ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

«تفاهم» برلين مع بكين مهدّد بتغيير القيادة في واشنطن

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
TT

ألمانيا إزاء الصين... الاقتصاد مفتاح للتعايش السياسي

من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)
من لقاء المسشتشار شولتزمع الرئيس شي في بكين (رويترز)

بعد أسابيع من تصويت الكونغرس الأميركي على حظر تطبيق «تيك توك» الإلكتروني الصيني، قرّر المستشار الألماني أولاف شولتس أن يفتح حساباً رسمياً في التطبيق. وكانت الصدفة أن حساب شولتس الذي كانت بداياته بـ«فيديو» لحقيبته التي ترافقه حيثما سافر، انطلق قبل أيام من زيارة للمستشار إلى الصين. ثم إنه على الرغم من أن الناطق باسم شولتس أكد أن الحدثين غير مرتبطين، بل جاءا بمحض «المصادفة»، فإنهما بلا شك يشيران إلى مقاربتين متناقضتين لعلاقات كل من الإدارة الأميركية والحكومة الألمانية مع بكين. تأتي زيارة شولتس الصينية، وهي الثانية له منذ تسلّمه منصبه عام 2021، لتوضح أن التبادل التجاري هو في طليعة اهتمامات برلين في علاقتها مع بكين، فالمستشار الألماني ترأس وفد شخصيات أعمال كبيراً ورافقه 3 وزراء للتكنولوجيا والبيئة، كما خصّص اليومين الأوّلين من الزيارة التي امتدت 3 أيام للقاءات تتعلّق بالأعمال. وكان لافتاً أن البحث لم يتطرّق إلى السياسة إلا في اليوم الثالث، حين التقى شولتس بالرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الحكومة لي كيانغ. من جهة ثانية، بدت هذه الزيارة شبيهة بالزيارات التي كانت تُجريها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، مركّزة فيها على التجارة والأعمال، مع أن تبنّي حكومة شولتس الائتلافية استراتيجية جديدة تجاه الصين العام الماضي يتمحوَر حول «تخفيف المخاطر» من مغبة الإفراط في اعتماد الصناعة الألمانية على الصين. وما يُذكر أن هذه السياسة تبلوَرت بعد الحرب في أوكرانيا، و«الأخطاء» التي قالت ألمانيا إنها تعلمتها من تلك الحرب بسبب اعتمادها السابق على الغاز الروسي الذي أوقفت موسكو إمداداته بعد الحرب رداً على العقوبات الأوروبية. وفي المقابل، لم تعكس زيارة شولتس لبكين، على الإطلاق، الاستراتيجية الألمانية الجديدة تجاه الصين، ولا الاستراتيجية الأوروبية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي العام الماضي... التي تعكس أيضاً المخاوف من زيادة اعتماد السوق الأوروبية على البضائع الصينية.

شولتز في مدينة تشونغكينغ، إحدى المحطات الاقتصادية المهمة في زيارته (رويترز)

 

احتاج اعتماد الحكومة الألمانية استراتيجية جديدة تجاه الصين، العام الماضي، إلى فترة طالت عدة أشهر، وشهدت اندلاع خلافات داخل أحزاب الائتلاف الحاكم - الذي يقوده اشتراكيو الحزب «الديمقراطي الاجتماعي»، ويضم كلاً من ليبراليي الحزب ««الديمقراطي الحر»، وبيئيي حزب «الخضر». وفي حين كانت وزارة الخارجية التي يديرها حزب «الخضر»، تشدّ باتجاه تبنّي سياسة متشددة تجاه بكين، كانت المستشارية (أي رئاسة الحكومة) التي يديرها الاشتراكيون تدفع في الاتجاه المعاكس. ولقد ظهر هذا الخلاف في المسوّدة الأولى التي خطتها وزارة الخارجية للاستراتيجية الجديدة مع الصين، والتي تضمنت تعابير مثل «فصل» الاقتصاد الصيني عن نظيره الألماني. بيد أن مكتب المستشار أولاف شولتس رفض استخدام تعبير «فصل»، وطلب الاستعاضة عنه بـ«تنويع»... ومن ثم «تخفيف» الاعتماد على السوق الصينية في كثير من المنتجات، خاصة المتعلقة بالتكنولوجيا والبيئة.

استراتيجية «صديقة» للصين

في الحقيقة، منذ اعتماد الاستراتيجية الجديدة، حرض شولتس على تكرار القول إن ألمانيا لا تسعى إلى «فصل» الاقتصاد الصيني عن الاقتصاد الألماني، وهذا الكلام أعاد تكراره غير مرة خلال محطات زيارته الأخيرة للصين. وللعلم، لم تواجه الخارجية، آنذاك، اعتراضاً من المستشار فقط، بل من أصحاب الأعمال كذلك. بل، عندما حاولت وزيرة الداخلية (الاشتراكية) نانسي فيزر، العام الماضي، إجبار شركات الاتصالات على التخلّي عن بعض القطع الصينية في تحديث شبكات الاتصالات، فإنها وُوجهت بموجه عارمة من الاعتراضات، ليس فقط من شركات الهواتف التي طالبت بتعويضات من الحكومة، بل أيضاً من داخل الحكومة - وتحديداً من وزير التحديث الرقمي فولكر فيسينغ المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الحر - والذي رافق شولتس في رحلته إلى الصين. وأرسلت كبرى شركات الاتصالات في ألمانيا مثل «تيليكوم» و«فودافون» و«تيليفونيكا»، رسالة إلى وزيرة الداخلية وصفت فيها مطالبها بأنها «أشبه بمصادرة جزئية»، وبأنها ستكلّف الشركات المليارات، وتعيد إلى الوراء تحديث الشبكات بسنوات.

هذه الشركات الثلاث كانت قد اختارت منذ سنوات، في ظل حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المحافظة، شركة «هواوي» الصينية لتحديث شبكة الإنترنت وبناء شبكة الـ«5 جي». وهنا تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا كانت قد رفضت «النصائح» والضغوط الأميركية التي مارسها الرئيس السابق دونالد ترمب على ألمانيا ودول أوروبية أخرى لكي ترفض السماح لشركة «هواوي» بالعمل فيها. والمعلوم أن ذريعة ترمب في حينه قامت على الزعم بأن «هواوي» مرتبطة بالنظام الحاكم في الصين، وبالتالي، ستكون قادرة على مراقبة الاتصالات من خلال شبكاتها. وها هي ألمانيا، حتى اليوم، مستمرة بانتهاج السياسة نفسها رغم استراتيجيتها الجديدة مع الصين.

من جانب آخر، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، تليها الولايات المتحدة. وخلال العام الماضي 2023، بلغ حجم التجارة بين البلدين أكثر من 253 مليار يورو، لتكون الشريك الأول للعام الثامن على التوالي. ولم يختلف حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في العام نفسه كثيراً؛ إذ بلغ أكثر من 252 مليار يورو، ولكن بفارق كبير في العجز والفائض التجاريَّين. ذلك أنه مع الصين يربو العجز التجاري الألماني على 58 مليار يورو، في حين حققت ألمانيا فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة زاد على الـ63 مليار يورو.

نقاط خلافية مع واشنطن...وبعض الأوروبيين

شكّل التبادل التجاري الألماني مع الصين والولايات المتحدة واحدة من النقاط الخلافية الكثيرة بين برلين وواشنطن إبان عهد ترمب، ساهمت بتوتر العلاقات بين الجانبين، وهي مخاوف ستعود إلى الظهور، من دون شك، إذا ما عاد ترمب إلى البيت الأبيض. ولكن السوق الصينية تُعد سوقاً أساسية بالنسبة لألمانيا، خاصة بالنسبة لقطاع صناعة السيارات الألمانية؛ إذ تبيع شركات «مرسيدس بنز» و«بي إم دبليو» و«فولكسفاغن» من السيارات في الصين أعداداً أكبر مما تبيعه في قارة أوروبا مجتمعة. وعلى الرغم من شكوى ألمانيا من أن الصين لا تعامل شركاءها التجاريين وشركاتهم الصانعة كما تعامل ألمانيا الشركات الصينية، فهي تتخوف من دعم سياسة تجارية متشدّدة تجاه الصين تخوفاً من خسارة سوق أساسية بالنسبة إليها.

وبالتوازي، فإن هذا التردّد الألماني في التشدد مع الصين فجّر خلافات أيضاً بينها وبين شركائها الأوروبيين، وتحديداً فرنسا، التي تدفع باتجاه خطوات «حمائية» إضافية على صعيد الاتحاد الأوروبي. وحقاً، فإن فرنسا ولاعبين أوروبيين آخرين يأملون بالتوافق على إجراءات تحمي أسواقها وتحول دون «إغراقها» بالسلع الصينية الرخيصة، ما يهدد الشركات الأوروبية، ويلغي المنافسة، ويزيد من الاعتماد على الصين. وخلال اجتماع عقد بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس مطلع أبريل (نيسان) الجاري لوزراء اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير إن أوروبا «تتلقى كميات ضخمة من السلع الصينية الرخيصة». وأشار إلى أن العجز التجاري بين أوروبا والصين تضاعف ثلاث مرات في السنوات العشر الماضية، وعليه، دعا الوزير الفرنسي إلى مناقشة سياسات أشد صرامة لمواجهة ذلك. غير أن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، الذي كان مشاركاً في الاجتماع، حذّر من «الحمائية» ورفع التعرفات الجمركية... في صدىً لمواقف المستشار شولتس، مع أن هابيك ينتمي إلى حزب «الخضر» الذي يفضل سياسات اقتصادية أكثر تشدداً مع الصين.

 

سيارة بي واي دي صينية... في طريقها لغزو أسواق أوروبا (رويترز)

والاتحاد الأوروبي أيضاً... ميّال إلى التشدّد

وأبعد من ألمانيا، يدفع الاتحاد الأوروبي برئيسة مفوضيته أورسولا فون دير لاين إلى مقاربة متشدّدة مع الصين، ولقد تبين هذا في الاستراتيجية الأوروبية التي أعلنت عنها بروكسل العام الماضي، والتحقيقات التي تفتحها في شركات صينية يشتبه بأنها لا تلتزم بقواعد المنافسة.

وللعلم، تستند بروكسل إلى آليات داخلية لمراقبة الشركات التي تستخدمها الصين غطاءً لإغراق السوق ببضائع رخيصة. وفي العام الماضي، فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً في وضع قطاع الآليات الكهربائية الصينية لتحديد ما إذا كانت الصين استخدمت شركات مدعومة بشكل غير شرعي بهدف إلغاء المنافسة. وبناءً على نتائج التحقيق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يفرض رسوماً إضافية على استيراد السيارات الصينية الكهربائية. وكان الاتحاد قد فتح كذلك تحقيقات خلال العام الماضي في عدد من الحالات التي تستهدف شركات لتوربينات الرياح والألواح الشمسية في عدد من الدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا ورومانيا وبلغاريا، اشتبه بأنها غطاء لشركات صينية. ولكن بروكسل، التي تريد تشديد الخطط الحمائية، تصطدم بمعارضة برلين التي ترفض اتخاذ خطوات عقابية أو فرض رسوم إضافية على البضائع الصينية للإبقاء على المنافسة ورفع أسعارها البخسة، كما تفعل واشنطن بشكل مستمر.

وفي الأسبوع الماضي فقط، أعلنت واشنطن رفع الرسوم على الصلب والألمنيوم الصيني بنسبة 25 في المائة، كما فتحت تحقيقاً فيما ادعت أنه «ممارسات الصين غير النزيهة» في قطاع بناء السفن. إلا أن المستشار الألماني لا يدعم خطوات مماثلة في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه يخشى أن تؤدي إلى «حرب تجارية»، ويرى أنه من الأفضل السماح للشركات تحمل مسؤولية تنويع الصادرات بشكل فردي. وبالفعل، نقلت مجلة «دير شبيغل» عن مصادر مقربة من شولتس، أن خطوة «تخفيض الاعتماد» على الصين هي مسألة «سنوات وليست شهوراً». وأردفت المجلة، نقلاً عن المصادر، أن وضع ألمانيا مختلف عن وضعي فرنسا والولايات المتحدة؛ كونها دولة مصدّرة وتبيع كميات ضخمة من السيارات في السوق الصينية.

وفي سياق متصل، إلى جانب التكنولوجيا المتعلقة بالاتصالات، تغرق الصين أسواق أوروبا حالياً بالتكنولوجيا البيئية مثل مضخات التدفئة وتوربينات الرياح وغيرها من المعدات التي تحتاج إليها أوروبا في خططها الانتقالية البيئية لوقف اعتمادها على الغاز والنفط، توصلاً إلى الاعتماد فقط على الطاقة النظيفة. وهنا نذكر، على سبيل المثال، أن أوروبا تستورد مثلاً قرابة 29 في المائة من توربينات الرياح و68 في المائة من مضخات التدفئة من الصين.

 

الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019 في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا

أهمية قطاع السيارات

غير أن قطاع السيارات يظل يشكل التحدّي الأكبر أمام أوروبا في تبادلها التجاري مع الصين، وفق تقرير لـ«معهد الأطلسي» الأميركي للدراسات. ويضيف تقرير المعهد أن الصين لطالما كانت سوقاً أساسية للسيارات التي تنتجها دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة ألمانيا، بيد أنها أضحت أخيراً - كذلك - مصدّراً أساسياً للسيارات إلى أوروبا. ويشير إلى أنه «حتى الآن، ما زال الاتحاد الأوروبي محافظاً على تبادل تجاري إيجابي مع الصين فيما يتعلق بالسيارات، ولكن ارتفاع الواردات الصينية يشير إلى أنه، من دون خطوات حمائية جديدة، قد يصبح الاتحاد الأوروبي مستورداً صافياً».

وضمن هذا الإطار، قارن المعهد بين أرقام الصادرات والواردات بين أوروبا والصين في السنوات الماضية، فذكر أن الصادرات الأوروبية إلى الصين لم تتغير منذ عام 2019، في حين نمت الواردات الصينية إلى أوروبا خلال الفترة نفسها بنسبة تصل إلى 3000 في المائة، وارتفعت قيمة معدل الواردات الصينية شهرياً من 33 مليون دولار عام 2019 إلى أكثر من مليار يورو عام 2023. وبين الواردات الصينية من السيارات الكهربائية منتجات شركة «إم جي» - البريطانية سابقاً والصينية حالياً. وهنا يورد تقرير المعهد أن واردات السيارات الصينية ساهمت بزيادة حجم الواردات بنسبة 75 في المائة.

ويتفق خبراء اقتصاديون في ألمانيا على أنه منذ اعتماد الاستراتيجية الصينية، لم يحدث تغيير كبير في علاقة ألمانيا والصين. ونقلت مجلة «دير شبيغل» عن نادين غوديهارت، المتخصصة بالشؤون الآسيوية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، قولها إن «الاستراتيجية تجاه الصين لم تؤدِّ بعد إلى شيء ملموس، ولا يوجد هناك أصلاً أي تغيير بنيوي؛ إذ لم يعيّن مفوض للصين ولا هيئة خبراء». غير أن شولتس مصرّ على التمسك بسياسته مع بكين والتي يعتمد فيها على الاقتصاد أولاً، على الرغم من تحذيرات الاستخبارات الألمانية من أن الصين تشكل «تهديداً بعيد المدى لأمن ألمانيا ومصالحها، أكبر من التهديد الذي تشكله روسيا». وكان توماس هالدنفانغ، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني، قد أعطى إحاطة وافية لـ«البوندستاغ» (مجلس النواب) عام 2022 حول المخاطر التي تشكلها الصين، وقال آنذاك: «إذا كانت روسيا العاصفة، فإن الصين التغير المناخي!».

شعار شركة هواوي (أ ف ب/غيتي)

الضغط على الروس

هنا، لا ينكر المستشار الألماني أن تصرفات الصين التجارية «مقلقة»، وصرّح بأنه تكلم مع المسؤولين الصينيين «بوضوح» حول مسائل تتعلق بالمنافسة المنصفة وحقوق الاختراع وغيرها. لكنه حتى الآن يبدو مكتفياً بالتحاور مع الجانب الصيني من دون التهديد بعواقب أو دعم خطوات تصعيدية ضد بكين داخل الاتحاد الأوروبي. ذلك أنه مقتنع بأن «الشراكة مع الصين تحمل بعداً سياسياً بالغ الأهمية»، خاصة فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا وتأثير الصين على روسيا.

وحقاً، في ختام زيارته إلى الصين، قال شولتس إن مسألة الحرب في أوكرانيا كانت «نقطة محوَرية» خلال اللقاءات التي أجراها في بكين. وأضاف أنه طلب من القيادة الصينية المشاركة في عملية السلام بشكل أكثر فاعلية؛ لأن «كلماتها تحمل ثقلاً» في موسكو. وتابع المستشار الألماني أنه طلب من الرئيس الصيني المشاركة في مؤتمر يونيو (حزيران) للسلام الذي تستضيفه سويسرا من دون روسيا. وليس واضحاً ما إذا كانت الصين وافقت على ذلك، علما بأنها تعدّ نفسها طرفاً محايداً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنها ترفض إدانة موسكو.

 

إبعاد الأوروبيين عن الصين... هاجس عند واشنطن

> يرى مراقبون سياسيون أن علاقة ألمانيا بالصين قد تصبح إشكالية أكبر بالنسبة إليها قريباً، خصوصاً في حال عودة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لا سيما أنه كان يلوّح بشن حرب تجارية على الصين عندما كان رئيساً، وكان ينتقد كلاً من ألمانيا والاتحاد الأوروبي بسبب علاقاتهما التجارية مع الصين. ولكن، حتى في ظل إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نرى واشنطن تتشدد في مواجهة بكين سياسياً وتجارياً، إذ تعدّ ممارساتها الاقتصادية والتجارية «عديمة النزاهة». وهنا، لا بد من الإشارة، إلى أنه حتى الاتحاد الأوروبي بات يفتح تحقيقاً تلو الآخر بشركات صينية وإغراق الأسواق الأوروبية ببضائع تلغي المنافسة الأوروبية. وأخيراً، فتح الاتحاد تحقيقاً في تطبيق «تيك توك» بعد إطلاقه منصة جديدة في فرنسا وإسبانيا موجهة للمراهقين والأطفال وتقديمه مكافآت مالية لمشاركة الفيديوهات ومشاهدتها. وفي ضوء ذلك، أعرب الاتحاد عن قلقه من أن يتسبب التطبيق في «إدمان» لدى الأطفال والمراهقين وطلب تفاصيل إضافية من «تيك توك» لتقييم المخاطر.أكثر من هذا، على الرغم من أن الخلافات الأوروبية الداخلية - وحتى الألمانية الداخلية - تمنع بروكسل حتى الآن من اتخاذ خطوات إضافية تواجه بصورة أفضل السياسة التجارية الصينية، يعتقد خبراء بوجود حاجة إلى خطط أوروبية بعيدة المدى حول العلاقات مع الصين. وفي تقرير «معهد الأطلسي» الأميركي حول الموضوع، قال إن «أوروبا لن تكون قادرة على تحقيق وقف اعتمادها على الصين في المدى القصير، ولا بالسرعة أو الأشكال التي تريدها واشنطن، لأن الأمر يتطلب استثمارات ضخمة داخل أوروبا تبني اقتصادات أكثر تنافسية، ستستغرق عدة سنوات، وعلى مدى عدة رئاسات أوروبية». وأضاف تقرير المعهد أن إدارة رئيسة مفوضية الاتحاد أورسولا فون دير لاين «تطور خريطة طريق لضمان نجاح خطة كهذه تطبق بعد انتهاء ولايتها». وتابع: «كي يتحقق ذلك، ستبقى ألمانيا، ومعها كبرى الشركات المستفيدة من التجارة مع الصين بسبب انخفاض أسعار البضائع، عقبة كبيرة في طريق تعديلات إضافية تبعد أوروبا عن إدمانها التجاري» على الصين.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».