فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

بمواجهة ضغوط المزاعم والتهم الإسرائيلية

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين
TT

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

فيليب لازاريني... مفوّض «الأونروا» الشخصية الأممية المؤتمنة على أرواح ملايين الفلسطينيين

«من واجبنا أن نمنع استخدام المعونة الإنسانية كسلاح في الحرب»... «لا بد من وقف المذبحة؛ فقد أزف وقف إطلاق النار في غزّة»... «يجب أن تسود الإنسانية في غزّة». هذه مقتطفات من بعض التصريحات التي أدلى بها فيليب لازاريني، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال الأسابيع الأخيرة المنصرمة. وتوّج لازاريني مواقفه مطلع هذا الأسبوع بتوجيه اتهام صريح ومباشر لإسرائيل بأنها تشنّ حملة للقضاء على هذه الوكالة التي أنشأتها الأمم المتحدة في عام 1949 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على النزوح من أراضيهم في أعقاب «النكبة»، والتي تحوّلت على مرّ السنين الجهة الوديعة الرئيسية لمنفى فلسطيني الشتات الذين يحلمون بالعودة يوماً إلى ديارهم، أو إلى ما تبقّى منها.

التصريحات التي صدرت أخيراً عن فيليب لازاريني، مدير «الأونروا»، الذي يتمتّع بصدقيّة إنسانية عالية على الصعيد الدولي ويحظى بتقدير كبير بين زملائه في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، أثارت استياء السلطات الإسرائيلية التي تقود حملة ممنهجة ضد المنظمة الأممية وصلت حد اتهامها بأنها مخترقة من عشرات الموظفين الذين تقول إنهم ينتمون إلى منظمة «حماس».

في غضون ذلك، وبعدما علّقت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية مساهماتها لتمويل «الأونروا» في انتظار نتائج التحقيق المستقل الذي باشرت به اللجنة المستقلة التي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة وكلّف رئاستها وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا لتقييم حيادية الوكالة، يردد لازاريني أمام زملائه في مجالس خاصة: «إن العالم لم يشهد بعد كل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، والتي وثّقت الوكالة العديد منها».

الخلفية والمسيرة

منذ أن تخرّج فيليب لازاريني في جامعتي لوزان ونيوشاتيل السويسريتين، حيث درس الاقتصاد وإدارة الأعمال، كرّس الرجل نشاطه للعمل الإنساني. فالتحق خلال عام 1989 بـ«اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، التي يعتبرها السويسريون المفخرة الدولية لنظامهم ورمزاً لحياده، وكان مندوباً لها في بلدان عدة، منها جنوب السودان، ولبنان، والأردن وغزّة. ثم أشرف على إدارة أنشطة «اللجنة» في كل من البوسنة وأنغولا ورواندا، ثم انتقل أواخر تسعينات القرن الفائت إلى القطاع المصرفي الخاص في سويسرا، حيث شغل منصب المسؤول عن ترسيخ قواعد المسؤولية الاجتماعية والاستثمار الأخلاقي.

بعد ذلك، في عام 2003 انضمّ لازاريني إلى «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانية» (أوتشا) كمنسّق للعمليات في العراق، ثم انتقل إلى أنغولا والصومال، ومنها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعام 2010 أصبح مديراً لقسم التنسيق والاستجابة في «المكتب»، ثم مساعداً للأمين العام ومنسقاً خاصاً للشؤون الإنسانية في «برنامج الأمم المتحدة للتنمية». ومن ثم، في عام 2005 عيّنه الأمين العام منسّقاً خاصاً لأنشطة المنظمة الإنسانية في لبنان، ومشرفاً على الجوانب الإنسانية لـ«برنامج الأمم المتحدة للتنمية» حتى عام 2020، عندما قرّر الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش تعيينه مفوّضاً عاماً لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا) في الشرق الأوسط.

المتاعب مع إسرائيل

بدأت متاعب لازاريني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلية عام 2023 عندما انتقد الحصار الذي فرضته على قطاع غزة. وكان في الواقع أول من وصف القطاع بأنه «مقبرة لسكّان يعيشون رهائن الحرب والحصار والحرمان». وقال: «ستعرف الأجيال الآتية أننا كنا شهوداً على تطور هذه المأساة الإنسانية على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية، ولن يكون بوسعنا أن نقول: لم نكن نعرف. والتاريخ سيسألنا لماذا لم يمتلك العالم الشجاعة اللازمة للتصرّف بحزم من أجل وضع حد لهذا الجحيم على الأرض».

وفي مطلع العام التالي أكّد أمام وسائل الإعلام أن إسرائيل منعت دخول المساعدات الغذائية إلى اكثر من مليون شخص في القطاع.

مواجهة التهم الإسرائيلية

في أواخر يناير (كانون الثاني) الفائت ردّ فيليب لازاريني على الاتهامات التي وجّهتها السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة، بأن 12 من موظفيها شاركوا في عملية «طوفان الأقصى»، بقوله: «قدّمت السلطات الإسرائيلية إلى الوكالة معلومات حول المشاركة المزعومة لعدد من موظفيها في الاعتداءات البشعة ضد إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت»، ليضيف: «ومن أجل حماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية، قررت إنهاء عقود أولئك الموظفين والمباشرة بتحقيق سريع لمعرفة الحقائق». وأكد أن أي موظف يكون قد شارك بشكل أو بآخر في أعمال إرهابية سيتعرّض للملاحقة الجنائية.

بعدها، في أواسط فبراير (شباط) الماضي، أعلن لازاريني أنه لا ينوي تقديم استقالته كما كان يطالب عدد من أعضاء حكومة نتنياهو، مؤكداً أن إسرائيل «لم تقدّم بعد أي أدلّة تدعم الاتهامات الخطيرة التي سبق وجهتها إلى بعض موظفي الوكالة». وكانت السلطات الإسرائيلية، ضمن حملتها المركزة على لازاريني قد ادعت أن المنظمة الحقوقية التي أسستها وتديرها زوجته البريطانية أنطونيا مولفي قد وضعت تقارير منحازة ضد إسرائيل، وطالبت بإبعادها عن التحقيقات الجارية.

ومع احتدام الحملة الإسرائيلية على «الأونروا»، وإطلاقها سيل الاتهامات ضدها، صرّح لازاريني يوم الاثنين الفائت أمام جلسة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً: «تواجه الوكالة حملة ممنهجة ومقصودة لعرقلة عملياتها بهدف القضاء عليها نهائياً». وتابع في تصريحاته - التي أثارت غضب البعثة الإسرائيلية التي حاولت مقاطعته خلال الجلسة -: «تقوم هذه الحملة على إغراق الجهات المانحة بمعلومات مُضلّلة مُصمّمة لزعزعة الثقة بالوكالة وتشويه سمعتها».

وفي حديثه لاحقاً أمام الصحافيين، شدّد لازاريني على أن الاتهامات ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»، مؤكداً أن «هذه الاتهامات التي نشرتها السلطات الإسرائيلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة لم تقدّمها بصورة رسمية إلى الأمم المتحدة».

تحقيقات داخلية

جدير بالذكر، أنه قبل بدء اللجنة المستقلة تحقيقاتها أواسط الشهر الفائت، كانت «الأونروا» قد باشرت تحقيقاتها الداخلية في المزاعم الإسرائيلية. وتضمّ ثلاث منظمات إسكندينافية متخصصة في تقييم الحياد، ومن المنتظر أن تقدّم تقريرها النهائي أواخر أبريل (نيسان) المقبل.

وفي هذا الشأن، قال لازاريني إن الوكالة «تواجه ظرفاً مفصلياً أمام عجزها عن استيعاب الصدمة المالية الناجمة عن تعليق التمويل في خضمّ الحرب بعدما قرّرت 16 دولة وقف ضخ المساعدات بقيمة 450 مليون دولار؛ ما يهدد بقطع المساعدات الأساسية ليس فقط لسكان القطاع، بل أيضاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن وسوريا».

هذا، ومنذ وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل، دأبت السلطات الإسرائيلية على توجيه الاتهامات للوكالة، مدّعية أن «حماس» تستخدم مدارسها للأنشطة الإرهابي، وتخزين السلاح وحفر الأنفاق تحتها، وأنها تروّج للأفكار المناهضة للسامية في مناهجها التعليمية.

وبعد عملية «طوفان الأقصى»، ازدادت حدة هذه الاتهامات حتى بلغت مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بتفكيكها وإنهاء خدماتها، زاعماً أنه حتى قبل 7 أكتوبر... «كانت (الأونروا) دائماً جزءاً من المشكلة ولم تكن أبداً جزءاً من الحل». وفي آخر التصريحات التي صدرت عن مكتب نتنياهو عن الوكالة، جاء تهديده «أن (الأونروا) لن تواصل بعد الآن أنشطتها في غزة كما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر الفائت، وأن دورها قد انتهى... ولا بد من إبدالها فوراً وقطع تمويلها وتفكيكها».

ولكن، في حين علّقت بعض الدول تمويلها للوكالة، قررت دول أخرى، مثل المملكة العربية السعودية، وقطر، وتايلاند، والمكسيك، وماليزيا، وإندونيسيا وإسبانيا، زيادة حجم مساهماتها.

أين محاسبة إسرائيل؟

كذلك، في ردّه على المزاعم والاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة، تساءل رياض منصور، المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة: «ماذا عن محاسبة إسرائيل على قتلها 158 موظفاً كانوا يعملون في (الأونروا)، ومن بينهم أمهات وأمهات، قُتلوا مع أفراد عائلاتهم؟ وأين هي محاسبتها على تدمير 155 من منشآت الوكالة؟ والأخطر من كل ذلك، عن قتلها وجرحها مئات المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا يسعون إلى اللجوء تحت شعارات الأمم المتحدة لكنهم حُرموا من حمايتها؟». وللعلم، كان 400 فلسطيني قد قُتلوا منذ بداية الحرب بينما كانوا يحتمون في مبانٍ تابعة لوكالة الدولية.

ومنذ أيام شكا لازاريني من أن السلطات الإسرائيلية تتخذ إجراءات عقابية ضد الوكالة وموظفيها تتعارض مع الاتفاقات الموقّعة من الأمم المتحدة. وأردف أنه يطّلع على هذه الإجراءات عن طريق وسائل الإعلام؛ لأن السلطات الإسرائيلية لا تبلّغه رسمياً بها. وكان وزير المال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش - الذي ينتمي إلى تكتل اليمين المتطرف - قد غرّد أخيراً على حسابه: «إن إسرائيل ستوقف تطبيق الإعفاءات الضريبية عن الذين يتعاونون مع الإرهاب»، بعدما كان قد أعطى تعليماته بإلغاء المزايا التي يتمتع بها عادة موظفو الأمم المتحدة بموجب الاتفاقات الدولية، وكان أحد المصارف الإسرائيلية يلغي حساب الوكالة من غير إبلاغ المفوض العام بذلك.

تجاهل كامل لموقعه

من جهة ثانية، كان فيليب لازاريني قد أوضح أمام الجمعية العامة أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تسلّمه التقرير الذي وضعته الاستخبارات الإسرائيلية ويتضمن الاتهامات الموجهة إلى الوكالة وموظفيها، والذي حصلت عليه بعض وسائل الإعلام الأميركية، ويزعم «أن 10 في المائة من موظفي الوكالة يقيمون علاقات ما مع منظمتي (حماس) و(الجهاد الإسلامي)...».

ثم أنه، بعد لقائه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عقب اتخاذه القرار بإنهاء عقود اثني عشر موظفاً في الوكالة، اعترف لازاريني بأنه تصرّف «بعكس ما تقتضيه المحاكمة العادلة» التي أساسها أن المتهم بريء إلى أن تثبت تهمته. وتابع أنه إنما اتخذ قراره انطلاقاً من «المخاطر الكبيرة على سمعة الوكالة في ضوء الاتهامات، ومن أجل الحفاظ على قدرتها لمواصلة أنشطتها وتقديم الخدمات الإنسانية الحيوية في مثل هذه الظروف على أبواب مجاعة محدقة بسبب من عرقلة دخول المساعدات الغذائية».

في المقابل، في خطابه السنوي الأخير أمام الكنيست، واصل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الزعم أن «الأونروا» «مخترقة كلّياً» من «حماس»، وأنه «لا دور لها على الإطلاق في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب». شدّد لازاريني في حديث إلى الصحافيين على أن الاتهامات الإسرائيلية ضد الوكالة «تضمّنت ادّعاءات وتضليلاً وتشويهاً للحقائق»



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.