لوران غباغبو... رئيس كوت ديفوار السابق الطامح للعودة إلى الأضواء

يسعى مجدداً للسلطة رغم «عدم أهليته» قانونياً

عام 2002 اتُّهم أنصار غباغبو بتنفيذ هجمات معادية للأجانب في المناطق التي يسيطرون عليها وكذلك ضد أولئك الذين يتحدرون من الشمال ذي الغالبية المسلمة
عام 2002 اتُّهم أنصار غباغبو بتنفيذ هجمات معادية للأجانب في المناطق التي يسيطرون عليها وكذلك ضد أولئك الذين يتحدرون من الشمال ذي الغالبية المسلمة
TT

لوران غباغبو... رئيس كوت ديفوار السابق الطامح للعودة إلى الأضواء

عام 2002 اتُّهم أنصار غباغبو بتنفيذ هجمات معادية للأجانب في المناطق التي يسيطرون عليها وكذلك ضد أولئك الذين يتحدرون من الشمال ذي الغالبية المسلمة
عام 2002 اتُّهم أنصار غباغبو بتنفيذ هجمات معادية للأجانب في المناطق التي يسيطرون عليها وكذلك ضد أولئك الذين يتحدرون من الشمال ذي الغالبية المسلمة

طامحاً في العودة إلى الأضواء بعد سنوات السجن، يسعى رئيس كوت ديفوار السابق لوران غباغبو إلى الترشح لرئاسة البلاد في الانتخابات المقرر عقدها العام المقبل، وهذا رغم «لا أهليته» كونه سبق الحكم عليه بالسجن في اتهامات بـ«السرقة». ويسعى الرئيس السابق (79 سنة) إلى الصعود مرة أخرى إلى قمة السلطة في البلد الواقع غرب أفريقيا، بعد مراحل هبوط وصعود وسمت حياته السياسية، وحولته من معارض إلى رئيس ومن ثم إلى سجين. وفي العاشر من مارس (آذار) الحالي، أعلن حزب «الشعوب الأفريقية - ساحل العاج» المعارض، موافقة غباغبو على الترشح في الانتخابات الرئاسية المتوقع إجراؤها في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، ما أثار تساؤلات حول إمكانية تحقيق ذلك قانونياً، وما إذا كان الرئيس السابق الذي لم يتمكن من الإدلاء بصوته في الانتخابات المحلية التي جرت في سبتمبر (أيلول) الماضي، قادراً بالفعل على المنافسة على كرسي الحكم، لا سيما أن حزبه فشل في الفوز في الانتخابات المحلية وطعن في نتائجها.

على الرغم من أن لوران غباغبو، الذي حكم كوت ديفوار في الفترة من عام 2000 وحتى عام 2011، برأته المحكمة الجنائية الدولية عام 2019، من اتهامات بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية» إبان أحداث العنف الدموية التي أعقبت الانتخابات في 2010 و2011، فإنه أدين في بلده عام 2018، بتهمة «سرقة» البنك المركزي لدول غرب أفريقيا عام 2011، وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين سنة.

بيد أن غباغبو لم ينفذ العقوبة، وذلك لكون الرئيس الحالي لكوت ديفوار الحسن واتارا أصدر عام 2022 قراراً بالصفح عنه، الأمر الذي جنبه السجن لكنه لم يلغ العقوبة.

جدير بالذكر، أنه بموجب القانون في كوت ديفوار «لا يحق لأي شخص محكوم أن يترشح للانتخابات». لكن على ما يبدو، فإن لدى حزب الرئيس السابق، «حزب الشعوب الأفريقية - ساحل العاج»، رأياً آخر؛ إذ أعلن عزمه عقد «مؤتمر استثنائي لتسمية غباغبو مرشحاً رسمياً». وعدّ الانتخابات الرئاسية والاستحقاقات الانتخابية الأخرى خلال عام 2025 «أولوية».

ليس هذا فحسب، بل أشار الحزب أيضاً إلى أنه «سيسعى إلى إعادة تسجيل اسم غباغبو على لائحة الانتخابات»، بعدما جرده الحكم الصادر في 2018 من حقوقه المدنية والسياسية، وبالتالي شطب اسمه من اللوائح الانتخابية.

خلفية شخصية

ولد لوران غباغبو يوم 31 مايو (أيار) 1945، لعائلة كاثوليكية كانت تعيش في قرية ماما، القريبة من بلدة غانيوا بوسط غرب كوت ديفوار. وهي منطقة اشتهرت بزراعة الكاكاو.

بعدها تلقى تعليماً كلاسيكياً واختار المجال الأكاديمي لا سيما، بحصوله على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة باريس - السوربون، حيث كان أقرانه يلقبونه بـ«شيشرون»، (الفيلسوف والخطيب الروماني)، بسبب حبه للغة اللاتينية إبان فترة دراسته. وبالفعل، بدأ حياته المهنية محاضراً جامعياً، وسُجن لمدة سنتين في عام 1971 بتهمة «التدريس الهدام». وكان اسمه الحركي، وقتها، «الأخ الأصغر». أما على الصعيد العائلي، فغباغبو أب لابنتين من زوجته سيمون، وابن من زواج أول بسيدة فرنسية، اسمه ميشال هو كاتب ونائب عن «الجبهة الشعبية لساحل العاج».

نقابات ويسار

عبر الحركة النقابيّة خطا غباغبو أولى خطواته السياسية، مكرّساً اسمه بوصفه معارضاً سياسياً يسارياً دخل في مواجهات مع السلطة أدت إلى سجنه.

وفي الثمانينات من القرن الماضي، شارك في النشاط النقابي بين الأكاديميين. وكان من أوائل الذين تحدّوا الرئيس المؤسس لساحل العاج «أبو الأمة» فيليكس هوفويت بوانيي، من خلال تأسيسه سراً حزب «الجبهة الشعبية» في نظام دولة الحزب الواحد التي يرأسها بوانيي، ما أدى إلى سجنه ثم نفيه إلى فرنسا عام 1982.

بعد ست سنوات عاد غباغبو إلى كوت ديفوار، وعام 1990 بدأ العمل السياسي علناً، مع ظهور نظام التعددية الحزبية الذي حارب من أجله، ودشن حزب «الجبهة الشعبية الإيفوارية». وفي حينه، واجه بوانيي في أول انتخابات تعدّدية عرفتها البلاد عام 1990، إلا أنه خسر.

المعارض رئيساً

ولكن، بعد 20 سنة أمضاها في مقعد المعارضة، وصل لوران غباغبو إلى السلطة، مع انتخابه رئيساً يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2000. ولقد جاء فوزه في ظل ظروف «كارثية» باعترافه؛ إذ ملأت الاحتجاجات شوارع أبيدجان، في أعقاب فوزه على الجنرال روبير غيي، الذي قاد انقلاباً عسكرياً في ديسمبر (كانون الأول) 1999، ورفض أن يعترف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية.

وهكذا، دخلت كوت ديفوار في مرحلة من العنف السياسي عقبت تلك الانتخابات، التي استُبعد منها الرئيس الحالي (الذي كان وقتها رئيساً للوزراء) الحسن واتارا، كما استبعد الرئيس الأسبق للبلاد هنري كونان بيدييه، الذي أطاح به الجنرال غيي.

استمرّت أحداث العنف، وفي سبتمبر عام 2002، شهدت كوت ديفوار حركة «تمرد» للإطاحة بغباغبو، لكنها فشلت في تحقيق هدفها، وإن استطاعت فرض سيطرتها على شمال البلاد.

يومذاك، كان غباغبو يرى أن «واتارا يقف خلف ذلك التمرد». وفي مواجهة المتمردين، اعتمد غباغبو على جماعة «الوطنيين الشباب»، الذين أشعلوا النار في الشوارع.

ومن ثم، بعد انتخابه رئيساً، قال غباغبو إنه سيكسر تقليد «عبادة الحاكم»، مشدداً على أنه «لم يعد من الضروري وضع صور الرئيس في الأماكن العامة والمكاتب». وأضاف أن «وسائل الإعلام الوطنية لن تضطر بعد الآن إلى ذكر الرئيس في جميع البرامج الإخبارية».

غير أن العكس حدث، ففي أثناء وجود غباغبو في السلطة، سلطت معظم نشرات الأخبار الضوء على الأنشطة اليومية التي يمارسها الرئيس.

من جهة ثانية، خلال تاريخه السياسي اتخذ غباغبو موقفاً قومياً معادياً للأجانب، حتى اتُّهم بـ«ركوب موجة كراهية الأجانب» التي اجتاحت البلاد إبان حكم الرئيس الأسبق كونان بيدي، الذي أعلى من مفهوم «الإيفواريين»، لمنع واتارا - وهو مسلم له روابط عائلية وإثنية مع بوركينا فاسو المجاورة - من الترشح للانتخابات الرئاسية في التسعينات من القرن الماضي.

الحرب الأهلية الثانية

وعندما اندلعت أحداث العنف في كوت ديفوار، أو ما يعرف بـ«الحرب الأهلية الثانية»، عام 2002، اتُّهم أنصار غباغبو بتنفيذ هجمات معادية للأجانب في المناطق التي يسيطرون عليها، وكذلك ضد أولئك الذين يتحدرون من الشمال ذي الغالبية المسلمة، والمهاجرين من الدول الأفريقية المجاورة والغربيين.

في حينه قسم التمرد كوت ديفوار إلى نصفين مع سيطرة المتمردين على شمال البلاد، مع العلم أن قوات غباغبو لم تتمكن قط من استعادة السيطرة على الشمال. وهكذا، عام 2007، وقّع غباغبو اتفاق سلام مع المتمردين.

من الرئاسة إلى السجن

وكما رفض الجنرال غيي من قبل الاعتراف بخسارته الانتخابات أمام غباغبو، فعل الأخير الشيء نفسه، عندما رفض الاعتراف بفوز الحسن واتارا في الانتخابات الرئاسية عام 2010. غير أن واتارا، الذي كان يُنظر إليه دولياً على أنه الفائز في الانتخابات التي أجريت قبل خمسة أشهر، استطاع بدعم حلفائه المتمردين وبمساندة فرنسا، إجبار غباغبو في أبريل (نيسان) 2011، على التنحي عن منصبه، بل أُلقى القبض عليه في مخبأ بالقصر الرئاسي عبر قوات الأمم المتحدة والقوات المدعومة من فرنسا.

أدى الصراع على السلطة في ذلك الوقت إلى مقتل نحو 3000 شخص. وللعلم، كان غباغبو يزعم أن «النزاع حول رئاسة البلاد هو في الأصل صراع من أجل السيادة الإيفوارية والأفريقية». ومن ثم اتهم فرنسا والولايات المتحدة بالوقوف ضده. وكان يقول إن «كوت ديفوار أمة باركها الله، وإن المستعمرين الجدد يريدون السيطرة عليها بسبب حقول الكاكاو والنفط».

في أي حال، سجن غباغبو في كورهوغو (شمال كوت ديفوار) أولاً، ثم نقل إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا، حيث أصبح أول رئيس دولة سابق يحاكم هناك.

وخلال المحاكمة سعى إلى التأكيد على «نزاهته»، دافعاً بـ«مؤامرة» أدت إلى اعتقاله من قصر الرئاسة، تقف خلفها فرنسا، الدولة التي استعمرت كوت ديفوار سنوات حتى استقلالها عام 1960.

لكن حجة المؤامرة لم تفلح، وأيّد الاتحاد الأفريقي النتيجة التي توصلت إليها الأمم المتحدة بأن غباغبو خسر الانتخابات وعليه أن يتنحى.

وعام 2013، في أول تصريحات له عقب تنحيه عن السلطة، ادعى غباغبو، أمام المحكمة الجنائية الدولية أنه كان دائماً «يناضل من أجل الديمقراطية». ووفق الـ«بي بي سي» تكلم الرئيس السابق لنحو 15 دقيقة، وبدا «سياسياً واثقاً من نفسه، وليس شخصاً يواجه تهماً خطيرة». وكان أنصاره يتابعونه وينظرون إليه بإعجاب شديد خلال حديثه مع القضاة.

ومما قاله غباغبو للمحكمة إنه لم يكن الشخص الأكثر ثراء أو الأكثر موهبة، وإنه دخل عالم السياسة «لتكريس حياته للدفاع عن الديمقراطية».

بعد ذلك، عانى غباغبو من اضطرابات ما بعد الصدمة في السجن، لكن القضاة رفضوا في عام 2015 طلبه بالحصول على إفراج مؤقت لأسباب صحية. وظل في السجن إلى أن برأته المحكمة عام 2019. وهنا نشير إلى زوجة غباغبو، سيمون، سياسية أيضاً، ورآها كثيرون القوة المتشددة الحقيقية وراء زوجها، والسبب المباشر وراء منع زوجها من التخلي عن منصبه.

وحقاً، كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق سيمون أيضاً، لكن حكومة كوت ديفوار رفضت تنفيذها، مكتفية بإصدار حكم محلي عليها بالسجن 20 سنة؛ لدورها في أعمال العنف التي أعقبت انتخابات 2010.

ولاحقاً، في أغسطس (آب) 2018، أصدر الرئيس واتارا عفواً رئاسياً عن سيمون، في خطوة قيل إنها استهدفت «تعزيز المصالحة».

عودة لملعب السياسة

إبان فترة السجن خسر لوران غباغبو قيادة حزب «الجبهة الشعبية الإيفوارية» الذي أسسه سابقاً أمام حليف سابق له، لكنه «ظل يحتفظ بقاعدة كبيرة من المؤيدين». وحسب معلقين، «يجسد غباغبو القطيعة مع الإرث الاستعماري الفرنسي»، ما يجعله «يحظى بشعبية لدى الأجيال الشابة». كذلك ارتبطت شعبيته بمواقفه الصاخبة وشخصيته الخطابية.

وهذه الشعبية بدت واضحة في الاستقبال الحافل الذي حظي به عقب عودته إلى البلاد عام 2021، بعد غياب استمرّ عشر سنوات، لا سيما في قريته ماما، وفي أحياء الطبقة العاملة في أبيدجان، كبرى مدن البلاد وقاعدتها الكبرى، بما فيها معقله يوبوغون.

وإثر العودة دشن السياسي المخضرم، فور عودته إلى كوت ديفوار، «حزب الشعوب الأفريقية - ساحل العاج». وأبدى رغبته في المشاركة في الحياة السياسية، ما عُدّ إشارة إلى أنه «لا يرغب في الانتقام»، بل بالعكس يسعى لـ«المصالحة الوطنية» في بلد لا يزال يمزقه العنف السياسي العرقي الذي صبغ تاريخه في السنوات الـ20 الماضية.

على المستوى الشخصي عرف غباغبو بأنه «سريع الغضب»، ولا سيما ضد من كان يصفهم بـ«الصحافيين المتغطرسين»، لكنه في المقابل اشتهر بابتسامة عريضة وضحكة سهلة عفوية، وقدرة على التواصل الفطريّ مع الناس، كما عرف بمصافحاته القوية. ومن جوانب شخصيته أنه يعشق الموسيقى والطعام الجيد. ما لقب في قريته بـ«أسد أفريقيا»، و«وودي ماما»، وهي عبارة تعني «رجلاً حقيقياً» بلغة مجموعته العرقية «البيتي».

اليوم، يعود غباغبو، الذي خاض من قبل حملته الانتخابية تحت شعار «إما ننتصر وإما ننتصر»، إلى الساحة السياسية لاعباً عنيداً، يطرح نفسه «مدافعاً عن المظلومين»، و«اشتراكياً مسالماً»، لكن خصومه يتهمونه بأن له «صلات بجماعات عنف مسلح»، وأنه زعيم كان مستعداً لتدمير بلاده من خلال رفض قبول الهزيمة في صناديق الاقتراع.


مقالات ذات صلة

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

حصاد الأسبوع مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد

حصاد الأسبوع الحبيب الصيد (الشرق الاوسط)

معظم رؤساء الحكومات التونسية ولدوا في منطقة «الساحل»

يتحدّر أغلب رؤساء الحكومات في تونس منذ أواسط خمسينات القرن الماضي من منطقة «الساحل» (وسط الشاطئ الشرقي لتونس)، موطن الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».