أمازيغ ليبيا بين شكاوى «التهميش»... وتهم «التمرّد»

أزمة رأس جدير أظهرت الجزء الغاطس من الأزمة

الأعلام الأمازيغية مرفوعة في احتفال بعد ثورة 2011 (آ ف ب/غيتي)
الأعلام الأمازيغية مرفوعة في احتفال بعد ثورة 2011 (آ ف ب/غيتي)
TT

أمازيغ ليبيا بين شكاوى «التهميش»... وتهم «التمرّد»

الأعلام الأمازيغية مرفوعة في احتفال بعد ثورة 2011 (آ ف ب/غيتي)
الأعلام الأمازيغية مرفوعة في احتفال بعد ثورة 2011 (آ ف ب/غيتي)

دأب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي على التعامل مع المكوّن الأمازيغي في ليبيا طوال فترة حكمه، بين 1969 و2011، باعتبارهم من قبائل «اندثرت وانتهت». إلا أنه بعد أشهر معدودة من كلامه هذا، كانوا في طليعة «الثوار» الذين أسقطوا نظامه في انتفاضة عام 2011، ومنذ ذلك التاريخ استعاد أمازيغ ليبيا «حيوية» ثقافتهم تدريجياً، وبدأوا في الدفاع عما يعدّونها «مكتسباتهم» التي حققوها، مع أنهم ظلوا يشكون من «التهميش».

تتركز الكثافة السكانية الأمازيغية في ليبيا، بدءاً من مدينة زوارة على الحدود التونسية (أقصى شمال غربي البلاد) وامتداداً إلى نالوت وجبل نفوسة وطرابلس وغدامس، مروراً بمدن غات وأوباري وسبها (جنوباً)، مع التذكير بأن الطوارق أمازيغ أيضاً، وصولاً إلى سوكنة وأوجلة نحو الشرق.

ولقد عاد اسم زوارة أخيراً إلى واجهة الأحداث على خلفية أزمة معبر رأس جدير الحدودي مع تونس، عندما وقع صدام بين قوة تابعة لحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، والمجلس العسكري لمدينة زوارة الذي يتولى إدارة المعبر، وكاد يتطور إلى اشتباكات واسعة.

على الأثر، اضطرت سلطات طرابلس إلى إغلاق المعبر أمام حركة سير الأفراد والسيارات يوم 19 مارس (آذار) الحالي، ليعلن حينها وزير داخلية «الوحدة الوطنية» عماد الطرابلسي أن المعبر لن يُفتح «حتى استعادة السيطرة عليه، ولو بالقوة، وإعادته إلى حضن الدولة».

الطرابلسي توعّد باللا تراجع عن المواجهة مع ما أسماهم بـ«تجار المخدرات والمهربين مهما كلفه الأمر»، وأكد أنه «لن يُرفَع أي علم على المعبر باستثناء علم الدولة الليبية»، في تلميح إلى علم الأمازيغ.

ما يستحق التنويه أن مدينة زوارة كانت قد تقدّمت الصفوف عقب الإطاحة بنظام القذافي، واستولت قواتها العسكرية - التي تشكّلت أصلاً لمقاومته - على منطقة رأس جدير، وضمّت رسمياً المعبر الحدودي مع تونس إلى المنطقة الإدارية الواقعة تحت سيطرة بلديتها، لتتحوّل المدينة تدريجياً إلى «مركز قوة»، مع أنها بقيت اسمياً تحت سلطة الحكومات المتعاقبة.

هدوء العاصفة

ما بين عهد القذافي، وعهود تلت، شكا الأمازيغ طويلاً من «الإقصاء» و«التهميش»، وهو ما أثاره إبراهيم قرادة، رئيس «المؤتمر الليبي للأمازيغية»، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، عدّ فيه أن حادث المعبر كشف عن «استهداف معلن وصريح» للأمازيغ.

بيد أن أزمة المعبر تبدو أشبه بكرة لهب تتدحرج من حكومة إلى أخرى، وأظهرت الجزء الغاطس من الأزمة على السطح. في حين ظهرت زوارة، الممتدة جغرافيتها على شاطئ المتوسط لمسافة 60 كيلومتراً من مليتة شرقاً إلى حدود تونس غرباً، كما لو كانت قد «تمردت» على سلطة الدولة.

إذ يواصل الطرابلسي - الذي أعلن «مجلس حكماء زوارة» أنهم لا يعترفون به - وعيده. وكذلك تتواصل التحشيدات بعدما وجّه صلاح النمروش، معاون رئيس الأركان التابعة لحكومة «الوحدة الوطنية»، 7 ألوية بتجهيز آلياتها وعتادها، قبل تدخل المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي، لانتزاع فتيل الأزمة، وهكذا هدأت العاصفة مؤقتاً بعدما كانت البلاد ماضية نحو المواجهة لإحكام السيطرة على المعبر. وحول هذا، قال قرادة: «انكشفت حدة الإقصاء والتهميش للأمازيغ في السنوات الأخيرة بشكل سافر ومستفز... وهذا ما يفسّر ردّ الفعل الأمازيغي الحازم والصارم دفاعاً عن الوجود والنفس».

وسط هذه الأجواء المضطربة أمضت ليبيا الأسبوع الماضي متخوفة من حرب بعدما عدّ المجلس البلدي لبلدية زوارة كلام الطرابلسي «عنصرية وجهوية» ضد المكوّن الأمازيغي. وتابع أن «التصرّفات الفردية والتوجهات العرقية وتصفية الحسابات يجب ألّا يكون لها مكان في سياسات الدولة»، وهو ما عدّه بعض المتابعين رسالة إلى رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة ضد وزير داخليته.

وبالتوازي، روى الهادي برقيق، رئيس «المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا»، أن الطرابلسي «دفع بقوة تتبع إنفاذ القانون بالتوجه إلى المعبر، وعندما وصلت شرعت في تجهيز بعض الأعمال، ولكننا فوجئنا بالتعدّي على الأجهزة الأمنية... وهنا تدخل المجلس البلدي في زوارة بحكم التبعية الإدارية، ولكن هذا التدخل جوبه بإطلاق النار على الأطراف التي سعت لإنهاء الأزمة». وفي نفيه لسيطرة زوارة بالكامل على المعبر، قال برقيق، في تصريح صحافي، إن العاملين فيه «خليط من كل أبناء المنطقة الغربية، وليس أبناء زوارة فقط التي يوجد المنفذ في حدودها الإدارية».

غير أن هناك من عدّ تصرف زوارة بمثابة «تمرّد وفرض هيمنة بالسلاح وتنازع سلطات الدولة». وبينما كانت مقاطع الفيديو، التي تظهر تحرك آليات عسكرية وأرتال سيارات الدفع الرباعي المُحملة بالصواريخ تنطلق من مناطق الأمازيغ باتجاه زوارة لمواجهة التحشيدات العسكرية التي أمر بها النمروش، كانت راية الأمازيغ - التي وجدت مكاناً لها بعد رحيل القذافي - ترفرف على مداخل معبر رأس جدير نكاية في الطرابلسي.

معبر راس جدير (رويترز)

الأمازيغ أيام القذافي

في الواقع، لم ينس الأمازيغ تعامل القذافي معهم، وكيف عدّهم في أحد أحاديثه قُبيل رحيله بسنة «قبائل قديمة عاشت في شمال أفريقيا، قبل أن تندثر وتنقرض مثل المشواش والليبيو والتحنو». وهنا علّق قرادة - وهو كبير مستشارين بالأمم المتحدة سابقاً - عن أن «مسألة تهميش وإقصاء أمازيغ ليبيا ليست جديدة، بل قديمة... لكن الذروة كانت اضطهادهم في عهد القذافي بشكل ممنهج». وتابع أن «نصيب المطالبين بالحق الأمازيغي على أيام القذافي كان الملاحقة الأمنية والسجون والإعدامات والتضييق السياسي... ولذا عانت مناطق الأمازيغ من تسليط وتسلّط مؤسسات وتوظيف القبلية والعقوبات التنموية على مدنهم».

دراسة لـ«الأمم المتحدة»

هذا، وفي دراسة نشرها مركز «مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط»، ورد أن سقوط القذافي وتشظي السلطة المركزية دفعا كثيراً من المجتمعات المحلية إلى التسابق للسيطرة على المواقع كي تصبح مراكز قوة تضمن لها الحصول على الموارد الاقتصادية. وبالفعل، نفخ هذا التنافس على المنافذ الحدودية في رماد التناحرات التاريخية، خاصة بين العرب وبين الأمازيغ.

ورصدت الدراسة أن القذافي استخدم التجارة الحدودية لتعزيز سطوته، واستلحق قبائل وفئات اجتماعية معيّنة وأغدق عليهم الامتيازات على حساب آخرين. و«لذا من البديهي أن تؤدي سياسة (فرّق تسد) هذه إلى بروز تظلمات في صفوف قطاعات من السكان حُرموا من كعكة المغانم. وكان الأمازيغ المجتمع المحلي الأكثر عرضة على نحو متواصل إلى هذا التمييز والحرمان».

ومضت الدراسة إلى أن السيطرة على المعابر الحدودية بعد رحيل نظام القذافي أضحت عاملاً استراتيجياً في مجال التقدم الاجتماعي والسياسي للأمازيغ. وضربت مثلاً بما جرى سابقاً في نالوت، وهي بلدة أمازيغية أخرى، عندما استولت ميليشيا محلية على معبر «ذهيبة - وازن» الحدودي القريب منها. وللعلم، رأس جدير وذهيبة - وازن هما المعبران الحدوديان الوحيدان بين تونس وليبيا، وإن كان المعبر الأول يحظى بعمليات عبور أكثر من الثاني. وبالمثل، أقامت المجموعات المسلحة الأمازيغية نقاط تفتيش على طول خطوط التهريب.

وبعد إغلاق رأس جدير اضطرت عشرات الشاحنات المصطفة على أبوابه إلى تغيير اتجاهها بإذن من السلطات التونسية حيث معبر ذهيبة - وازن، الذي شددت وزارة داخلية «الوحدة الوطنية» على أنه مفتوح ويعمل على مدار الساعة بلا توقف لتأمين حركة السير في الاتجاهين بشكل طبيعي.

أزمة شرعية

متابعون يربطون ما حدث ويحدث في معبر رأس جدير «امتداداً لحالة الفوضى الأمنية» التي تضرب ليبيا منذ إسقاط النظام السابق، لافتين إلى أن الوضع القائم «سهّل للتشكيلات المسلحة السيطرة على المنافذ، التي يفترض أن جميعها يخضع لسلطة الدولة الليبية».

ويُنظر إلى غالبية المعابر (البرية والجوية والبحرية) في عموم ليبيا، بحسب محمد عمر بعيو، رئيس «المؤسسة الليبية للإعلام» (التابعة لمجلس النواب) أنها «غير خاضعة لسيطرة الدولة وأجهزتها القانونية الرسمية»، وكان بعيو أظهر تعاطفه في تصريح سابق مع الأمازيغ في «رفضهم ومقاومتهم لممارسات حكومة الدبيبة».

لكن مسؤولاً سابقاً في وزارة سيادية بالبلاد أرجع ما يجري حول المعابر راهناً إلى «أزمة شرعية». وأضاف في تصريح لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «عندما تكون شرعية الدولة مهزوزة بشكل أو بآخر، تلجأ الأطراف المتحصنة بالقوة إلى شرعنة الوضع الخاطئ، والإبقاء عليه». وشدد المسؤول على أن «المعابر يجب أن تكون تحت سلطة الدولة التي تمثلها الحكومة... زوارة لا تعتد بوزير داخلية (الوحدة)، وهناك أطراف تشجع وتغدّي تلك الأزمات لأسباب تتعلق بالتهريب، وهذا الوضع نشأ بعد 2011».

لماذا المعابر؟

لا يبرّر أي من قادة الأمازيغ أسباب تمسّكهم بإدارة معبري رأس جدير وذهيبة - وازن، ولكن إزاء ما يعدّه ناشطون وساسة ليبيون «خروجاً على سلطة الحكومة» التي يخضعون لها إدارياً، ترى صحيفة «لوموند» الفرنسية أن ما يحدث في رأس جدير يعكس «صراعاً على السلطة». ولفتت الصحيفة، يوم الثلاثاء، إلى أن الطرابلسي يريد وضع يده على هذه المنطقة الاستراتيجية التي على الرغم من وجود قوات شرطية فيها تحت قيادة طرابلس، لا تزال تحت السيطرة الفعلية لما سمته «الميليشيات الأمازيغية» التابعة للمجلس العسكري لمدينة زوارة.

وبالمثل، أرجع قرادة الأزمة في جوانب منها إلى الطرابلسي، عندما ادعى أن «تصرّفاته منذ تكليفه قبل عام ونصف عام توضح استهداف حكومته للأمازيغ، بفرض تقسيمات جديدة لمديريات الأمن (بجبل نفوسة - الغربي) رفضاً لكل المناشدات». وعن المعبرين، قال إنهما «يقعان في النطاق الإداري لبلديتي زوارة ونالوت، وهما منطقتان أمازيغيتان». وتساءل: «لماذا يبدأ الطرابلسي بمناطق وجود الأمازيغ؟ أليست هناك مديريات ومنافذ مناطق أقرب إلى العاصمة طرابلس من زوارة ورأس جدير؟»... وخلص إلى القول إن الحكومة «تغفل ولا تجهل خلفيات الصراعات، حين كان وزيرها المكلف في الطرف المقابل للأمازيغ في الحروب السابقة، وخصوصاً حرب 2014».

دعاوى الانفصال

في الحقيقة، تحقّق للأمازيغ بعد رحيل القذافي ما لم يتحقق قبله، فبعد 12 سنة من مقتله عادت اللغة الأمازيغية إلى الفصول الدراسية بعد حظر ومطاردة. وفي مطلع عام 2023، افتتح الدبيبة قناة «الأمازيغية». وفي 31 يناير (كانون الثاني) الماضي، احتفلوا برأس السنة الأمازيغية 2974 وتلقوا التهاني من رأس السلطة في ليبيا.

ومع أنه لا يوجد إحصاء حديث ومعاصر لتعداد الأمازيغ في ليبيا، تقدّر الموسوعة البريطانية نسبتهم بـ6.8 في المائة من مجموع السكان، المقدّر ما بين نحو 7 ملايين و8 ملايين.

من جهة ثانية، ترافقت الأزمة الحاصلة مع اتهامات للأمازيغ بـ«التمرد» والسعي لـ«الانفصال». لكن قرادة يردّ: «العارف بالتاريخ والجغرافيا السياسية والاجتماعية للوجود الأمازيغي في ليبيا سيتيقّن أنهم ليسوا باسك إسبانيا ولا تأميل سريلانكا ولا شعوب جنوب السودان». ويضيف: «بالدليل المؤكد، إنه في حالة الحرب والانقسام وضعف الدولة لم تظهر أي مطالبة أو نشاط سياسي من الحراك الأمازيغي، يدعو أو يطالب بالاستقلال أو الانفصال».

ومع وجود اتهامات للأمازيغ بكثرة الشكوى من التهميش والنزوع نحو التميّز، أرجع أحد قادتهم ذلك إلى تمسكهم بما أسماه بـ«الحق الأمازيغي من دسترة الهوية والحقوق، وضمان التمثيل السياسي والتنموي العادل... أي أنه ضمان الكيان الليبي». وأردف: «الذين يروّجون لوجود دعوات أمازيغية للانفصال، فهذه دعوات مغرضة وذرائعية سياسية أو عنصرية عرقية قبلية، وهم قلة قليلة... ولكن لا يجب الاستهانة بتأثيرهم السلبي للتأجيج ضد الأمازيغ».

أما قرادة فعدّ «أن التعايش والتشارك الليبي العربي الأمازيغي عميق راسخ وواسع ممتد في كل مناحي الحياة، ولم تؤثر فيه الأحداث الجسام... فالعربية والأمازيغية مترافقتان، والمالكية والإباضية متآخيتان، في الأحياء والمساجد والمدارس والوظائف والأسواق»

.إفطار على بوابة المعبر

في أي حال، تنفس الليبيون الصعداء. فمع أذان مغرب يوم الأربعاء الماضي 27 مارس (آذار)، كانت أزمة معبر رأس جدير قد طُويت، مؤقتاً، بعد الاتفاق على تأمينه بقوة عسكرية مشتركة من رئاسة الأركان التابعة لـ«الوحدة»، وكتائب مدينة زوارة، وجلس أفرادها يتناولون طعام الإفطار الرمضاني معاً. وبعد أسبوع من انتظار الحرب، شدّد الدبيبة، خلال لقائه بالنمروش، على ضرورة أن «يكون الهدف الأساسي لهذه القوة بسط الأمن ببوابة رأس جدير بعيداً عن التجاذبات السياسية والقبلية، وأن تكون هذه الرسالة الأساسية لهذه القوة العسكرية».

زوارة كانت قد تقدّمت الصفوف عقب الإطاحة بنظام القذافي واستولت قواتها العسكرية على منطقة رأس جدير

عماد الطرابلسي (وزارة داخلية حكومة "الوحدة الوطنية")

«سلطة الأمر الواقع» في ليبيا... وسلطة الدولة

> بدا لبعض ساسة ليبيا أن «الأوضاع الاستثنائية» التي نشأت خلال سنوات الفوضى لبعض المناطق ولأجسام سياسية وتشكيلات مسلحة، قد تتغير بمرور الوقت، لكن بعد عقد ونيف على إسقاط النظام السابق تأكد لجُل الليبيين أن هذه الأجسام أضحت كيانات قادرة على الدفاع عن نفسها بمقتضى «سلطة الأمر الواقع». فالانفلات الأمني الذي ضرب ليبيا، وغياب دستور في البلاد منذ رحيل القذافي، أديا إلى استمرار الأجسام السياسية الحالية في عملها، سلطة تشريعية وتنفيذية، على الرغم من انتهاء مدة ولايتها. هذه الأجسام لا تقتصر على المجلس الرئاسي ومجلسه فقط، بل تصل أيضاً إلى المجلس الأعلى للدولة، ومجلس النواب في «شرق ليبيا»، بالإضافة إلى الميليشيات المسلحة، التي تنزع سلطتها بقوة السلاح في عموم البلاد، وتتغوّل على سلطة الدولة... الكل استمرأ «الوضع الاستثنائي» وأبقى عليه ليغدو بمضي الوقت «سلطة أمر واقع». ويرى محللون أنه إذا كانت الجهود التي بذلها المجلس الرئاسي الليبي أفلحت في طي صفحة النزاع على معبر رأس جدير، فإن الأزمة كشفت عن نجاح التشكيلات المسلحة في فرض كلمتها على السلطة الرسمية، ما يعد «أمراً خطيراً يقوض دعائم الدولة». وحقاً، يُنظر إلى التشكيلات المسلحة الليبية على أنها «من أكبر معوقات الاستقرار»، ولا سيما تلك التي تنتمي لبعض القبائل، وتدافع عنها، إما لفرض أجندتها وحماية مصالحها، أو لصدّ تغوّل الآخرين عليها. ولقد سبق أن حذر المجتمع الدولي في السنوات الأولى التي تلت إسقاط نظام القذافي من «نشوء مؤسسات موازية في ليبيا، أو فرضها بسياسة الأمر الواقع باستخدام القوة». وأمام كل أزمة، تتجه الأنظار إلى التشكيلات المسلحة باعتبارها «سلطة أمر واقع» فرضت نفسها مع مرور الوقت، سواء في حراسة المعابر وحقول النفط. وفي فبراير (شباط) الماضي، أجبرت المجزرة التي ارتُكبت في حي أبو سليم بالعاصمة طرابلس سلطات المدينة على الاتجاه لإخراج الميليشيات منها وإعادتها إلى مقارها وثكناتها. وأعلن عماد الطرابلسي، وزير الداخلية المكلف بحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، في وقت سابق أنه بعد مشاورات ومفاوضات، امتدت لأكثر من شهر، أمكن التوصل إلى «اتفاق مع الأجهزة الأمنية لإخلاء العاصمة بالكامل خلال المدة المقبلة»، التي توقّع أن تكون بعد نهاية شهر رمضان. وكان الليبيون استيقظوا على جريمة مروعة، قبل نهاية الشهر الماضي، وقعت في حي أبو سليم، الواقع جنوب العاصمة طرابلس، راح ضحيتها 10 أشخاص في ظروف غامضة.


مقالات ذات صلة

«العليا للانتخابات» الليبية تعلن نتائج «المحليات» الأحد

شمال افريقيا المفوضية العليا للانتخابات حسمت الجدل حول موعد إعلانها نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية (أ.ف.ب)

«العليا للانتخابات» الليبية تعلن نتائج «المحليات» الأحد

حسمت المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا الجدلَ حول موعد إعلانها نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية.

خالد محمود (القاهرة)
شمال افريقيا سيف الإسلام القذافي خلال تقدمه بأوراقه للترشح في الانتخابات الرئاسية في 14 نوفمبر 2021 (رويترز)

«الجنائية الدولية» تعيد سيف الإسلام القذافي إلى واجهة الأحداث في ليبيا

تتهم المحكمة الجنائية سيف الإسلام بالمسؤولية عن عمليات «قتل واضطهاد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية» بحق مدنيين، خلال أحداث «ثورة 17 فبراير».

جاكلين زاهر (القاهرة)
شمال افريقيا الدبيبة خلال لقائه عدداً من عمداء البلديات (حكومة الوحدة)

رئيس «الوحدة» الليبية يطالب مجدداً بـ«قوانين عادلة» لإجراء الانتخابات

تمسك عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، مجدداً بضرورة وجود «قوانين عادلة» لإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية المؤجلة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
خاص تواجه دعوات تحجيب النساء «جبراً» رفضاً لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات (أ.ف.ب)

خاص دعوات «إلزامية الحجاب» تفجر صراعاً مجتمعياً في ليبيا

بعد إعلان السلطة في غرب ليبيا عن إجراءات واسعة ضد النساء من بينها "فرض الحجاب الإلزامي"، بدت الأوضاع متجه إلى التصعيد ضد "المتبرجات"، في ظل صراع مجتمعي محتدم.

جمال جوهر (القاهرة)
شمال افريقيا الحويج و«الوزير الغيني» (وزارة الخارجية بحكومة حماد)

زيارة «وزير غيني» لحكومة حمّاد تفجر جدلاً في ليبيا

بعد أكثر من أسبوعين أحدثت زيارة أجراها «وزير دولة في غينيا بيساو» لحكومة شرق ليبيا حالة من الجدل بعد وصفه بأنه شخص «مزيف».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.