هل يعني فوز مودي المرتقَب تحوّل الهند إلى حكم الحزب الواحد؟

أكبر دولة ديمقراطية في العالم تتأهب لسباق انتخابي طويل ومصيري

ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
TT

هل يعني فوز مودي المرتقَب تحوّل الهند إلى حكم الحزب الواحد؟

ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)
ناخبات أمام أحد مراكز الاقتراع في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند ... خارج المعاقل المضمونة لبهاراتيا جاناتا (رويترز)

من المقرّر أن تُجري الهند انتخاباتها العامة الثامنة عشرة اعتباراً من أبريل (نيسان) فصاعداً، وفيها يسعى رئيس الوزراء ناريندرا مودي، إلى الحصول على فترة ولاية ثالثة في السلطة بعدما فاز حزبه الهندوسي القومي اليميني (بهاراتيا جاناتا) بعدد مذهل من المقاعد بلغ 303 في انتخابات 2019. «بهاراتيا جاناتا» متفائل حقاً إزاء فرصه الانتخابية، وقد حدد هدفاً لانتزاع 370 مقعداً بمفرده وأكثر من 400 مع حلفائه. ويُذكر أن مودي قاد حزبه إلى السلطة للمرة الأولى عام 2014 حين فاز بـ282 مقعداً في مجلس النواب (اللوك سابها) الذي يضم 543 مقعداً، وهي الغالبية الأكبر لحزب واحد خلال 30 سنة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2019 سيطرت الحكومة الائتلافية على 353 مقعداً. أما اليوم فيتوقع الخبراء السياسيون مع استطلاعات الرأي أن الناخبين لا يزالون ينظرون إلى مودي على أنه زعيم شعبي (رغم أن مثل هذه الاستطلاعات غالباً ما يكون لديها سجل ضبابي من حيث الدقة)، وأن فترة ولاية ثالثة على التوالي بالنسبة إلى ناريندرا مودي في الانتخابات البرلمانية المقبلة تبدو «حتمية تقريباً».

نتيجة الانتخابات الهندية المقبلة ليست أمراً محسوماً، إلا أن معظم المحللين يتوقعون فوز حزب «بهاراتيا جاناتا» بزعامة ناريندرا مودي بخمس سنوات أخرى في الحكم. وبعد عقد من الزمان في السلطة، تشير استطلاعات الرأي إلى أن مودي، بفضل سياسته الشعبوية المتشددة قومياً ودينياً، ما زال يحظى بدعم كثرة من الهنود، بينما لا تحظى أحزاب المعارضة الرئيسة بتأييد موازٍ.

الهند، توصف تقليدياً، بأنها أكبر دولة ديمقراطية في العالم، إذ تضم مليار ناخب (969 مليون ناخب مسجَّل). وهذا يعني أن أكثر من 10 في المائة من سكان العالم (أكبر من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي) مؤهلون لاختيار الأعضاء المنتخبين البالغ عددهم 543 عضواً في مجلس النواب (أحد مجلسَي البرلمان) في الفترة من 19 أبريل (نيسان) إلى 1 يونيو (حزيران) المقبلين. وبموجب النظام البرلماني في البلاد، يشكّل الحزب الذي يفوز بغالبية المقاعد الـ543 في مجلس النواب، الحكومة، ويُعيَّن مرشحه رئيساً للوزراء.

وبالتوازي، لدى الهند الانتخابات الأعلى تكلفة في العالم، إذ أنفقت الأحزاب السياسية أكثر من 7 مليارات دولار عام 2019، مقارنةً بـ6.5 مليارات دولار أُنفقت في الولايات المتحدة خلال انتخابات 2016. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم في انتخابات العام الجاري.

لماذا طول المدة؟

هذه التظاهرة الأكبر من نوعها في العالم، تحتاج إلى مدة 44 يوماً قبل إعلان نتائج تصويتها يوم 4 يونيو المقبل. ويتلخص الأمر في سببين رئيسين، هما: الحجم الهائل للهند لأنها الدولة الأكثر سكاناً في العالم، ومستوى الخدمات اللوجيستية اللازمة لضمان أن كل ناخب مسجَّل يستطيع الإدلاء بصوته.

الخبراء يذكرون أن السبب المباشر للانتخابات متعددة المراحل يتعلق بالأمن؛ إذ سيشرف على تنظيم هذه التظاهرة الضخمة «جيش» مؤلّف من 15 مليون من المسؤولين وأفراد الأمن الذين سيجوبون صحاري البلاد وأدغالها وجبالها وجزرها في محاولة للوصول إلى كل ناخب. ويتولى هؤلاء الإشراف على التصويت في أكثر من مليون مركز اقتراع بمساعدة 5.5 مليون جهاز اقتراع إلكتروني. وهنا نلفت إلى أن هناك 18 مليون ناخب سيُدلون بأصواتهم للمرة الأولى، في حين يحق لـ197 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة الإدلاء بأصواتهم. ويتوجب على اللجنة الانتخابية المشرفة التأكد من وجود قلم اقتراع (كشك تصويت) في حدود كيلومترين (1.2 ميل) من كل ناخب.

راهول غاندي (آ ف ب)

فوز مودي المرجَّح

في المشهد السياسي الحالي في الهند، ثمة إجماع بين المحللين السياسيين على أن فوز مودي وحزب «بهاراتيا جاناتا» هو «أكثر النتائج معقولية»، وذلك لشعبية مودي بوصفه رجل سياسة قوياً، والأجندة القومية المتشددة لحزب «بهاراتيا جاناتا»، لا سيما في ولايات قلب البلاد المعروفة بولايات «الحزام الهندي».

في هذه الولايات الناطقة باللغة الهندية يحظى مودي بشعبية واسعة جداً. وتركز كل التعليقات الإعلامية فقط على ما إذا كان سيتمكن من تحسين سجله السابق لعام 2019، والحقيقة أنه حدد بنفسه هدفه المتمثل بإحراز 370 مقعداً، في حين أعرب نقاد مودي وخصومه عن أسفهم لأن انتصاره سيُثبّت مكانته ويعزز تفرّده بالسلطة.

ديمقراطية «الحزب الواحد»

وفعلاً، تصاعدت شكاوى «الديمقراطية ميتة» منذ أصبح ناريندرا مودي رئيساً للوزراء. وازداد القلق، خلال السنوات الأخيرة، بشأن اتجاه الديمقراطية في الهند، مع تساؤل كثيرين عمّا إذا كانت البلاد تتجه نحو «سيناريو» هيمنة «الحزب الواحد». ولقد أثارت هيمنة حزب «بهاراتيا جاناتا» سواء على المستوى المركزي ومستوى الولايات، إلى جانب مزاعم باستهداف أحزاب المعارضة وقادتها، وتسليح الوكالات المركزية، والتلاعب بالانتخابات، تساؤلات جدّية إزاء صحة المؤسسات الديمقراطية في الهند.

راهول غاندي، عميد حزب المؤتمر الوطني الهندي المعارض -الذي أسَّس الهند المستقلة وحكم الهند لعقود من الزمان منذ استقلالها- يشكل المنافس الرئيس لمودي، ولقد حمل شخصياً هذه الرسالة إلى الجماهير الدولية أكثر من مرة. وخلال الأسبوع الماضي، أعلن حزب المؤتمر عن تعرض حساباته المصرفية للإغلاق، وكرّر راهول غاندي القول: «إن الديمقراطية قد ماتت». وحول هذا يقول أودايان بانديوبادياي، العالم السياسي: «تحوًلت الهند، إبان حكم مودي، بالفعل، من ديمقراطية برلمانية إلى ديمقراطية غالبية، وصارت غالبية ركائز النظام الديمقراطي -السلطة التنفيذية والقضاء والإعلام- خاضعة لنفوذ الحزب الحاكم».

وفي حين أن أبرز السمات المميزة لأي ديمقراطية نابضة بالحياة هي وجود معارضة قوية تُحمّل الحزب الحاكم المسؤولية عن تصرفاته، كانت هناك حالات كثيرة استهدفت فيها حكومة حزب «بهاراتيا جاناتا» زعماء المعارضة وأحزابها. وفي هذا المجال، يطلق النقاد وزعماء المعارضة اتهامات خطيرة ضد «بهاراتيا جاناتا» بأنه كان يتلاعب بوكالات مركزية مثل «إدارة إنفاذ القانون» و«إدارة ضريبة الدخل» لاستهداف المعارضين السياسيين. وثمة مزاعم أيضاً بشأن الاستهداف الانتقائي، حيث يواجه قادة المعارضة تمحيصاً مفرطاً، في حين يُمنح مناصرو الحزب الحاكم حرية مطلقة في التحرك.

في هذا السياق، أُدين راهول غاندي العام الماضي بتهمة التشهير وحُكم عليه بالسجن لمدة سنتين في أعقاب تصريحاته ضد مودي خلال تجمع حاشد من أنصاره. وعلاوة على ذلك، أوقفت «إدارة إنفاذ القانون» هذا الأسبوع أرفيند كيريوال، رئيس وزراء دلهي، بتهمة اختلاس الأموال، ومن الواضح أن قادة المعارضة وأحزابها يُستهدَفون بطريقة تشلّ حركتهم مباشرةً قبل بدء التصويت في الانتخابات. وفي ضوء هذا علّق الأمين العام الوطني لحزب المؤتمر رانديب سينغ سورجيوالا بالقول: «حكومة مودي تدمر الديمقراطية وتعصف بدستور الهند. وهي تحاول خنق صوت المعارضة بتخويف قادتها عبر أجهزة التحقيق مثل إدارة إنفاذ القانون ومكتب التحقيقات المركزي وإدارة ضريبة الدخل». وأشار إلى كيفية اعتقال رئيس وزراء دلهي، وأردف: «إن هذه ستكون الانتخابات الأخيرة التي ستقرّر ما إذا كانت الديمقراطية ستصمد في البلاد أم لا».

هل يمكن إنقاذ الديمقراطية؟

بالمناسبة، هذه ليست المرة الأولى التي تمرّ فيها الديمقراطية الهندية بأزمة. فخلال يونيو (حزيران) 1975، في خضمّ نوبة من الاضطرابات المدنية، أعلنت إنديرا غاندي، رئيسة الوزراء وزعيمة حزب المؤتمر (آنذاك) وجدة راهول غاندي، عن بداية ما تسمى «حالة الطوارئ»، التي علّقت بموجبها مؤقتاً الحقوق والحريات الأساسية. واستمر هذا الوضع نحو سنتين، قبل أن تُرفع «حالة الطوارئ» فجأة في مارس (آذار) 1977.

في حينه، أعلنت إنديرا غاندي عن إجراء انتخابات جديدة خسرها حزب المؤتمر، وغادرت غاندي السلطة طواعية -فقط لكي تعود بعد الجولة التالية من الانتخابات. وبالتالي، انتقلت الديمقراطية الهندية بعيداً عن النظام الذي يهيمن عليه حزب المؤتمر إلى نظام أكثر صحة يقوم على التعددية الحزبية. ولكن، هل يوفّر هذا سبباً للتفاؤل بأن مودي قد يسقط بطريقة مفاجئة مماثلة؟

الخبراء الذين تحدثنا معهم أعربوا عن شكوكهم في ذلك؛ إذ رأى محمد ضياء الله خان، الكاتب المستقل، أنه «في حين كانت حالة الطوارئ تعليقاً صارخاً للديمقراطية رداً على الأحداث المباشرة، فإن الاستيلاء على السلطة في حالة مودي ينطوي على فساد أكثر دهاءً وديمومة للمؤسسات قد تكشّف على مدى سنوات. تلقت الديمقراطية في الهند صدمة قوية لدى الكثير من التصنيفات الدولية. وقد خفّض «معهد أنواع الديمقراطية» في السويد التصنيف الهندي إلى «دولة استبدادية انتخابية» العام الماضي فقط، كما وصف معهد «فريدوم هاوس» في الولايات المتحدة الهند بأنها «حرة جزئياً». وهو «ما يغذّي الاعتقاد بأن مودي يسيء بشدة إلى دستورنا، وأن الغالبية الهندوسية تدمّر التقاليد الديمقراطية العلمانية في الهند». إلا أن أميتاب تيواري، المحلل الاستراتيجي والمعلق السياسي، قال: «الهند بعيدة كل البعد عن كونها ديمقراطية الحزب الواحد. قد نشهد هيمنة حزب سياسي واحد، هو (بهاراتيا جاناتا)، لكنّ الاستدلال على أن هذا الحزب علامة على ضعف الديمقراطية يعني أنها أضعف مما ينبغي».

معارضة ضعيفة ومنقسمة

لقد تزامن تدهور حزب المؤتمر مع صعود «بهاراتيا جاناتا»، الذي هو الآن في طريقه إلى سد الفراغ الذي خلّفه الحزب القديم. ولكن، بينما قد تكون الأحزاب الوطنية تغيرت، تظل الأحزاب الإقليمية ممسكة ببعض الأرضية.

في الانتخابات الهندية الأخيرة، تعرّض حزب المؤتمر لهزيمة مريرة أمام «بهاراتيا جاناتا»، غير أنه يأمل في تشكيل تحدٍّ أكبر لنفوذ مودي من خلال التحالف والتكاتف مع الأحزاب الإقليمية. وحقاً قرر حزب المؤتمر خوض انتخابات هذا العام تحت شعار «التحالف الوطني التنموي الهندي الشامل»، المعروف باسم «تحالف إنديا»، (I.N.D.I.A)، وهو ائتلاف يضم 26 حزباً. وهنا نشير إلى أن حزب المؤتمر احتل المرتبة الثانية بفارق بلغ 52 مقعداً عام 2019. ومثّل ذلك، على الأقل، تحسناً طفيفاً مقارنةً بأسوأ أداء للحزب عندما حصل فقط على 44 مقعداً عام 2014.

في مطلق الأحوال، التحالف الذي شُكّل لمواجهة مودي يكافح الآن من أجل التماسك، ووفق الصحافي البارز بوشاب ساراف، «من دواعي السرور لحزب (بهاراتيا جاناتا) أن أحزاب المعارضة الهندية منقسمة وضعيفة. لكنهم إذا تمكنوا من توحيد قواهم ووضع دعمهم خلف مرشح واحد قوي لتحدّي (بهاراتيا جاناتا) في دوائر فردية، قد يفوزون بمزيد من المقاعد. المفاوضات من أجل ذلك أثبتت للآن أنها عسيرة. والأسوأ من ذلك، أن تحالف المعارضة الهشّ لم يُعيّن بعد مرشحاً بديلاً جديراً بالثقة لمنصب رئيس الوزراء. والواقع أن راهول غاندي، زعيم حزب المؤتمر، وعميد أسرة نهرو - غاندي التي قادت الهند بعد استقلالها، يعدّ اختياراً واضحاً، لكنّ كثيرين يرون أنه مجرد «هاوٍ» وليس محترفاً. ثم إن الساسة الإقليميين الناجحين في المنطقة لا يتمتعون إلا بقدر محدود من النفوذ خارج ولاياتهم».

في هذه الأثناء، تبقى شعبية مودي مرتفعة، ولا تزال خلفيته المتواضعة وجاذبيته الشخصية تجتذب الشباب والطموحين، لا سيما في الفئات الطبقية التي كانت تاريخياً مستبعَدة عن السلطة والثروة. وهنا يشرح سانجيف شارما، الأمين العام لجمعية العلوم السياسية الهندية، أن «محاولة راهول غاندي على امتداد البلاد فشلت في توحيد صفوف المعارضة ناهيك بالدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة. ويجد (تحالف إنديا) -الذي يضم حزب المؤتمر وما يقرب من 20 حزباً معارضاً آخر- صعوبة في للتغلب على الخلافات والانشقاقات بسبب الصعوبات القانونية ومشكلات التمويل الضخمة. ولذا فلحزب (بهاراتيا جاناتا) اليد الطولى نفسياً، في حين يخوض غاندي معركة خاسرة».

غير أن آخرين يناقضون هذا الرأي ويشعرون بأنه من الظلم أن يُشطب حزب المؤتمر وغاندي؛ إذ إن راهول -حفيد رئيسة الوزراء الراحلة إنديرا غاندي وابن رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي- يُمضي أيامه في التواصل مع الناخبين من مختلف شرائح المجتمع الهندي المتنوع. وهنا تساءل دورو آرون كومار، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الهندي للتكنولوجيا في جامو: «كم من كبار السياسيين في الحزب الحاكم ترونه يخرج في مسيرات طويلة ويلتقي الناس ويستمع إلى مشكلات الرجل العادي؟».

تزامن تدهور حزب المؤتمر مع صعود «بهاراتيا جاناتا» الذي هو الآن في طريقه إلى سد الفراغ الذي خلَّفه الحزب القديم

مودي يحضر احتفال تدشين المعبد الهندوسي الذي شيد على انقاض المسجد البابري في آيوديا (رويترز)

المسلمون في حسابات مودي و«بهاراتيا جاناتا»

> شكلت نتائج الانتخابات في الولايات الهندية الخمس التي أجريت في ديسمبر (كانون الأول) دفعة قوية لحزب «بهاراتيا جاناتا» الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، والذي فاز بأربع منها، بينما جاء النصر الوحيد لحزب المؤتمر المعارض في ولاية تيلانغانا بجنوب البلاد. وحسب ميلان فايشناف، الزميل البارز ومدير برنامج جنوب آسيا ومضيف نشرة «غراند تاماشا» الإذاعية في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”، فإن هذه النتائج «تؤكد ما هو معروف بالفعل، ففيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية لعام 2024، لا يزال بهاراتيا جاناتا في الصدارة. وهذه الميزة مدفوعة بالأساس بشعبية مودي الدائمة». وبالفعل، خطوة بخطوة، على مدى العقد الماضي، «عزّزت» حكومة مودي «القاعدة القومية الهندوسية» لحزب بهاراتيا جاناتا، على حساب المكوّنات الهندية الأخرى؛ إذ في عام 2019، ألغت الحكومة التعديلات الدستورية التي تقيّد حقوق نيودلهي في تحديد كيفية حكم كشمير، التي هي الولاية الهندية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة. وفي وقت سابق من السنة الحالية، ترأس مودي شخصياً مراسم افتتاح معبد هندوسي جديد في أيوديا، في موقع المسجد البابري التاريخي الذي هدمه نشطاء قوميون هندوس عام 1992. وبعد فترة وجيزة، أعلنت الحكومة أن قانوناً جديداً مثيراً للجدل سيدخل حيّز التنفيذ ويسمح للهندوس والسيخ وغيرهم من الفارين من البلدان المجاورة ذات الغالبية المسلمة بالحصول على الجنسية الهندية، بل قد يجيز القانون أيضاً ترحيل المسلمين الذين يُعدون مهاجرين غير شرعيين. ومن ثم، يتوقّع كثيرون أن الخطوة التالية ستكون «قانوناً مدنياً موحّداً» - بخلاف رغبة المسلمين - يفرض الزواج المشترك، والنفقة، وترتيبات الحضانة على كل المواطنين الهنود بصرف النظر عن الدين. في هذا الجو، لم تتخذ المعارضة أي إجراء فعّال، حتى الآن، لإضعاف مودي رغم التوقعات الصحيحة بأنه حتى مع كل جهوده لن يحقق نتائج جيدة في الولايات الجنوبية غير الناطقة بالهندية. طبعاً، الانتخابات لم تُحسم بعد، وستعتمد نتيجتها إلى حد كبير على أداء مودي في قلب الهند وفي الولايات الغربية حيث ولايات «الحزام الهندي». وللعلم، سيسعى «تحالف إنديا» بقيادة «حزب المؤتمر» إلى مواجهة مودي في هذه المناطق. لكن الدبلوماسي السابق فيفيك كاتجو يعلّق قائلاً: «مع هذا، لا يبدو أن رسالة راهول والهند بأن مودي فشل في معالجة القضايا التي تؤثر على حياة الناس خلقت الزخم اللازم، على الرغم من جهوده الحالية لإزالة هالة مودي. ومن هنا لا يظهر أن المعارضة في الوقت الحالي قريبة على الإطلاق مما ينبغي أن يكون هدفها الأول في خلق شعور بأن مودي يمكن هزيمته. وما لم تفعل ذلك، فإن هذه الانتخابات المقبلة تكون قد حُسِمت بالفعل في الوقت المحدود للغاية المتبقي». أخيراً، بيّنت شركة «مورنينغ كونسولت» التي تتعقب معدلات التأييد الأسبوعية لأكثر من عشرين من قادة العالم المنتخبين ديمقراطياً، أن 78 في المائة من الهنود الذين شملهم الاستطلاع في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) راضون عن أداء مودي. بل إن صافي نسبة الرضا عن مودي (المحسوب حصةً من المستجيبين الراضين عن أدائه يُنقص منه غير الراضين) كان مذهلاً بأعلى من 60 نقطة. أما الزعيم الثاني الأكثر شعبية على القائمة فكان الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الذي لم يتجاوز تصنيفه الصافي 30 نقطة فأكثر فقط. ثم إن الرضا عن مودي ظل متماسكاً بشكل ملاحظ منذ أغسطس (آب) 2019، وهو التاريخ الذي كانت البيانات متاحة فيه لأول مرة.



الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
TT

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي على إيران، وعدّه انتهاكاً فظاً للقانون الدولي و«مرفوضاً بشكل قاطع»، انحيازاً لـ«الشريك الإيراني» في المواجهة القائمة، قد تكون له تبعات ملموسة، بقدر ما جاء تأكيداً لمواقف موسكو السابقة الرافضة لـ«السيناريو العسكري» لتسوية الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. لكن بدا أن الكرملين كان يتوقع هذا التطور، وأعد له العدة، على الرغم من تحذيراته المتكررة من «عواقب وخيمة» للحل العسكري، للتعامل مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط.

الرئيس فلاديمير بوتين كان الزعيم الوحيد الذي سارع فور اندلاع الحرب، إلى إجراء اتصالين مع كل من بنيامين نتنياهو ومسعود بزشكيان، ما أوضح أن موسكو فضّلت الوقوف في منتصف الطريق بين الطرفين. وبرز هذا تماماً عبر تأكيد بوتين أن تسوية الصراع القائم لا بد أن يقوم على إيجاد «توازن» واضح بين ضمان حق إيران في استخدامات الطاقة النووية للأغراض السلمية من جانب، وضمان مصالح إسرائيل وحقها في ألا تتعرّض لتهديد. وهذه اللهجة لم تكن مستخدمة كثيراً لدى الكرملين خلال السنوات الاخيرة.

لقد راوحت ردود الفعل الروسية على الضربات الإسرائيلية ضد إيران، بين «القلق» من تداعيات الحدث بعد «انهيار الجهود السلمية لتسوية الملف النووي»، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن تداعيات «رفع مستوى المخاطر» وجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح. وسارعت أوساط في موسكو لوضع «سيناريوهات» محتملة بينها انزلاق الوضع في المنطقة نحو «مواجهة شاملة» ترمي بآثارها على بلدان الشرق الأوسط.

بيان موسكو

أصدرت الخارجية الروسية بياناً شديد اللهجة أدان التحرك العسكري الإسرائيلي، وعدّه مخالفة «وانتهاكاً فظاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي». واتهمت موسكو إسرائيل بأنها «اتخذت قراراً واعياً لزيادة تصعيد التوترات ورفع مستوى المخاطر. ولقد تكرّرت التحذيرات من خطورة المغامرات العسكرية التي تهدد الاستقرار والأمن في المنطقة. وتقع مسؤولية جميع عواقب هذا الاستفزاز على عاتق القيادة الإسرائيلية».

لكن هذه اللهجة الانتقادية القوية من موسكو، التي تعزّزت بعد يومين بإدانة ما وصفه الكرملين بـ«إحجام إسرائيل عن العودة إلى المسار السياسي» ترافقت مع اتهام موسكو الدول الغربية بأنها «تتحمل جزءاً من المسؤولية عن التصعيد»، لكونها أثارت «الهستيريا المعادية لإيران في مجلس محافظي الوكالة» الذي كان قد تبنى قراراً يدين طهران قبل يومين فقط من وقوع الهجوم الإسرائيلي. وبدا جلياً أن موسكو تعمل بسرعة على بلورة موقفٍ تبني على أساسه خطواتها اللاحقة.

لا مساعدة عسكرية لطهران

السؤال الأول الذي تردد بشأن موقف الكرملين، ركّز على مدى جدية احتمال أن تتدخل موسكو عسكرياً لصالح إيران، وبخاصة في إطار «التعامل بالمثل» مع المساعدات المهمة التي قدمتها طهران لموسكو في الحرب الأوكرانية.

لكن بدا منذ اللحظة الأولى أن هذا الأمر ليس مطروحاً أصلاً ضمن حسابات الكرملين، كما أنه لا يوجد أساس قانوني لهذا التدخل. فاتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» المُبرم مع إيران في بداية العام، لا ينص على بند حول الدفاع المشترك، خلافاً لاتفاقية مماثلة وقعتها موسكو مع كوريا الشمالية العام الماضي وانعكست نتائجها عملياً في أوكرانيا.

صحيح أن الاتفاقية تؤكد «تعزيز التعاون في كل المجالات بما في ذلك العسكرية منها»، لكنها لا تلزم الطرفين بالتدخل في حال وقع اعتداء على أحدهما، مكتفية بإشارة إلى أنه «في حال تعرض أي طرف لعدوان خارجي فإن الطرف الآخر يلتزم بعدم مساعدة الأطراف المعتدية».

هذا لا يقلل بطبيعة الحال من أهمية الشريك الإيراني لموسكو في عدد من الملفات الكبرى التي تربط الطرفين، لكن الكرملين بدا أنه تحسّب لهذا «السيناريو» مُسبقاً، وخلافاً لتوقعات كثيرة تردّدت في أثناء صياغة النسخة النهائية من الاتفاقية، تجنّب أي إشارة فيها إلى موضوع الدفاع المشترك.

الاتصالات مع واشنطن

النقطة الثانية المهمة هنا، أن الحرب المشتعلة سببت حقاً نوعاً من الحرج للكرملين، وأظهرته عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه، لكنها في المقابل فتحت فرصاً جديدة لموسكو لتعزيز موقفها مع الولايات المتحدة ومحاولة جني مكاسب من التطورات. فقبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب أجرى الرئيسان الروسي والأميركي مكالمة هاتفية مطوّلة ركزت على الوضع حول إيران، إلى جانب تطورات الملف الأوكراني. واتضح بعد ذلك مباشرةً أن موسكو وواشنطن توصلتا إلى رأي متفق عليه: لا ينبغي لطهران امتلاك أسلحة نووية!

طبعاً، هنا ظهر إغراء كبير لإطلاق تكهنات مثيرة، تصب في إطار صفقة محتملة: «ترمب أعطى أوكرانيا لبوتين مقابل إيران».

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. ليس فقط لأن سيطرة واشنطن على الوضع حول أوكرانيا محدودة بعض الشئ، بل كما أظهرت مفاوضات واشنطن وكييف حول المعادن النادرة، فإن أوكرانيا تدافع عن مصالحها الأساسية في كل الأحوال.

ثانياً، هناك أيضاً دول أوروبية لها موقفها الخاص ويمكنها التأثير في الصراع، وخاصة على الموقف الأميركي.

وهناك أمر ثالث أهم بكثير. فمن تابع الوضع بدقة يتذكر جيداً أن موسكو، قبل ترمب وقبل بدء الحرب الأوكرانية، كانت تعارض امتلاك إيران الأسلحة النووية. لذا لم تحدث أي تحولات جوهرية في موقف الكرملين من هذه القضية، ما يدحض الكلام عن صفقة «أوكرانيا مقابل إيران».

مع هذا ـ مجرد مناقشة الموضوع الإيراني خلال مفاوضات بوتين - ترمب أمر جدير بالاهتمام. إذ أوحى أن واشنطن ربما كانت أقرب إلى التعامل مع وساطة روسية في هذا الملف، انطلاقاً - كما يقول خبراء روس - من أن ترمب «يفضل التوصل إلى خيارات على شن عمل عسكري واسع قد لا يمكن التكهن بنتائجه»، مع أنه يبدي حزماً لفظياً تجاه طهران.

ولكن لم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى اتضح أن ترمب شارك، وفق تعليقات خبراء روس وغربيين، في عملية تضليل استراتيجي لطهران. وأن الاتصالات التي أجراها وإبداءه قدراً من التعاطف مع فكرة الوساطة الروسية كانت جزءاً من ذلك التضليل.

أولويات الكرملين

صحيح أن روسيا أعلنت أكثر من مرة في السابق رفض امتلاك إيران أسلحة نووية، لكنها دافعت طوال سنوات عن حق طهران في تطوير استخدام الطاقة الذرية للأغراض الذرية من دون إظهار حساسية - خلافاً للغرب - تجاه مخاطر تحوّل البرنامج السلمي الإيراني إلى برنامج عسكري في وقت قصير نسبياً.

الموقف الروسي هذا بدا مستنداً ليس إلى مخاوف من جانب إيران نفسها بل إلى استراتيجية تقوم على رفض توسيع «النادي النووي» قبل وضع ضوابط وآليات للرقابة وتفاهمات جديدة مع الدول النووية الكبرى حول الانتشار وضبط التسلح. بعبارة أخرى تعارض موسكو فكرة إطلاق «فوضى نووية» أكثر من أن تكون معارضة لحق إيران بامتلاك السلاح النووي.

واللافت وجود تيارين أو رأيين لدى الأوساط المقربة من الكرملين في هذا الشأن: الأول يرى علناً إيران شريكاً استراتيجياً لموسكو، وهذه الشراكة أظهرت مستوى جديتها في المواجهة الراهنة بين موسكو والغرب، وعليه، فتعزيز قدرات إيران لا يخيف موسكو. والثاني يحذّر من ظهور جار نووي جديد لروسيا، متقلب الأهواء نوعاً ما، قد تتغير معالم سياسته الخارجية بناء على صفقات مع الغرب.

وعليه، فاحتمال إبرام اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن لم يكن السيناريو الأمثل للكرملين. ومع ذلك، فإن الفشل التام للمفاوضات أمرٌ خطير أيضاً، لأن السيناريو العسكري سيؤدي حتماً إلى زعزعة استقرار إيران، وربما الوضع في عموم جوار روسيا. ومن ثمّ، تمثّل السيناريو الأمثل لموسكو في تجنب الحل العسكري وترك طهران تخوض مفاوضات طويلة الأمد من دون أي نتائج حقيقية، أو الانخراط بشكل مباشر في المفاوضات للحصول على مكاسب مهمة في حال أمكن التوصل إلى صفقة.

اتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين روسيا وإيران لا ينص على الدفاع المشترك

فرص الوساطة الروسية

قبل اندلاع الحرب، كان المزاج السائد في موسكو أن الإيرانيين والأميركيين بحاجة حالياً لمشاركة روسيا. تحتاج طهران إلى وسطاء لزيادة فرص تنفيذ الاتفاق واستبعاد احتمال انسحاب ترمب، أو الرئيس الأميركي المقبل منه مجدداً خلال بضع سنوات. لذا، من مصلحة إيران إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف في الاتفاق: الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والصين، وروسيا، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

طهران تحتاج أيضاً إلى وسطاء كمصادر للمراقبين. وإذا اقتصر الاتفاق على الأميركيين فقط، فسيتعين منحهم حق الوصول لمراقبة المنشآت النووية الإيرانية. وواشنطن تحتاج إلى مشاركة روسيا لحل المسائل الفنية. وكانت روسيا، في الاتفاق السابق، من وافق على تسلّم الوقود النووي المستهلك من إيران، وهو ما لم يكن المشاركون الآخرون مستعدين للقيام به.

موسكو رأت أنه في إطار أي اتفاق سيتوجّب على إيران التخلص من فائض اليورانيوم. وبدا أن روسيا الطرف الوحيد المؤهل لتولّي هذه المهمة: أولاً، لامتلاكها القدرات التقنية اللازمة لقبوله ومعالجته. ثانياً، لأنها الخيار الذي تُصرّ عليه طهران. وفي النهاية، سيكون أسهل بكثير لإيران استعادة اليورانيوم المخصب من روسيا إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق مجدداً.

موسكو لم تغير أولوياتها تجاه هذا الموضوع مع اندلاع الحرب، بل عادت لطرح وساطتها بشكل ملحّ وأكثر من مرة عبر اتصالات أجراها بوتين مع عدد من قادة العالم. لكن المشكلة في عرض الوساطة الروسي افتقاره إلى آليات عملية، وإلى رغبة إسرائيل - والغرب عموماً - بالتعامل مع جهود موسكو. والأهم من هذين السببين، أن العرض يتناقض جوهرياً مع أهداف تل أبيب وواشنطن من هذه الحرب.

أيضاً، فضلاً عن اعتراض عدد من الدول الأوروبية على فكرة الوساطة الروسية، فإن الرئيس ترمب أيضاً نصح بوتين في مكالمة هاتفية «بأن يولي اهتماماً أكبر لتسوية الصراع في أوكرانيا بدلاً من عرض جهوده للتوسط بين إيران وإسرائيل». وللعلم، الأخيرة تجاهلت أصلا كل دعوات بوتين لبذل جهود للوساطة.

نقطة أخرى مهمة تضعف عرض الوساطة الروسية، هي أنه يقوم على فكرة العودة إلى التفاوض لتسوية الملف النووي، بينما الأحداث على الأرض تشير إلى انتقال واشنطن وتل أبيب إلى الحسم العسكري وتقويض البرنامج الإيراني كله.

سياسياً، يسعى الكرملين، إلى تجنيب إيران مصير التفكك أو تحضير الوضع الداخلي لتغيير جذري، بعد إضعاف السلطات الإيرانية واستهداف القيادات الأساسية أمنياً وعسكرياً، وهذا أيضاً أمر لا يحظى بقبول من جانب تل أبيب وواشنطن.

بوتين يحصد مكاسب

إن ضعف فرص الكرملين في التوسّط لإنهاء القتال لا يمنع الرئيس الروسي من تسريع وتيرة جني مكاسب بسبب اندلاع هذه الحرب. وهنا يقول خبراء إن احتمالات التفاوض على اتفاق ينهي الحرب وتقبل بموجبه إيران قيوداً أكثر صرامة على برنامجها النووي، تبدو ضئيلة للغاية بعد الهجمات الإسرائيلية. ولكن إذا استؤنفت المحادثات، قد يبرز عرض روسيا كعنصر محوري في أي اتفاق.

مع هذا، المكاسب الأهم لموسكو تتحقّق بالفعل في أوكرانيا حالياً. إذ تواصل القوات الروسية تقدمها على عدد من الجبهات، وتنفذ عملياً خطتها لإنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي وداخل العمق الأوكراني من سومي إلى خاركيف. وعملياً، تكرّس موسكو - التي تتأهب حالياً لاستكمال جولات التفاوض المباشر مع أوكرانيا - واقعاً ميدانياً جديداً يعزز موقفها ويضعف مجالات المناورة الأوكرانية ويضع كييف أمام شرط القبول بتنازلات إقليمية مؤلمة لتحقيق السلام.

وبالفعل، استغلت موسكو انصراف الاهتمام الدولي إلى جبهات القتال الإسرائيلية الإيرانية لتوسيع هجماتها العسكرية بشكل نشط. ويُجادل بعض المعلقين في موسكو بأن المواجهة في الشرق الأوسط أسفرت عن تشتيت انتباه الغرب وموارده على الأرجح عن الحرب في أوكرانيا، وتُسهّل على روسيا تحقيق أهدافها الميدانية.

أيضاً، استفادت موسكو من المزاج السياسي الأميركي الحالي، في تكريس عزلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن واشنطن، وحسم موضوع المساعدات العسكرية الأميركية المحتملة لكييف. وتبين ذلك عبر إلغاء لقاء يجمع زيلينسكي بترمب على هامش «قمة السبعة الكبار» في كندا أخيراً. ورأت موسكو ان إلغاء اللقاء يعكس تحولاً مهماً لدى واشنطن.

في أي حال، يرى دبلوماسيون بارزون أن التطوّرات الجارية ستدفع الرئيس ترمب إلى تعزيز تقاربه مع موسكو. كذلك، يرجّح مراقبون أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وستُساهم في إثراء روسيا وسط أزمتها الاقتصادية.

وعلى صعيد متصل، يتوقع مراقبون أنه مهما كانت نتائج هذه الحرب، في حال لم تسفر عن تقويض النظام الإيراني، سيتكرس واقع في إيران يخدم مصالح موسكو، لجهة بقاء «الحليف» مقرباً من موسكو وتقليص فرص الانفتاح على الغرب.

وللعلم، عملت موسكو بقوة على توظيف الحرب القائمة لخدمة سرديتها عن المواجهة مع الغرب. وبرزت تعليقات لمحللين مقرّبين من الكرملين حول أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية أظهرت أن امتلاك قدرات الردع النووي أفضل ضمان ضد محاولات «تحفيز» العمليات الداخلية بالقوة العسكرية الخارجية.