحدة. ولقد بدا الانقسام أكثر وضوحاً من أي وقت مضى منذ انسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، ما أدى إلى قلب سباق كان يضم رجلين أبيضين وُلدا في الأربعينيات من القرن الماضي، مفسحاً المجال لامرأة أصغر سناً ومتعددة الأعراق أن تحل محله. ولكن مع هذا، لا يزال على حملة الحزب الديمقراطي أن تختصر الزمن في عملية تقديم هاريس، ليس للناخب الأميركي فقط بل لجمهور الحزب نفسه، الذي بدا قبل شهر وكأنه استسلم لاحتمال أن ترمب عائد إلى البيت الأبيض.

في خطاب كامالا هاريس قبولها ترشيح الحزب، قدمت نائبة الرئيس الحالية سردية شخصية ركّزت على أنها نتاج عائلة من الطبقة المتوسطة جعلت من العمل الدائم في حياتها هو الدفاع عن الناس، ومقارنة رؤيتها للمستقبل مع «الخطط المظلمة والخطيرة» لدونالد ترمب.

أمام الديمقراطيين الذين يتطلعون عبر هاريس للحفاظ على الزخم الذي اكتسبوه، وتحديد وتيرة الحملة، أقل من 75 يوماً لبناء حيثيتها. وهي، بخلاف شخصيات مثل باراك أوباما وبيل كلينتون، لم تكن معروفة أبداً بخطبها الحماسية، كما أنها بحاجة إلى تغيير صورة «المدعية العامة». ومع ذلك، يقول العديد من الديمقراطيين إن اجتماعاتها الحاشدة منذ أصبحت المرشحة الرئاسية أظهرت ارتياحاً أكبر لدورها.

الظهور المفاجئ لكمالا هاريس في الليلة الأولى من فعاليات المؤتمر الوطني الديكقراطي في شيكاغو (آ ب)

شعار ديمقراطي جديد

ومقابل تمسك ترمب بشعاره الشهير، الذي رفعه قبل 8 سنوات، «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، غيّرت هاريس وحزبها الديمقراطي شعار «الدفاع عن الديمقراطية»، الذي رفعته حملة بايدن قبل انسحابه من السباق، بشعار «الدفاع عن الحرية». وحول ذلك، يقول الديمقراطيون إنه لهزيمة ترمب، لا يكفي فقط التحذير من خطره على الديمقراطية، بل من برنامجه «المعادي للحرية»، مستشهدين بالوثيقة الجمهورية المسماة «مشروع 2025»، التي يرون أنها تروّج لخنق الحريات وتحويل الحكومة إلى «أتباع» لترمب.

يوم الأربعاء الفائت، خصّص برنامج المؤتمر بأكمله لموضوع «الكفاح من أجل حرياتنا»، لإعادة تعريف أخطار السباق، عله يعطي الديمقراطيين دفعة جديدة، ويلقى صدى لدى الناخبين، وبالأخص لدى المستقلين ذوي الميول اليمينية، والجمهوريين الساخطين، الذين تكلم بعضهم في اليوم الثاني للمؤتمر، عن ترمب وخطورته.

بالتوازي، في تجمع انتخابي لهاريس ووالز في مدينة ميلووكي، بولاية ويسكونسن، ليلة الثلاثاء، جرى بث جزء منه في مؤتمر الحزب في شيكاغو، رُفعت لافتات «الحرية»، وصرخت هاريس: «هل نؤمن بالحرية؟»، ليردّد الحشد: «نعم».

مراقبون عدّوا اختيار هاريس هذا الشعار، وسيلة أفضل لاستخدامها في التعبير عن الكثير من القضايا ذات التأثير الملموس على حياة الناس اليومية، بما في ذلك حق الإجهاض، والحق في اختيار التعليم، والسيطرة على الأسلحة والاقتصاد. ووفق بريان فالون، الناطق باسم حملة هاريس: «النقطة الأساسية لنائبة الرئيس هي نفس نقطة أولئك الذين يتذرّعون بالديمقراطية، لكنها تعتقد أن مناقشتها من حيث الحريات الأساسية تجعلها ملموسة أكثر فيما يتعلق بما سيخسره الأميركيون في ظل رئاسة ترمب».

الرئيس الأسبق بيل كلينتون... يحيي ويخطب ويهاجم ترمب (غيتي)

الديمقراطية ليست حافزاً

تقول صحيفة «الواشنطن بوست» إن ما دفع هاريس لتغيير شعار بايدن، هو استطلاعات الرأي التي أظهرت أنه في الفترة التي سبقت انسحابه من السباق، وتخلّفه بشكل كبير، لم تعُد رسالة «الديمقراطية» حافزاً، وأن أعداداً كبيرة من ناخبي ست ولايات فاز بها بايدن بفارق ضئيل عام 2020، قالوا إنهم يثقون بترمب في التعامل مع التهديدات للديمقراطية أكثر من بايدن. وذكر معظمهم أن الضوابط الموضوعة لحماية المؤسسات الديمقراطية ستصمد، حتى لو حاول ديكتاتور السيطرة على البلاد.

يُذكر هنا أن ترمب كان قد أعلن أنه سيكون ديكتاتوراً في «اليوم الأول»، ولكن ليس بعد ذلك. وكرّر الادعاء أنه «المدافع الحقيقي» عن الديمقراطية؛ لأنه يحارب الملاحقات القضائية التي ترقى إلى مستوى «التدخل في الانتخابات».

وبالأمس، صوّر كبار الديمقراطيين استخدامهم لكلمة «الحرية» على أنه استعادة للمعتقد الأميركي الأساسي الذي ظل لفترة طويلة حكراً على الحزب الجمهوري. وحقاً تساءل السيناتور تشارلز شومر، زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، يوم الأربعاء: «من كان يظن أن الحرية ستكون شعار الحزب الديمقراطي، وليس الحزب الجمهوري؟».

مع هذا، بدا أن مؤتمر الحزب الديمقراطي لم يتمكن بعد من جسر الهوة التي لا تزال تشير إلى مسألة الفوز في السباق الرئاسي، والحفاظ على سيطرته على مجلس الشيوخ، وتجديد سيطرته على مجلس النواب، ليست مضمونة.

على الأقل هذا ما أشار إليه العديد من قيادات الحزب، وعلى رأسهم الرئيس السابق أوباما وزوجته ميشيل، في خطابيهما أمام المؤتمر.

هزيمة ترمب ليست حتمية

وما يعزز تلك المخاوف هو أن استطلاعات الرأي، ورغم إظهارها تحسّن أرقام هاريس وتقدّمها في بعض الولايات المتأرجحة، لتظهر أيضاً أن السباق متقارب، وأن هزيمة ترمب والجمهوريين، قد لا تكون سهلة.

وفي هذا الاتجاه، نقلت صحيفة «النيويورك تايمز» عن ديفيد أكسلرود، المستشار السابق لأوباما، تحذيره للديمقراطيين بأن عليهم ألا ينخدعوا بأرقام استطلاعات الرأي الجيدة التي حققتها هاريس؛ «لأن استطلاعات الرأي غالباً ما تقلل من شأن الدعم الحقيقي لترمب». وتابع أكسلرود: «نعم، على الجميع أن يدركوا تماماً أن هذا سباق يمكنه الفوز به... وفي الواقع، إذا أجريت الانتخابات اليوم، أعتقد أنه سيفوز، على الرغم من تلك الاستطلاعات».

من جهة ثانية، بينما يعرض المرشّحون وتجمّعاتهم وفعالياتهم الانتخابية، جانبين منقسمين من أميركا، حسب التركيبة السكانية والمحاور الثقافية، وليس فقط حول الحزب والسياسة، تظهر الاستطلاعات أن حركة ترمب التي تغذيها المظلومية، مليئة بالحنين إلى الماضي وفترة ولايته، والخوف والغضب من كيفية تغيير الهجرة والعلمنة لتركيبة البلاد الديمغرافية على حساب البيض.

ترمب أطلق بالأمس تحذيرات خطيرة بشأن أمن الحدود الجنوبية، كما وعد باتخاذ إجراءات صارمة ضد «جنون المتحولين جنسياً»، وتمسّك بادعاءاته حول خسارته زوراً انتخابات عام 2020، وقلل من شأن منتقديه وتعهد بالانتقام من أعدائه المفترضين. وحول ما سبق، علّق أكسلرود بأن لدى ترمب «عبقرية قاسية» في إثارة مناصريه، وسوف يتوجهون إلى صناديق الاقتراع للتعبير عن سخطهم. وأردف أن الاستطلاعات لا تزال تشير إلى أن الولايات المتحدة «دولة تسير على المسار الخاطئ بنسبة 65 في المائة، ولا تزال رسالة ترمب بأن العالم خارج نطاق السيطرة يتردّد صداها».

في المقابل، نجحت هاريس بالحصول على «طاقة جديدة» من الناخبين الشباب والأشخاص الملوّنين الذين يقولون إنهم يشعرون بالقلق من أن ترمب سيعيد أميركا إلى الوراء، حيث تواجه النساء والملونون ومجتمع المثليين وغيرهم المزيد من التحديات. وهو ما عبرت عنه في خطابها أمام المؤتمر الذي حرص على دفع الحشود إلى إطلاق صيحات الاستهجان ضد ترمب، وعلى ارتياحهم في إشارتها إلى «المستقبل»، الذي كان من المتعذّر ربطه ببايدن.

«التقدميون» يدعمون هاريس رغم غزة

هنا، لا يخفى أن شريحة واسعة من هذا الجمهور تدين بالولاء للتيار «التقدمي» الذي نجح خلال السنوات الأخيرة في دفع الحزب لتبني بعض أجندته إزاء السياسة الاقتصادية وتغير المناخ والعلاقات الدولية. إلا أنه بعد فشله في دفع الحزب لتبني المزيد من برامجه، شعر كثيرون من هذا الجناح وكأنهم ينتصرون في الحرب الآيديولوجية من خلال احتضان الرئيس بايدن لبعض أكثر أولوياتهم ليبرالية.

ولكن مع استمرار الحرب في غزة، بدأ «التقدّميون» يتساءلون عن حجم التغيير الذي يمكنهم إحداثه داخل الحزب. ورغم أنهم أصيبوا بخيبة أمل من بايدن وهاريس بسبب دعمهما لإسرائيل، فقد فرضت مخاوفهم من عودة ترمب واحتمال تراجعه عن السياسات الأكثر ليبرالية؛ كرفع الحد الأدنى للأجور، وتوسيع برامج شبكات الأمان الاجتماعي، والترحيب بالمهاجرين، عليهم الالتفاف حول هاريس.

هكذا منح «عميد» هذا التيار، السيناتور بيرني ساندرز، والنائبة الكساندريا أوكاسيو كورتيز، تأييدهما الواضح لهاريس، رغم مطالبتهما بوقف الحرب «فوراً» في غزة. وقال النائب «التقدمي» رو خانا إنه على الرغم من أنه قد يختلف مع قادة حزبه بشأن بعض القضايا، لا سيما الوضع في غزة، فهو يدرك أن التهديد الأكبر الذي سيواجهه «التقدميون» سيكون إذا عاد ترمب إلى منصبه، مضيفاً: «إن حركة بيرني تدرك أخطار الانتخابات وتدعم بطاقة هاريس - والز».

وللعلم، شكّك كثيرون في أن يكون أنصار التيار «التقدمي» يقفون وراء الاحتجاجات التي نظمت للضغط على المؤتمر في قضية غزة، نظراً لضآلة عدد المشاركين فيها، ولمحوا إلى احتمال أن تكون مدفوعة من أطراف «خارجية».

تعريف هوية هاريس السياسية

في هذه الأثناء، بينما سعى الديمقراطيون لترسيخ صورة هاريس بوصفها وطنية أميركية من الطبقة المتوسطة، واصل ترمب وصفها بأنها «تشبه بايدن» - بل وصفها بـ«الشيوعية» التي تمثل الماضي والتضخم - وحاول إقناع الناخبين بأنهم كانوا أفضل حالاً إبّان فترة حكمه، وبأن أجندته التطلعية ستنقذ الاقتصاد، وتوقف أزمة الحدود الجنوبية، وتستعيد السلام من خلال القوة بعد الفوضى في جميع أنحاء العالم.

بما يخصها، حرصت هاريس على تأكيد صورتها مدعيةً عامة صارمة، ولكن رحيمة. وربطت سيرتها الذاتية بأفكار سياسية، مثل خطتها التي أعلنتها أخيراً لخفض أسعار المواد الغذائية، مؤكدة أنها تفهم الطبقة المتوسطة بطريقة لا يفهمها ترمب الثري.

أخيراً، بينما يقول حلفاء ترمب إنهم يريدون منه التركيز على الاختلافات السياسية بدلاً من التهجمات الشخصية، بحجة «أن لدى الرئيس السابق الفرصة لتعريف هاريس بناءً على مواقفها السياسية الأكثر ليبرالية»، تخلت هاريس عن تلك المواقف، حين تنصلت من برنامج «الرعاية الطبية للجميع»، وتراجعت عن دعمها لحظر التكسير الهيدروليكي، وأوضحت أنها لن تلغي وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك.