فرنسا في مواجهة مأزق البرلمان المُعلق والغموض السياسي

بعد أكثر من شهر على الانتخابات... جمعية وطنية مشرذمة ولا حكومة

داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
TT

فرنسا في مواجهة مأزق البرلمان المُعلق والغموض السياسي

داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)
داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)

بعد انتهاء الهدنة السياسية التي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلنها بسبب الألعاب الأولمبية 2024، عادت الأنظار من جديد إلى «قصر ماتينيون»، حيث مقر رئاسة الوزراء، في انتظار قرار تعيين رئيس حكومة جديد. ذلك أنه بعد مرور أكثر من شهر على استقالة حكومة غبريال آتال لم يُقدم ماكرون بعد على تشكيل الحكومة العتيدة. وبالمناسبة، لم يسبق في تاريخ فرنسا أن استغرق رئيس جمهورية كل هذا الوقت لتعيين رئيس حكومة بعد انتخابات تشريعية. وأيضاً، لم يسبق أن انتُخبت جمعية وطنية (مجلس نواب) مشرذمة كالجمعية الحالية التي لم تتبلور فيها أي غالبية، ما حمل البعض على وصفها بأنها «جمعية خارجة تماماً عن تقاليد الجمهورية الخامسة، ولا أحد يعرف حقاً كيف يقاربها».

لوسي كاستيه (آ ف ب/غيتي)

تتوزّع مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية الجديدة على 3 تشكيلات سياسية كبرى، هي تحالف «الجبهة الشعبية» اليساري الذي حصل على 182 مقعداً، يليه تحالف «معاً من أجل الجمهورية» الوسطي الموالي للرئيس ماكرون برصيد 168 مقعداً، ثم تكتل اليمين المتطرف الذي يمثله «التجمّع الوطني» وحلفاؤه بـ143 مقعداً، وعلى مسافة بعدها يأتي «حزب الجمهوريين» اليميني بـ60 مقعداً.

وهكذا، نظراً لإخفاق كل من الكتل السياسية في جمع العدد المطلوب من المقاعد لضمان الغالبية المطلقة، وهو 289 مقعداً، من مجموع 577، وجدت البلاد نفسها أمام ما يسمى بمعضلة «البرلمان المعلّق». وهذا يعني احتمال فشل أي كتلة في الحصول على الدعم من الغالبية المطلقة، وبالتالي التعرّض لحجب الثقة الفوري والدخول في مأزق قد يّشل عمل الحكومة وتسيير مؤسسات الدولة.

بنجامان مولير، أستاذ القانون الدستوري في جامعة باريس – السوربون، صرح لصحيفة «ليبيراسيون» شارحاً: «إنها وضعية مضطربة للغاية لأن التصويت بحجب الثقة قد يحدث تكراراً بما أن المطلوب لتحقيق ذلك هو عُشر أعضاء البرلمان فقط». وتابع أن «وضعية كهذه قد تؤدي إلى تعاقب سريع لعدة حكومات، تسقط واحدة تلو أخرى، مع ما قد يترتّب عليه من فوضى سياسية وتعليق لملفات مهمة لا تحتمل التأخير كالهجرة وملف التقاعد والبطالة».

ضغوط اليسار

من جهة ثانية، رغم إعلان الرئيس ماكرون نيته في التمهل، يبقى حسم الموقف أمراً لا بد منه. ولذا تحرّك، فدعا رؤساء الكتل النيابية والتشكيلات السياسية المُمثلة في البرلمان الفرنسي أخيراً إلى مباحثات من أجل التوصل إلى اتفاق بخصوص تشكيل الحكومة العتيدة. خطوة الرئيس هذه حرّكتها الضغوط الشديدة الذي يمارسها تحالف اليسار لتعيين رئيس حكومة، علماً بأن شخصيات بارزة من اليسار أعربت بالفعل عن استيائها من مماطلة الرئيس. واقترح النائب السابق لحزب «فرنسا الأبيّة» اليساري أدريان كاتونس تنظيم مسيرة احتجاجية في اتجاه مقر الحكومة (قصر ماتينيون) إذ نشر على منصّة «إكس» ما يلي: «إنذار! ماكرون يريد أن يسرق منا الفوز، وهو يراوغ من أجل عرقلة تطبيق برنامج الجبهة الوطنية. صاحب السيادة الوحيد هو الشعب وهو الوحيد القادر على إيقافه، فلماذا لا ننظم مسيرة شعبية كبيرة نحو ماتينيون؟».

الفكرة لقيت أصداء عند شخصيات أخرى، كالنائب لوي بوايار الذي دافع عنها بعدما كان قد اتهم حزب «فرنسا الأبية» بمحاولة زرع الفوضى وتكرار «سيناريو» أحداث «الكابيتول»، مقرّ مجلسي الكونغرس الأميركي، في قلب العاصمة الفرنسية. وصّرح هذا الأخير لقناة «بي إف إم» الإخبارية بالقول: «أنا خائف على بلادي. نحن أمام رئيس جمهورية خسر رهان الانتخابات، لكنه يواصل تنسيق التحالفات وكأن الشعب الفرنسي لم يقترع. وحين ندعو لتنظيم مسيرة للمطالبة باحترام الديمقراطية، يقال لنا أنتم تحثّون على الفوضى، بينما الفوضى الحقيقية هي ما يفعله الرئيس الذي لا يحترم الديمقراطية، وكأنه يريد من الفرنسيين أن يمحوا من ذاكراتهم أنهم شاركوا في انتخابات تشريعية مبكرة».

شخصيات أخرى، كأبرز زعماء تحالف اليسار جان لوك ميلونشون، وماتيلد بانو رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب «فرنسا الأبية»، وإيمانويل بومبار الناطق الرسمي باسم الحزب ذهبوا أبعد من ذلك، إذ نشروا بياناً في صحيفة «لا تريبون» يوم 18 أغسطس (آب) الحالي بعنوان «إقالة الرئيس بدلاً من الرضوخ»، ورد فيه تهديد واضح باللجوء إلى المادة 68 من الدستور الفرنسي التي تنّص على إمكانية طلب إقالة الرئيس بتهمة الإخفاق في مهامه، منها الامتناع عن تعيين رئيس حكومة. وممّا تضمنه البيان المنشور في «لا تريبون» قول أصحابه إنه تجب «معاقبة» المتسبب في إساءة استخدام السلطة. ولكن هنا، لا يشارك حزب اليسار الاشتراكي حلفاءه فكرة «الإقالة»، وبدلاً من ذلك أعلن أوليفييه فور، زعيم الكتلة الحزبية، أنه في حالة ما إذا رفض الرئيس تعيين الشخصية التي اختارها تحالف اليسار رئيساً للحكومة العتيدة فإن الحزب سيستعمل ورقة «حجب الثقة».

لوسي كاستيه... الخيار الوحيد!

في هذا السياق، وباعتبار أن «الجبهة الشعبية» هي اليوم القوة السياسية الأكبر تمثيلاً في البرلمان، فإن التقليد المتداول في السياسة الفرنسية هو أن يختار رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة من هذه المجموعة. ولذا اقترحت قوى «الجبهة»، بعد مشاورات حثيثة استغرقت أسبوعين اسم لوسي كاستيه (37 سنة)، وهي موظفة عالية الرتبة في بلدية باريس، رئيسة للحكومة العتيدة. وحقاً، أطلقت كاستيه حملة إعلامية واسعة لتقديم نفسها إلى الفرنسيين على أساس أنها شخصية من المجتمع المدني، وبالتالي، غير معروفة على نطاق شعبي. وشرحت بالتفصيل في حوار على صفحات صحيفة «ليبيراسيون» الاستراتيجية التي تنوي اعتمادها للحكم، حتى دون أغلبية مطلقة. وفي مقال آخر بصحيفة «لا تريبون» قدّمت كاستيه خطّتها لإنعاش الاقتصاد الفرنسي الذي يشهد حالياً ركوداً، كما استضافتها وسائل إعلام سمعية وبصرية، وشاركت في المشاورات التي نظمتها الرئاسة. ولكن، مع أن كاستيه تبدو مستّعدة لتسلّم مهامها، فالأمور ليست بهذه البساطة، فالرئيس ماكرون لا يعدّ أن هناك فائزاً في هذه الانتخابات. وأعلن هذا في رسالة إلى الفرنسيين يوم 10 يوليو (تموز) حين قال حرفياً: «لم يفز أحد في هذه الانتخابات». ومن هذا المنطلق، يتجه ماكرون نحو اختيار شخصية يرى أنها تستطيع قيادة حكومة تمثل بأفضل صورة القوى السياسية الرئيسة في البلاد، رافضاً الاكتفاء باقتراح تحالف اليسار. عدة أسماء وردت في هذا السياق، أهمها شخصية كزافييه برتران، السياسي البارز في حزب «التجمع الجمهوري» (اليمين) وكان قد رحّب بالفكرة، إذ أكّد عبر عمود في صحيفة «لو فيغارو» يوم 6 أغسطس الحالي أنه «جاهز للتحدي». كذلك من الأسماء التي تملك حظاً طيباً في ترؤس الحكومة اسم برنار كازنوف، وهو رئيس حكومة من عهد رئاسة فرنسوا هولند، وهو ينتمي كهولند للحزب الاشتراكي ويتمتع بخبرة كبيرة، وهو أيضاً رحّب بالفكرة، فأجاب على سؤال طرحه إعلامي بأنه «سيكون دائماً جاهزاً». غير أن أياً من الشخصيات المتداولة أسماؤها لم تحظَ بموافقة اليسار الذي لا يزال متشبثاً بخيار كاستيه، على اعتبار أنها «الأكثر شرعية» من وجهة نظرهم.

كون «الجبهة الشعبية» هي اليوم القوة السياسية الأكبر تمثيلاً في البرلمان، فإن التقليد المتداول

في السياسة الفرنسية هو أن يختار رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة منها

برنارد كازنوف (آ ف ب)

ماذا يقول القانون؟

في سياق موازٍ، خلال حوار مع صحيفة «لي زيكو» أوضح جوليان بوني، أستاذ القانون في جامعة مونبلييه، أنه «لا شيء في الدستور الفرنسي يُلزم الرئيس بتعيين مرشحة تحالف اليسار، فهو قانونياً حّر في التصرف، بيد أن واقع النتائج الانتخابية قد يفرض قيوداً بحكم أنه تعبير عن الإرادة الشعبية». وأردف بوني: «لكن إذا افترضنا أن الرئيس أقدم على تعيين شخصية من خارج تحالف اليسار، فإن الحكومة ستكون بالتأكيد قصيرة الأجل، لأنها ستكون معرضة لتصويت الغالبية من أجل إسقاطها».

وأضاف خبير قانوني آخر، هو بنجامان موريل من جامعة باريس - السوربون، في مداخلة على قناة « بوبليك سينا»، ما يلي: «جرت العادة أن يُعين رئيس الجمهورية رئيساً للحكومة من الكتلة السياسية التي تتمتع بالغالبية المطلقة، وهذا ليس وضعنا اليوم... فـ(الجبهة الشعبية) تشكل غالبية جّد نسبية، وهذا أمر غير مسبوق. ففي الانتخابات التي نظمت في 1988 و1993 ظهرت غالبية نسبية أيضاً، لكنها كانت واسعة جداً، أما اليوم فإن (الجبهة الشعبية) ينقصها أكثر من 100 مقعد للوصول إلى الغالبية المطلقة».

إلى متى يستطيع الرئيس الاستمرار في مشاوراته قبل إعلان قرار التعيين؟ حتى بالنسبة لهذه النقطة لا يبدو أن الدستور الفرنسي قد حدّد مدة معينة للتفكير، وهو ما يستغله الرئيس ماكرون من أجل المماطلة وربح الوقت.

في عمود بصحيفة «لوموند» تحت عنوان «يجب على إيمانويل ماكرون أن يتوقف عن المماطلة» نقرأ ما يلي: «مرت أكثر من 6 أسابيع على الانتخابات التشريعية، ولا توجد بعد حكومة في فرنسا (...) مثل هذه الوضعية توّلد عواقب خطيرة، فبحجة تصريف الشؤون الجارية، تتخذ الحكومة المستقيلة، من دون أي شرعية ديمقراطية قرارات مهمة، كتلك التي تخص الميزانية المالية لـ2025».

وبالفعل، كانت قضية الميزانية بالذات موضوع جدل كبير، بعدما وجّه غبريال آتال، المكلف منذ 16 يوليو بتصريف الأعمال، الرسائل التي تحدد سقف الأموال والوظائف الممنوحة لكل وزارة، في مبادرة أوضح مكتبه أن هدفها السماح للفريق الحكومي المقبل بوضع ميزانية، بينما ندّد اليسار بـ«فضيحة حقيقية» وخطوة «مذهلة»، منتقداً الاستمرار في سياسة «التقشف».

البعض انتقد أيضاً قلة احترام الجدول الزمني في إقرار ميزانية 2025، الحاصل تقليدياً في منتصف أغسطس الحالي، ودراستها في البرلمان في الأول من أكتوبر (تشرين الأول). إلا أن الأمر مختلف اليوم، بما أن الحكومة الانتقالية لم تقدّم الوثائق في الوقت المطلوب، ما يُعدّ إنذاراً سيئاً تتلقاه الأسواق المالية من فرنسا، حيث تؤثر الشكوك السياسية سلباً على الأوضاع الاقتصادية.

فريق آخر من المراقبين يرى أن ماكرون يماطل في اتخاذ قرار التعيين لأنه يرفض مواجهة الحقيقة، وكأن الانتخابات التي دعا هو إليها لم تحدث، وبذا يُبقي على سياسته الراهنة دون إحداث أي تغيير. كذلك، من الواضح أن الرئيس يريد «كسب الوقت»، لإضعاف حزب «فرنسا الأبيّة» أكبر قوى المعارضة، مراهناً على «انقسامات اليسار»، وآملاً بأنه مع مرور الوقت سيتصّدع صرح التحالف اليساري وسيضطر الاشتراكيون والخُضر للانفصال عن «فرنسا الأبيّة» للدخول إلى الائتلاف الحكومي.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.