نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

هل يصرّ لويس مونتينغرو على إبقاء متطرفي «شيغا» خارج ائتلافه؟

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
TT

نكسة اليسار في البرتغال تعيد ترتيب أولويات اليمين المعتدل الأوروبي

لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)
لويس مونتينغرو ... وسط انصاره بعد الفوز (آ ب)

القراءة الأولى لنتائج الانتخابات البرتغالية، و«مفصليتها» في المشهد السياسي البرتغالي، ضرورية، ولا سيما مع إمكانية أن تتكرر عناوينها في الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل. وفي مقدم الاعتبارات أن الأخطاء التي ارتكبتها الحكومة على الصعيد الداخلي، والظروف الخارجية - من تضخّم وارتفاع في أسعار الفائدة وحروب - كانت وراء تراجع الاشتراكيين الذين، على الرغم من ذلك، تعادلوا تقريباً مع مُنافسهم الرئيس.

الفائز في هذه الانتخابات كان لويس مونتينغرو، زعيم «التحالف الديمقراطي» الذي يضمّ مجموعة من الأحزاب اليمينية المحافظة والوسطية، إلا أن فوزه بفارق ضئيل ينذر بوضع سياسي مضطرب وضبابي، ذلك أن حصوله على الغالبية المطلقة في البرلمان مشروط بائتلاف مع الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي أسّسه آندريه فنتورا عام 2019، والذي كان المنتصر الأكبر في هذه الانتخابات.

ومع أن كثيرين في «التحالف الديمقراطي» يؤيدون مثل هذا الائتلاف؛ رغبة بإعطاء الحكومة المقبلة «قاعدة برلمانية» تؤمّن لها الاستقرار والاستدامة حتى نهاية ولايتها - وأيضاً لأسباب عقائدية - أوضح مونتينغرو، ليلة صدور النتائج الأولى للانتخابات، أنه سيبقى على الوعد الذي قطعه في الحملة الانتخابية برفض الائتلاف مع المتطرفين. لكن مونتينغرو يعرف أيضاً أن مثل هذه الوعود التي قطعتها قبله أحزاب أوروبية أخرى سقطت أمام التعقيدات التي كانت تعترض تشكيل الحكومات. وبالتالي، فمهمته ستكون في غاية الصعوبة من غير الاعتماد على دعم اليمين المتطرف.

آنا مينديس (موقع الحكومة البرتغالية)

تقدم «شيغا» الكبيرالنصر الواضح الذي حصده حزب «شيغا»، يوم الأحد الماضي، بحصوله على ما يزيد عن مليون صوت، قد لا يعني بالضرورة أن 18 في المائة من البرتغاليين عنصريون ويكرهون الأجانب، بل إن ثمة نسبة عالية من الناخبين ناقمة على الأحزاب السياسية التقليدية التي تتعاقب على الحكم منذ عودة الديمقراطية.

من ناحية ثانية، ليس واضحاً حتى الآن ما سيكون عليه موقف فنتورا من الحكومة الجديدة، خصوصاً أنه سارع بعد ظهور النتائج إلى شنّ هجوم عنيف على رئيس الجمهورية مارسيلو دي سوسا، والصحافة ومؤسسات استطلاع الرأي، مشدّداً على حق حزبه بالمشاركة في الحكومة.

أما الزعيم الاشتراكي بيدرو نونو سانتوس فقد اعترف بالهزيمة، عندما اتضحت نتيجة التعادل بين حزبه وبين «التحالف الديمقراطي»، مع الإشارة إلى أن نتائج المقاعد الأربعة المخصصة للمهاجرين لن تظهر قبل بضعة أسابيع، ومن غير المستبعد أن تحمل مفاجأة تضع الحزب الاشتراكي في الطليعة. ولكن، في أي حال، قال سانتوس إن حزبه سينتقل إلى المعارضة، وأنه لن يقف حجر عثرة في وجه تشكيل «التحالف الديمقراطي» حكومةً أقلية دون «شيغا».

الحصيلة بالأرقام...في حسابات الأرقام نال «التحالف الديمقراطي» 79 مقعداً، مقابل 77 للحزب الاشتراكي، ما يترك المشهد البرلماني البرتغالي موزّعاً على ثمانية أحزاب (ثلاثة يمينية وخمسة يسارية)، مع ترجيح واضح لكفّة القوى اليمينية. أما حزب «شيغا» فقد ارتفع عدد نوابه من 12 إلى 48، وأصبح ممثلاً في جميع المحافظات، باستثناء واحدة في الشمال، لا، بل حلّ هذا الحزب المتطرف أولاً في مقاطعة «الغربي» المعقل التاريخي للحزب الاشتراكي، واليسار عموماً. لذا عدّ فنتورا أن نتائج هذه الانتخابات «كرّست نهاية ثنائية الأحزاب في البرتغال»، وأظهرت رغبة واضحة لدى المواطنين في تشكيل ائتلاف حكومي بين التحالف «الديمقراطي» وحزبه، كما تعهّد بـ«تحرير» البلاد من اليسار المتطرف الذي قال عنه إنه «اختطف المؤسسات الديمقراطية».

بهذه النتيجة يغدو «شيغا» - الذي خاض هذه الانتخابات تحت شعار «تنظيف البرتغال» - القوة الثالثة في البرلمان البرتغالي، علماً بأنه أُسس منذ خمس سنوات فقط، ويكاد تمثيله في الحكومات المحلية والبلديات يكون معدوماً.

في الواقع، بينما أظهرت هذه النتائج أن «شيغا» من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأسرع صعوداً في أوروبا، وتجمعه أوجه شبه كثيرة بحزب «إخوان إيطاليا» - الذي رفع نسبة أصواته من 8 في المائة إلى 29 في المائة في الانتخابات الأخيرة التي حملت نتائجها مؤسِّسته جورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة، توقّف المراقبون عند تزامن صعود «شيغا» مع الاحتفالات بـ«اليوبيل الذهبي» لـ«ثورة القرنفل» التي أطاحت الديكتاتورية البرتغالية في العام 1974.

في هذا السياق، دعت وزيرة الداخلية الاشتراكية آنا مينديس إلى حشد الجهود من مقاعد المعارضة للحكومة الجديدة؛ «لمنع سقوط الديمقراطية بيد اليمين المتطرف». أما رئيس الوزراء السابق أنطونيو كوستا، الذي توقّع، إبّان الحملة الانتخابية، ألا يحقق اليمين المتطرف النتائج الكبيرة التي كانت تتوقعها استطلاعات الرأي، فقد دعا، مطلع هذا الأسبوع، إلى تحليل الأسباب التي أدّت إلى حصول «شيغا» على هذه النتيجة. وأضاف: «يجب أن نحاول معرفة نسبة الأسباب البنيوية، وتلك التي أفرزتها ظروف مرحلية استثنائية ناجمة عن التضخم وارتفاع كبير في أسعار الفائدة؛ أي أن نتبيّن مدى التحوّل العميق في المجتمع البرتغالي من الأصوات المعبّرة عن الاحتجاج والاستياء العميق».

أيضاً، داخل المعسكر الاشتراكي، قالت آنا غوميش، مسؤولة التنسيق بالحزب الاشتراكي، إن «المسؤولية الرئيسة عن صعود اليمين المتطرف تقع على عاتق الحزب الاشتراكي الذي أخفق في معالجة المشاكل الكبرى التي تعاني منها البلاد، خصوصاً في مقاطعة (الغربي) التي كان دائماً معقل الأحزاب اليسارية». ثم تساءلت: «كيف نفسّر فشل الحكومة الاشتراكية في تأمين المياه لمقاطعات الجنوب، طيلة هذه السنوات، علماً بأن ذلك سيؤدي إلى قطعها بشكل جذري لأغراض الزراعة والسياحة اللذين يشكّلان عماد الاقتصاد في هذه المناطق...».

ووصفت غوميش، الزعيم اليميني المتطرف آندريه فنتورا بأنه «انتهازي يدافع عن الشيء وضده بهدف استقطاب الدعم». وهذا رأي يشارك غوميش فيه نونو ألفونسو، نائب الرئيس السابق لحزب «شيغا»، الذي استقال من الحزب عام 2022 على خلاف مع فنتورا، إذ يقول عنه: «ليس يمينياً ولا يسارياً، بل يتحرك بدافع السلطة فقط».

إعلام ومناصرون ... من الانتخابات البرتغالية الأخيرة (رويترز)

تسمية مونتينغرو أمام المشاورات الرئاسيةبعد صدور النتائج النهائية بدأ رئيس الجمهورية البرتغالي مارسيلو دي سوسا مشاوراته مع الأحزاب السياسية؛ تمهيداً لتكليف لويس مونتينغرو بتشكيل الحكومة العتيدة، وهذه مهمة أقرّ زعيم «التحالف الديمقراطي» بأنها ستكون تحدياً كبيراً يتطلب منه قدرات حوارية وإرادة جامعة.

يُذكر أن مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز، للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري، إلى جانب كل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وحزب الوسط الديمقراطي، والحزب الشعبي، والحزب الملكي. غير أن مونتينغرو لم يفصح حتى الآن، في تصريحاته، عما إذا كان سيدعو للمشاركة في الحكومة حزب «المبادرة الليبرالية»، المعروف بأفكاره الليبرالية المتطرفة في الاقتصاد والسياسات العامة، والذي تربط زعيمَه روي روشا علاقةٌ متينة وصداقة بزعيم «التحالف الديمقراطي»، وكان قد حصل على ثمانية مقاعد في هذه الانتخابات.

على صعيد آخر، على مسافة ثلاثة أشهر من الانتخابات الأوروبية، مطلع يونيو (حزيران) المقبل، تحمل نتائج الانتخابات البرتغالية رمزية عالية، في ضوء المخاوف المتزايدة من صعود اليمين المتطرف على الصعيد الأوروبي. وبالأخص، ما قد يعنيه ذلك للتحالفات التي ستعقدها الأحزاب والقوى المحافظة والديمقراطية المسيحية لحسم المعارك المقبلة في المؤسسات الأوروبية، ورسم خريطة الطريق أمام الاتحاد في السنوات المقبلة. ولا شك في أن المشهد الذي ستتمخّض عنه تلك الانتخابات سيحدد مصير «التفاهم العريض» الذي ساد بين الكتلتين الشعبية والاشتراكية في البرلمان الأوروبي منذ خمسة عقود، والذي يترنّح على شفا الانهيار منذ سنوات.

إن النتائج التي أسفرت عنها انتخابات البرتغال تضع المحافظين الأوروبيين أمام معضلة العلاقات مع اليمين المتطرف ونسج التحالفات معه. وهذه مسألة تثير بلبلة كبيرة في صفوف القوى اليمينية المعتدلة حول تحديد القوى اليمينية المتطرفة الصالحة للتحالف معها، وتلك التي يجب إبقاؤها داخل دائرة الحجْر الصحي لرفضها المبادئ والقيم الأساسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.

وضمن هذا الإطار، نشير إلى أن الحزب الشعبي الأوروبي كان قد وافق، الأسبوع الماضي، خلال المؤتمر الذي عقده في العاصمة الرومانية بوخارست، على «خريطة طريق» جديدة يكاد مضمونها يتماهى مع مواقف اليمين المتطرف من الهجرة وعدد من مطالب تعديل طرائق العمل، واتخاذ القرار في المؤسسات الأوروبية. ومع أن الاستطلاعات ما زالت حتى الآن تتوقع أن يبقى الحزب الشعبي في صدارة المشهد الأوروبي المحافظ، فإن الأحزاب الرئيسة اليمينية المتطرفة تُواصل صعودها السريع منتقلة من مفاجأة إلى أخرى، كما دلّت الانتخابات البرتغالية التي أسقطت من «المجلس الأوروبي» على صوت الاشتراكي أنطونيو كوستا.

بالتوازي، فإن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الطامحة لتجديد ولايتها بعد الانتخابات الأوروبية، فتحت نيران حملتها الانتخابية على من سمّتهم «أصدقاء بوتين» - أي الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة - مع أنها تدرك جيداً أن شعبية هذه الأحزاب في ارتفاع مطّرد لنسبة تتراوح بين 10 في المائة و40 في المائة.

ولكن، بينما اتهمت فون دير لاين (التي تنتمي إلى الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا) هذه الأحزاب بأنها «عازمة على تدمير أوروبا»، فإن زعيم الحزب الشعبي الأوروبي مانفريد فيبر (وهو ألماني محافظ أيضاً) لا يتردد في الدعوة إلى عقد تحالفات مع الأحزاب المتطرفة، بما في ذلك لتشكيل حكومات.

وفي أول تعليق لفيبر على نتائج الانتخابات البرتغالية، قال السياسي الألماني المحافظ إنه يفضّل حكومة يشكّلها «التحالف الديمقراطي» وحده، لكنه لم يعترض على فكرة الائتلاف الحكومي مع «شيغا»، بحجة «تأمين الاستقرار ودوام الحكومة حتـى نهاية الولاية الاشتراعية». وينطلق فيبر في موقفه هذا من «المختبر» الإيطالي والحكومة التي ترأسها ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا»، الذي ينتمي إلى أسرة «الأوروبيين الإصلاحيين والمحافظين» التي تضمّ عدداً من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي يحاول الحزب الشعبي الأوروبي استمالتها للانضمام إلى الكتلة الشعبية.

مونتينغرو كان قد لجأ إلى استعادة صيغة «التحالف الديمقراطي» التاريخية التي سمحت لحزبه بالفوز للمرة الأولى في الانتخابات بعد نهاية الحكم الديكتاتوري


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر